خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ
٦٧
قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ
٦٨
قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّاظِرِينَ
٦٩
قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ
٧٠
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي ٱلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ ٱلآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ
٧١
-البقرة

التفسير الكبير

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً }؛ هذه الآيةُ نزلت بعد قولهِ تعالى: { { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا } [البقرة: 72] وإنْ كانت مُقَدَّمَةً في التلاوةِ؛ لأن قتلَ النفسِ كان قبلَ ذبح البقرةِ.
وَالْقِصَّةُ فيه مَا رُويَ: أنَّ بَنِي إسْرَائِيْلَ قِيْلَ لَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ: أَيَّمَا قَتِيْلٍ وُجِدَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ فَلْيُقَسْ إلَى أيِّهمَا أقْرَبُ؛ ثُمَّ لِيُؤْخَذْ لأَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ وَلْيَحْلِفْ خَمْسُونَ شَيْخاً مِنْ شُيُوخِهِمْ باللهِ مَا قَتَلُوهُ وَلاَ عَلِمُواْ لَهُ قَاتِلاً. فَقَتَلَ رَجُلاَنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيْلَ ابْنَ عَمٍّ لَهُمَا اسْمُهُ عَامِيْلُ لِيَرِثَاهُ؛ وَكَانَتْ لَهُمَا ابْنَةُ عَمٍّ حَسَنَةٍ، فَخَافَا أنْ يَنْكِحَهَا؛ فَقَتَلاَهُ لِذَلِكَ وَحَمَلاَهُ إلَى جَانِب قَرْيَةٍ فَأُخِذَ أهْلُ تِلْكَ الْقَرْيَةِ بهِ فَجَاءُواْ إلَى مُوسَى عليه السلام، وَقَالُواْ: أُدْعُ اللهَ تَعَالَى أنْ يُطْلِعَنَا عَلَى قَاتِلِهِ، فَأَوْحَى اللهُ إلَيْهِ: امُرْهُمْ أنْ يَذْبَحُواْ بَقَرَةً، فَأَمَرَهُمْ بذَلِكَ لِيُضْرَبَ الْمَقْتُولُ ببَعْضِ تِلْكَ الْبَقَرَةِ فَيَحْيَى فَيُخْبرَهُمْ بمَنْ قَتَلَهُ. فَـ: { قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً }؛ أي تستهزئُ بنا يا موسَى حين سألناكَ عن القتلِ وتأمرُنا بذبحِ بقرةٍ!! وإنَّما قالوا ذلك لتباعُدِ الأمرين في الظاهرِ؛ ولَم يَدْرُوا ما الحكمةُ فيه.
وقرأ ابن محيص: (أيَتَّخِذُنَا) بالياء يعنون اللهَ عَزَّ وَجَلَّ. ولا يستبعدُ هذا من جَهْلِهم؛ لأنَّهم هم الذين قالوا:
{ { ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [الأعراف: 138]. وفي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: { هُزُواً } ثلاثُ لغات: (هُزْواً) بالتخفيف والهمزِ ومثله كُفْواً؛ وهي قراءة الأعمشِ وحمزةَ وخلف. و(هُزُؤاًّ) و(كُفُؤاًّ) مهموزان مثقَّلان، وهي قراءةُ أبي عمرٍو وأهل الحجاز والشام والكسائي. وهُزُوّاً وكُفُوّاً مثقَّلان بغيرِ همز هي قراءةُ حفصٍ عن عاصم، وكلها لغاتٌ صحيحة فصيحةٌ معناها الاستهزاءُ.
فَـ: { قَالَ }؛ لَهم موسَى: { أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ }؛ أي أمْتَنِعُ باللهِ أنْ أكونَ مِن المستهزئين بالمؤمنين.
فلمَّا عَلِمَ القومُ أن ذبحَ البقرةِ عَزْمٌ من اللهِ، { قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ }، أي مَا هذه البقرةُ؛ كبيرةٌ أم صغيرةٌ؟ ورُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ؛ لَوْ أنَّهُمْ عَمَدُواْ إلَى أدْنَى بَقَرَةٍ فَذَبَحُوهَا لأَجْزَتْ، وَلَكِنْ شَدَّدُواْ عَلَى أنْفُسِهِمْ بالْمَسْأَلَةِ فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ" . إنَّما كان تشديدُهم تقديراً مِن الله عَزَّ وَجَلَّ وحكمةً منهُ.
