خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ
٩٧
مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَٰلَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ
٩٨
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ ٱلْفَاسِقُونَ
٩٩
-البقرة

التفسير الكبير

قوله عََزَّ وَجَلَّ: { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ }، قال ابنُ عبَّاس: "إنَّ حَبْراً مِنَ الأَحْبَار عَالِماً مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ، يُقَالُ لَهُ ابْنُ صُوريَا، قَالَ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ نَوْمُكَ؟ فَإِنَّا نَعْرِفُ نَوْمَ النَّبِيِّ الَّذِي يُجْتَبَى فِي آخِرِ الزَّمَانِ، قَالَ: تَنَامُ عَيْنَايَ وَقَلْبي يَقْظَانُ قَالَ: صَدَقْتَ. فَأَخْبرْنَا عَنِ الْوَلَدِ أمِنَ الرَّجُلِ أمْ مِنَ الْمَرْأةِ؟ قَالَ: أمَّا الْعَظْمُ وَالْعَصَبُ وَالْعُرُوقُ فَمِنَ الرَّجُلِ؛ وَأمَّا اللَّحْمُ وَالدَّمُ وَالظُّفْرُ وَالشَّعْرُ فَمِنَ الْمَرْأةِ. قَالَ: صَدَقْتَ. فَمَا بَالُ الْوَلَدِ يُشْبهُ أعْمَامَهُ لَيْسَ فِيْهِ شَبَهٌ مِنْ أخْوَالِهِ، وَيُشْبهُ أخْوَالَهُ لَيْسَ فِيْهِ شَبَهٌ مِنْ أعْمَامِهِ؟ فَقَالَ: أيُّهُمَا عَلاَ مَاؤُهُ عَلَى مَاءِ صَاحِبهِ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ قَالَ: صَدَقْتَ. بَقِيَتْ خِصْلَةٌ إنْ قُلْتَهَا آمَنْتُ بكَ وَاتَّبَعْتُكَ! أيُّ مَلَكٍ يَأْتِيْكَ بالْوَحْيِ؟ قَالَ: جِبْرِيْلُ قَالَ: ذَاكَ عَدُوُّنَا. يَنْزِلُ بالْقِتَالِ وَالشِّدَّةِ وَرَسُولُنَا مِيْكَائِيْلُ يَنْزِلُ بالسُّرُور وَالرَّخَاءِ، فَلَوْ كَانَ مِيْكَائِيْلُ هُوَ الَّذِي يَأْتِيْكَ آمَنَّا بكَ وَصَدَّقْنَاكَ. فَقَالَ: عُمَرُ رضي الله عنه: إشْهَدُواْ أنَّ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيْلَ فَإنَّهُ عَدُوٌّ لِمِيْكَائِيْلَ. فَقَالَ: لاَ نَقُولَنَّ هَذَا" . فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ.
