خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ
٧٩
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ
٨٠
-الأنبياء

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ }؛ أي فَهَّمْنَا القصةَ سليمانَ دون داود، { وَكُلاًّ }؛ منهما؛ { آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً }؛ العلمُ والفصلُ بين الخصومِ.
قال ابنُ مسعودٍ وقتادةُ والزهريُّ: (وَذلِكَ أنَّ رَجُلَيْنِ دَخَلاَ عَلَى دَاوُدَ عليه السلام، أحَدُهُمَا صَاحِبُ حَرْثٍ، وَالآخَرُ صَاحِبُ غَنَمٍ، فَقَالَ صَاحِبُ الزَّرْعِ وَالْكَرْمِ: إنَّ هَذا نَفَشَتْ غَنَمُهُ لَيْلاً فَوَقَعَتْ فِي حَرْثِي، فَلَمْ تُبْقِ مِنْهُ شَيْئاً. فَقَالَ: لَكَ رِقَابُ الْغَنَمِ - وَكَانَا فِي الْقِيْمَةِ سَوَاءً - فَأَعْطَاهُ الْغَنَمَ بالْحَرْثِ وَخَرَجَا.
فَمَرَّا عَلَى سُلَيْمَانَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ أحَدَ عَشَرَ سَنَةً، فَقَالَ: كَيْفَ قَضَى بَيْنَكُمَا؟ فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: نِعْمَ مَا قَضَى، وَغَيْرُ هَذا كَانَ أرْفَقَ بالْكُلِّ، وَلَوْ وُلِّيْتُ أمْرَكُمَا لَقَضَيْتُ بغَيْرِ مَا قَضَى. فَأُخْبرَ دَاوُدُ بذلِكَ فَدَعَا فَقَالَ: كَيْفَ تَقْضِي بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أدْفَعُ الْغَنَمَ إلَى صَاحِب الْحَرْثِ فَيَكُونُ لَهُ نَسْلُهُمَا وَرسْلُهُمَا وَمَنَافِعُهَا وَسَمْنُهَا وَصُوفُهَا إلَى الْحَوْلِ، وَيَقُومُ أصْحَابُ الْغَنَمِ عَلَى الْكَرْمِ حَتَّى يَعُودَ كَهَيْأَتِهِ يَوْمَ أُفْسِدَ، ثُمَّ يَدْفَعُ هَؤُلاَءِ إلَى هَؤُلاَءِ غَنَمَهُمْ، وَيَدْفَعُ هَؤُلاَءِ إلَى هَؤُلاَءِ كَرْمَهُمْ.
فَقَالَ دَاوُدُ عليه السلام: نِعْمَ مَا قَضَيْتَ فِيْهِ، فَالْقَضَاءُ قَضَاؤُكَ. وَحَكَمَ دَاوُدُ بَيْنَهُمْ بذلِكَ، فَقُوِّمَ بَعْدَ ذلِكَ الْكَرْمُ وَمَا أصَابُوهُ مِنَ الْغَنَمِ فَوَجَدُوهُ مِثْلَ ثَمَرِ الْكَرْمِ)، وهكذا رُوي عن ابنِ عبَّاس.
قال الحسنُ: (كَانَ الْحُكْمُ مَا قَضَى بهِ سُلِيْمَانُ، وَلَمْ يُعْفِ اللهُ دَاوُدَ فِي حُكْمِهِ) وهذا يدلُّ على أنَّ كلَّ مجتهدٍ يصيبُ، وإلى هذا ذهبَ بعضُ الناسِ فقالوا: إذا نَفَشَتِ الغنمُ ليلاً في الزرعِ فأفسدتهُ، كان على صاحب الغنم ضمانُ ما أفسدته، وإن كان نَهاراً لَم يضمن شيئاً، واستدلُّوا أيضاً بما رُوي:
"أنَّ نَاقَةً كَانَتْ لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطَ رَجُلٍ فَأَفْسَدَتْهُ، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أهْلِ الأَمْوَالِ حِفْظَهَا بالنَّهَارِ، وَعَلَى أهْلِ الْمَوَاشِي حِفْظَهَا باللَّيْلِ" .
وأما أصحابُنا فلا يَرَوْنَ في هذه المسألةِ ضَمَاناً ليلاً ولا نَهاراً، إذا لَم يكن صاحبهُ هو الذي أرسله فيه، ولا حُجَّةَ لَهم في هذهِ الآية؛ لأنهُ لا خلافَ أن مَن نَفَشَتْ إبلهُ أو غنمهُ في حرثِ رجلٍ أنه لا يجبُ عليه أن يُسَلِّمَ الغنمَ، ولا يسلمُ أولادَها وألبانَها وأصوافها إليه، فثبتَ أنَّ الْحُكْمَيْنِ اللذين حَكَمَ بهما داودُ وسليمان (عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ) مَنْسُوخَانِ بشريعةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وقد رُوي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قال:
"الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ" وهذا خبرٌ مستعمل مُتَّفَقٌ على استعمالهِ في البهيمة الْمُنْفَلِتَةِ إذا أصابت إنساناً أو مالاً أنه لا ضمانَ على صاحبها إذا لَم يرسلْها هو عليه، وليس في قصَّة البراءِ بن عازب إيجابُ الضمان، ولأنّ الأشياءَ الموجبةَ للضمانِ لا تختلفُ بالليل والنهار.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ }؛ أي وسخَّرنا الجبالَ والطيرَ يسبحن مع داودَ؛ أي أن الجبالَ كانت تسيرُ مع داود أين يذهبُ، ومما يؤيدُ هذا قَوْلُهُ تَعَالَى:
{ يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ } [سبأ: 10]، قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَكُنَّا فَاعِلِينَ }؛ هذه الأشياءَ دلالةً على نبوَّته. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ }؛ أي وعلَّمنا داودَ صَنْعَةَ الدِّرْعِ، وسُمي الدرع لَبُوساً؛ لأنَّها تُلبس، كما يقالُ للبعير: رَكُوبٌ؛ لأنه يُرْكَبُ، والسلاحُ كله لَبُوسٌ عند العرب دِرعاً كان أم جَوْشَناً أو سَيفاً أم رُمحاً، والْجَوْشَنُ هو الدرعُ الصغيرة. قال قتادةُ: (أوَّلُ مَنْ صَنَعَ الدِّرْعَ دَاوُدُ، وَإنَّمَا كَانَتْ مِنْ صَفَائِحَ، فَهُوَ أوَّلُ مَنْ سَرَدَهَا وَحَلَفَهَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ }؛ أي ليُحرِزَكم من شدَّة القتالِ. قرأ شيبةُ وأبو بكرٍ ويعقوبُ (لِنُحْصِنَكُمْ) بالنون، لقوله (وَعَلَّمْنَاهُ). وقرأ ابنُ عامر وحفص بالتاء، يعني الصَّنْعَةَ. وقرأ الباقون بالياءِ على معنى لِيُحْصِنَكُمُ اللَّبُوسُ. وَقِيْلَ: على معنى ليُحْصِنَكُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ (مِنْ بَأْسِكُمْ) أي من حربكم، وقيل: من وقع السلاح فِيكُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ }؛ يا أهلَ مكَّة.