وكان السببُ فيه: أن رجُلاً من بني إسرائيلَ كان بَارّاً بأبويهِ، وبلغَ من برِّه أنَّ رجلاً أتاه بلؤلؤة فابتاعها بخمسين ألفاً، وكان فيها فضلٌ. فقال: إن أبي نائمٌ ومفتاح الصندوق تحت رأسه، فأمهلني حتى يستيقظ وأعطيك الثمن. قال: فأَيقِظْهُ وأعطني الثمن. قال: ما كنتُ لأفْعَلَ، قال: أزيدُك عشرةَ آلاف إن أيقظتَ أباك وعجَّلت النقدَ. فقال: وأنا أزيدُكَ عشرين ألفاً إنِ انتظرتَ انتباهَ أبي؛ ففعل ولَم يوقِظِ الرجلُ أباه؛ فأعقبه الله ببرِّهِ أباهُ أن جعل البقرةَ تلك بعينها عنده. وأمرَ بني إسرائيل أن يذبحوا تلك البقرة بعينها.
وقال ابنُ عبَّاس: (كَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيْلَ رَجُلٌ صَالِحٌ لَهُ ابْنٌ طِفْلٌ؛ وَكَانَ لَهُ عِجْلَةٌ، فَأَتَى بالعِجْلَةِ إلَى غَيْضَةٍ؛ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أسْتَوْدِعُكَ هَذِهِ العِجْلَةَ لابْنِي حَتَّى يَكْبُرَ. وَمَاتَ الرَّجُلُ فَنَشَأَتِ العِجْلَةُ فِي الْغَيْضَةِ وَصَارَتْ عَوَاناً؛ وَكَانَتْ تَهْرُبُ مِنْ كُلِّ مَنْ رَآهَا، فَلَمَّا كَبُرَ الابْنُ وَكَانَ بَارّاً بأُمِّهِ، كَانَ يَقْسِمُ اللَّيْلَةَ أثْلاَثاً؛ يُصَلِّي ثُلُثاً؛ وَيَنَامُ ثُلُثاً؛ وَيَجْلِسُ عِنْدَ رَأسِ أُمِّهِ ثُلُثاً، فَإِذَا أصْبَحَ ذَهَبَ يَحْتَطِبُ عَلَى ظَهْرِهِ وَيَبيْعُهُ فِي السُّوقِ، ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بثُلُثِهِ؛ وَيَأْكُلُ ثُلُثَهُ؛ وَيُعْطِي أُمَّهُ ثُلُثَهُ.
فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ يَوْماً: إنَّ أبَاكَ وَرَّثَكَ عِجْلَةً، وذَهَبَ بهَا إلَى غَيْضَةِ كَذَا واسْتَوْدَعَهَا اللهَ، فَانْطَلِقْ إِلَيْهَا وَادْعُ إلَهَ إبْرَاهِيْمَ وَإسْمَاعِيْلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أنْ يُرَدَّهَا عَلَيْكَ؛ فَإنَّ مِنْ عَلاَمَتِهَا أنَّكَ إذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا يُخيَّلُ إِلَيْكَ أنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ يَخْرُجُ مِنْ جِلْدِهَا. وَكَانَتْ تُسَمَّى الْمُذَهَّبَةَ لِحُسْنِهَا وَصُفْرَتِهَا وَصَفَاءِ لَوْنِهَا.
فَأَتَى الْفَتَى الْغَيْضَةَ فَرَآهَا تَرْعَى؛ فَصَاحَ بهَا وَقَالَ: أعْزِمُ عَلَيْكِ بإلَهِ إبْرَاهِيْمَ وَإسْمَاعِيْلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ فَقَبَضَ عَلَى عُنُقِهَا وَقَادَهَا. فَتَكَلَّمَتِ الْبَقَرَةُ بإذْنِ اللهِ تَعَالَى؛ وَقَالَتْ: أيُّهَا الْفَتَى الْبَارُّ بِوَالِدَيْهِ! ارْكَبْنِي فَإنَّ ذَلِكَ أهْوَنُ عَلَيْكَ. قَالَ: إنَّ أُمِّي لَمْ تَأْمُرْنِي بذَلِكَ! وَلَكِنْ قَالَتْ: قُودَهَا بعُنُقِهَا، فَقَالَتْ: وَحَقِّ إلَهِ بَنِي إسْرَائِيْلَ؛ لَوْ رَكِبْتَنِي مَا كُنْتَ تَقْدِرُ عَلَيَّ أبَداً، فَانْطَلِقْ فَإنَّكَ لَوْ أمَرْتَ الْجَبَلَ أنْ يَنْقَطِعَ مِنْ أصْلِهِ وَيَنْطَلِقَ مَعَكَ لَفَعَلَ لِبرِّكَ بأُمِّكَ!