وقال مقاتلُ: إنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ: إنَّ جِبْرِيْلَ عَدُوُّنَا أُمِرَ أنْ يَجْعَلَ النُّبُوَّةَ فِيْنَا فَجَعَلَهَا فِي غَيْرِنَا. وقالَ قتادةُ وعكرمةُ والسديُّ: كَانَ لِعُمَرَ رضي الله عنه أرْضٌ بأَعْلَى الْمَدِيْنَةِ؛ مَمَرُّهَا عَلَى مَدَارسِ الْيَهُودِ، وَكَانَ عُمَرُ إذَا أتَى أرْضَهُ يَأْتِيْهِمْ وَيَسْمَعُ مِنْهُمْ وَيُكَلِّمُهُمْ، فَقَالُواْ: يَا عُمَرُ مَا فِي أصْحَاب مُحَمَّدٍ أحَبُّ إلَيْنَا مِنْكَ؛ إنَّهُمْ يَمُرُّونَ بنَا فَيُؤْذُونَنَا وَأنْتَ لاَ تُؤْذِيْنَا وَإنَّا لَنَطْمَعُ فِيْكَ! فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: (مَا أحْبَبْتُكُمْ كَحُبكُمْ إيَّايَ وَلاَ أسْأَلُكُمْ إنِّي شَاكٌّ فِي دِيْنِي، وَإنَّمَا أدْخُلُ إلَيْكُمْ لأَزْدَادَ بَصِيْرَةً فِي أمْرِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَأرَى آثَارَهُ فِي كِتَابكُمْ). فَقَالُواْ: مَنْ صَاحِبُ مُحَمَّدٍ الَّذِي يَأْتِيْهِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ؟ قَالَ: (جِبْرِيْلُ) قَالُواْ: ذاكَ عَدُوُّنَا يُطْلِعُ مُحَمَّداً عَلَى سِرِّنَا وَهُوَ صَاحِبُ كُلِّ عَذَابٍ وَخَسْفٍ وَشِدَّةٍ؛ وَإنَّ مِيْكَائِيْلَ إذا جَاءَ؛ جَاءَ بالْخَصْب وَالسَّلاَمَةِ. فَقَالَ عُمَرُ: (تَعْرِفُونَ جِبْرِيْلَ وَتُنْكِرُونَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم!) قَالُواْ: نَعَمْ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: (أنَا أشْهَدُ أنَّ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيْلَ فَهُوَ عَدُوٌّ لِمِيْكَائِيْلَ؛ وَمَنْ كَانَ عَدُوّاً لَهُمَا فَاللهُ عَدُوٌّ لَهُ). ثُمَّ رَجَعَ عُمَرُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ جِبْرِيْلَ قَدْ سَبَقَهُ بالْوَحْيِ؛ فَقَرَأ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الآيَاتِ. وَقَالَ: [لَقَدْ وَافَقَكَ رَبُّكَ يَا عُمَرُ]. فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: (لَقَدْ رَأيْتُنِي فِي دِيْنِ اللهِ بَعْدَ ذَلِكَ أصْلَبَ مِنَ الْحَجَرِ).
قَال اللهُ تعالى تَصديقاً لعمر: { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } أي قُل لَهم يا مُحَمَّدُ: مَن كان عدُوّاً لجبريلَ. وإذ هو الْمُنْزِلُ للكتاب عليَّ، فإنه إنَّما أنزله على قلبي بأمرِ الله لا مِن تلقاء نفسه، وإنَّما أنزلَ ما هو، { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ }، من الكتُب التي في أيدِيكم، لا مكذِّباً لَها، وإنه وإنْ كان فيما أنزلَ الأمرُ بالحرب والشدَّة على الكافرين، { وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ }. وَقِيْلَ: معناهُ: على وجهِ التَّرْغِيْمِ؛ أي فإنَّ جبريلَ هو الذي نزَّلَ عليك رُغْماً لَهم.