فَجَاءَ بهَا إلَى أُمِّهِ فَقَالَتْ: لَهُ: يَا بُنَيَّ إنَّكَ فَقِيْرٌ؛ وَشُقَّ عَلَيْكَ الاحْتِطَابُ بالنَّهَار؛ وَالْقِيَامُ باللَّيْلِ، فَاذْهَبْ وَبعْ هَذِهِ الْبَقَرَةَ فَخُذْ ثَمَنَهَا. فَقَالَ: بكَمْ؟ فَقَالَتْ: بثَلاَثَةِ دَنَانِيْرَ؛ وَلاَ تَبعْهَا بغَيْرِ رضَايَ وَمَشُورَتِي! وَكَانَ ثَمَنُ الْبَقَرَةِ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ ثَلاَثَةُ دَنَانِيْرَ.
فَانْطَلَقَ بهَا إِلَى السُّوقِ، فَبَعَثَ اللهُ مَلَكاً فِي صُوَرةِ بَشَرٍ لِيَخْتَبرَ كَيْفَ برُّ الْفَتَى بوَالِدَيْهِ! فَقَالَ الْمَلَكَُ بكَمْ تَبيْعُ هَذِهِ الْبَقَرَةَ؟ قَالَ: بثَلاَثَةِ دَنَانِيْرَ؛ وَأشْرُطُ عَلَيْكَ رضَى وَالِدَتِي. فَقَالَ الْمَلَكُ: بسِتَّةِ دَنَانِيْرَ؛ وَلاَ تَسْتَأْذِنْ أُمَّكَ. فَقَالَ: لَوْ أعْطَيْتَنِي وَزْنَهَا ذَهَباً لَمْ آخُذْهُ إلاَّ برِضَاءِ وَالِدَتِي! فَرَدَّهَا إلَى أُمِّهِ. فَقَالَتْ: بعْهَا بسِتَّةِ دَنَانِيْرَ عَلَى رضًى مِنِّي. فَانْطَلَقَ بهَا وَقَالَ لِلْمَلَكِ: إنَّهَا أمَرَتْنِي أنْ لاَ أنْقُصَهَا مِنْ سِتَّةِ دَنَانِيْرَ عَلَى أنْ أسْتَأْمِرَهَا. فَقَالَ: الْمَلَكُ: أنَا أُعْطِيْكَ اثْنَى عَشَرَ عَلَى أنْ لاَ تَسْتَأْمِرَهَا، فَأبَى، وَرَجَعَ إلَى أُمِّهِ فَأَخْبَرَهَا بذَلِكَ. فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ إنَّ الَّذِي يَأْتِيْكَ مَلكٌ فِي صُورَةِ بَشَرٍ؛ فَقُلْ لَهُ: أتَأْمُرُنَا أنْ نَبيْعَهَا أمْ لاَ؟ فَأَتَى إِلَيْهِ؛ فَقَالَ لَهُ مَا قَالَتْ أُمُّهُ. فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إلَى أُمِّكَ وَقُلْ لَهَا: أمْسِكِي هَذِهِ الْبَقَرَةَ، فَإنَّ مُوسَى يَشْتَرِيْهَا مِنْكُمْ لِقَتِيْلٍ يُقْتَلُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيْلَ، فَلاَ تَبيْعُوهَا إلاَّ بمِلْئِ مِشْكِهَا ذَهَباً. وَقَدَّرَ اللهُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيْلَ ذَبْحَهَا مُكَافَأَةً لَهُ عَلَى برِّ وَالِدَيْهِ فَضْلاً مِنْهُ وَرَحْمَةً).
وروي أنَّها كانت لرجلٍ يبيعُ الجوهرَ، فجاءه إبليسُ بجرابٍ من اللُّؤلؤِ يساوي مِائَتي ألفٍ، فعرضَهُ عليه بمائة ألفٍ، فوجدَ الجوهريُّ المفتاحَ تحت رأسِ أبيه وهو نائمٌ، وقال: كيفَ أوقِظُ أبي لربحِ مائة ألفٍ؟! فكرِهَ أن يوقظَهُ، فرجعَ وقال: إنَّ أبي نائمٌ والمفتاحُ تحتَ رأسهِ. فقال له إبليسُ: إذهب أيْقِظْهُ فأنا أبيعُكَ بخمسينَ ألْفاً. فذهبَ فلم يحتمل قلبهُ ذلك، فرجعَ، فلم يزل إبليسُُ يحطُّ من الثمنِ حتى بلغَ عشرةَ دراهم، فلم يوقِظْ أباهُ وتركَ الشراءَ، فجعلَ الله في مالهِ البركةَ حتى اشتَرَوا بقرتَهُ بملئ مِشْكِهَا ذهباً.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ }؛ وفي مُصحفِ عبدِالله: (سَلْ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا). ومعنى الآية: { قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا } سِنُّها؟. { قَالَ } موسى: { إِنَّهُ } يعني اللهَ عَزَّ وَجَلَّ { يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ } لا كبيرةٌ ولا صغيرة. وارتفع { فَارِضٌ } و{ بِكْرٌ } بإضمار (هي)؛ أي لا هِيَ فارضٌ ولا هِيَ بكرٌ.
قال مجاهدُ والأخفشُ: (الْفَارِضُ: الْكَبيْرَةُ الْمُسِنَّةُ الَّتِي لَمْ تَلِدْ. والبكْرُ: الْفَتِيَّةُ الصَّغِيْرَةُ الَّتِي لَمْ تَلِدْ). قال السديُّ: (الْبكْرُ: الَّتِي لَمْ تَلِدُ قَطّ إلاَّ وَاحِداً). وَقِيْلَ: معناه لا فارضٌ؛ أي ليست بكبيرةٍ قد ولدَتْ بُطوناً كثيرةً، ولا بكْراً؛ أي لَم تَلِدْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ }؛ أي وسطٌ بين الصغيرةِ والكبيرة قد وَلَدَتْ بَطناً أو بطنين؛ وجَمعُها عُوَنٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ }؛ أي افعَلُوا ما تؤمرون به من الذَّبحِ، ولا تُكثروا السؤالَ.
ثُمَّ عادُوا في السؤال فَـ: { قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا }؛ موضع { مَا } رُفِعَ بالابتداء؛ و{ لَوْنُهَا } خبرهُ. وقرأ الضحَّاك: (مَا لَوْنَهَا) نصباً كأنه أعْمَلَ فيه التبيينَ وجعل { مَا } صلةً. { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا }؛ قِيْلَ: يعني سوداءَ مثلَ قوله:
{ { جِمَٰلَتٌ صُفْرٌ } [المرسلات: 33] أي سُودٌ، كذا قال الحسنُ. والعربُ تسمي الأسودَ أصفرَ. قال الشاعرُ:

تِلْكَ خَيْلِي مِنْهُ وَتِلْكَ ركَابي هُنَّ صَفْرٌ أوْلاَدُهَا كَالزَّبيْب

والصحيحُ: أنَّها صفراءُ؛ لأن السوداءَ لا تؤكَّدُ بالفاقعِ، وإنَّما تؤكَّد بالحالِك، يقال في المبالغةِ في الوصف: أصفرُ فاقعٌ؛ وأحمرٌ قانٍ؛ وأسودٌ حالكٌ؛ وأخضرٌ ناضر؛ وأبيض ناصِعٌ. ويقال: أبيضٌ نقيٌّ، فمعنى { فَاقِـعٌ } أي صافٍ شديد الصُّفرة. وقال ابنُ عبَّاس: (صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا شَدِيْدَةُ الصُّفْرَةِ). وقال العتيبيُّ: (غَلَطَ مَنْ قَالَ: الصَّفْرَاءُ هَا هُنَا السَّوْدَاءُ؛ لأَنَّ هَذَا غَلَطٌ فِي نُعُوتِ الْبَقَرِ، وإنَّمَا هُوَ فِي نُعُوتِ الإبلِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { تَسُرُّ ٱلنَّاظِرِينَ }؛ أي تعجبُ الناظرين إليها؛ لتَمَامِ خَلْقِهَا؛ وكمالِ حُسنِها؛ ونُصوع لونِها. قال عليٌّ رضي الله عنه: (مَنْ لَبسَ نَعْلاً صَفْرَاءَ قَلَّ هَمُّهُ؛ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ { صَفْرَاءُ فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّاظِرِينَ }). فإن قِيْلَ: لِمَ أُمروا بذبحِ البقرة دونَ غيرها؟ قِيْلَ: لأن القُرْبَانَ تكون من الإبل والبقرِ والغنم؛ وكانوا يحرِّمون لحمَ الإبلِ؛ كما قالَ تعالى:
{ { إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ } [آل عمران: 93] يعني لحومَ الإبلِ؛ وكان ذبحُ البقرةِ أفضلَ من ذبحِ الغنم فخصَّت بذلك.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ }؛ أسائمة أم عاملةٌ؟ قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا }؛ هذه قراءةُ العامة؛ وقرأ محمَّدُ الأُمَويُّ: (إنَّ الْبَاقِرَ) هو جمعُ البقرِ. قال قطربُ: يقال في جمعِ البقرَة: بقرٌ وباقرٌ وباقورٌ وبُقُور. فإن قِيْلَ: لِمَ قال { تَشَابَهَ } والبقرُ جمعٌ؛ ولَمْ يقل تَشَابَهَتْ؟ قِيْلَ: فيه ثلاثةُ أقوالٍ: أحدُها: أنه ذُكِّرَ لتذكير لفظ البقرِ كقوله:
{ { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [القمر: 20]. وسُئل عن هذا سيبويهِ فقال: (كُلُّ جَمْعٍ حُرُوفُهُ أقَلُّ مِنْ حُرُوفِ لَفْظِ وَاحِدِهِ؛ فَإنَّ الْعَرَبَ تُذَكِّرُهُ). وقال الزجَّاج: (مَعْنَاهُ أنَّهُ أرَادَ جِنْسَ الْبَقَرِ).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { تَشَابَهَ } فيه سبعُ قراءات: (تَشَابَهَ) بفتحِ التاءِ والهاء وتخفيفِ الشِّين؛ وهي قراءةُ العامَّة. وقراءةُ الحسنِ: (تَشَابَهُ) بالتخفيفِ وهاء مضمومَة؛ يعني تَتَشَابَهُ. وقراءةُ الأعرجِ: (تَشَّابَهُ) بفتح التاءِ والتشديد وضمِّ الهاء على معنى: تَتَشَابَهُ. وقرأ مجاهدُ: (تَشَّبَّهُ) كقراءةِ الأعرجِ إلا أنه بغيرِ ألف. وفي مُصحف أُبَيِّ: (تَشَابَهَتْ) أنَّثَهُ لتأنيثِ البقر. وقرأ ابنُ إسحاق: (تَشَّابَهَتْ) بالتشديد. وقرأ الأعمش: (مُتَشَابهٌ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ }؛ يعني إلى وَصْفِهَا. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
"وَاسْمِ اللهِ لَوْ لَمْ يَسْتَثْنُواْ لَمَا بُيِّنَتْ لَهُمْ إلَى آخِرِ الأَبَدِ" .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ }؛ أي لا مُذلَّلة بالعمل، { تُثِيرُ ٱلأَرْضَ }؛ أي ليست بحراثةٍ، { وَلاَ تَسْقِي ٱلْحَرْثَ }؛ أي ليست نَاضِحةً لا يُسقى عليها الزرعُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { مُسَلَّمَةٌ }؛ أي بريَّة من العيوب. وقال الحسنُ: (مُسْلَّمَةُ الْقَوَائِمِ لَيْسَ فِيْهَا أثَرُ الْعَمَلِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: { لاَّ شِيَةَ فِيهَا }؛ أي لا عيبَ فيها. وقال قتادةُ (لاَ بَيَاضَ فِيْهَا أصْلاً). وقال مجاهدُ: (لاَ بَيَاضَ فِيْهَا وَلاَ سَوَادَ). وَقِيْلَ: ليس فيها لونٌ يفارقُ سائرَ لونِها. والذَّلُولُ في الدواب: بمَنْزِلَةِ الذليلِ في الناسِ؛ يقال: رجلٌ ذليلٌ؛ ودابَّة ذلولٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { قَالُواْ ٱلآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ }؛ أي بالوصفِ البيِّن التامِّ؛ فطلبُوها؛ فلم يَجدوها بكمَالِ وصفها إلا عندَ الفتَى البارِّ بوالدَيه؛ فاشتَروها منه بمِلْئِ مِشْكِهَا ذهباً. وقال السديُّ: (بوَزْنِهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ ذَهَباً). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ }؛ أي من غلاءِ ثَمنها. وَقِيْلَ: وما كادوا يجدونَها باجتماعِ أوصافِها. وَقِيْلَ: لأن كلَّ واحد منهم خَشِيَ أن يكون القاتلُ من قبيلتهِ.