وفي جبريلَ سبعُ قراءات: (جَبْرَئِيْلُ) مهموزٌ مشبع مفتوح الجيم والراء؛ وهي قراءةُ حمزة والكسائي وخلف. قال الشاعرُ:

شَهِدْنَا فَمَا تَلْقَى لَنَا مِنْ كَتِيْبَةٍ مَدَى الدَّهْرِ إلاَّ جَبْرَئِيْلُ أمَامُهَا

و(جَبْرَاييْلُ) ممدودٌ مشبع على وزن جبراعيل؛ وهي قراءةُ ابن عبَّاس وعلقمة ابن وثاب. و(جَبْرَائِلُ) ممدود مختلس على وزنِ جبراعل؛ وهي قراءةُ طلحةَ بن مصرف. و(جَبْرَئِلُ) مقصورٌ مهموز مختلس، وهي قراءةُ يحيى بن آدم. و(جَبْرَالُّ) مقصورٌ مشدَّد اللام من غيرِ ياء؛ وهي قراءةُ يحيى بن يعمر. و(جَبْرِيْلُ) بفتح الجيمِ وكسر الراء من غير همزة؛ وهي قراءةُ ابن كثير. و(جِبْرِيْلُ) بكسرِ الجيم والراء من غيرِ همزة؛ وهي قراءةُ عليٍّ رضي الله عنه وابنِ المسيَّب والحسن وأهلِ البصرة والمدينة. وقد رُوي ذلك عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
و(جِبْرِيْلُ) بلغة السِّريانية: عبدُالله. وإن (جَبْرَ) هو العبدُ، و(اِيْلُ) هو اللهُ. وعن معاذِ رضي الله عنه قال: (إنَّمَا جِبْرِيْلُ وَمِيْكَائِيْلُ كَقَوْلِكَ: عَبْدُاللهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ). وَقِيْلَ: جبريلُ: مأخوذ من جَبَرُوتِ اللهِ؛ وميكاييلُ من مَلَكُوتِ اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ } يعني: فإنَّ جبريلَ { نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ }. (عَلَى) كنايةٌ عن غير مذكور كقولهِ تعالى:
{ { مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } [فاطر: 45]. و { حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } [ص: 32] يعني الشمسَ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَٰلَ } معناهُ: مَن كَانَ عدُوّاً لهؤلاءِ فليكُنْ، وهذا على التهديدِ، { فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ }، يعني اليهودَ. وإنَّما قال: { عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } ولَم يقل: عدوٌّ لَهم؛ لأنه لو قال ذلكَ لَم يُعلم بذلكَ أن عداوةَ جبريل تكون كُفراً، بل كان يجوزُ أن يتوهَّم متوهِّمٌ أن عداوةَ جبريل فِسْقاً ولا تكونُ كُفراً؛ فأزالَ اللهُ هذا الإشكالَ.
وفي ميكائيل أربعُ لغات: ممدودٌ مشبع على وزن ميكاعيل؛ وهي قراءةُ أهلِ مكَّة والكوفة والشَّام. و(مِيْكَائِلَ) ممدودٌ مهموز مختلس مثل ميكاعل؛ وهي قراءةُ أهل المدينة. (ومِيْكَئِل) مهموز مقصور على وزن ميكعل؛ وهي قراءةُ الأعمش وابن محيصن. و(مِيْكَالَ) بغيرِ همز؛ وهي قراءةُ أبي عمرو.
و(مِيْكَائِيْل) معناهُ عبدُالله. (مِيْكَ) عبدٌ؛ و(ايل) هو اللهُ. وكذلك (إسرائيلُ) وهذه أسماءُ أعجميَّة رُفعت إلى العرب فلَفَظَتْ بها ألفاظٌ مختلفة. فإنَّما عطف جبرائيل وميكائيل على الملائكةِ بعد دخولِهما في اسمِ الملائكة؛ لفضِيلَتهما، مثلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{ { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [الأحزاب: 7] الآية. ومعنى الآيةِ: مَن كان عدُوّاً لأحدٍ من هؤلاء فإنَّ الله عدوٌّ له. الواوُ فيه بمعنى (أو). يعني: مَن كفرَ بالله أو ملائكتهِ أو كتبهِ؛ لأن الكافرَ بالواحدِ كافرٌ بالكلِّ.
فقال ابن صوريا: يا مُحَمَّد مَا جِئتَنَا بشيءٍ نعرفهُ؟ وما أنزلَ اللهُ عليك من آيةٍ بيِّنة! فأنزلَ اللهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ }؛ أي واضِحات مفصَّلاتٍ بالحلال والحرامِ؛ والحدودِ؛ والأحكامِ.
قَوْلُهُ تعَالَى: { وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ ٱلْفَاسِقُونَ }؛ وهم اليهودُ وغيرُهم؛ سَمَّى الكفرَ فِسْقاً؛ لأن الفسقَ الخروجُ عن الشيء إلى شيءِ؛ واليهودُ خرجوا من دِينهم بتكذيب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والفاسقون هم الخارجونَ عن أمرِ الله.