خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ
٨٧
-الأنبياء

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً }؛ يعني يُونُسَ بْنَ مَتَّى أحْبَسَهُ الله في بَطْنِ النُّونِ، وهو الحوتُ، ومعنى الآية: وَاذْكُرْ ذا الحوتِ إذْ ذهَبَ مُغَاضِباً لقومهِ. روي: أنهُ خرجَ مِن بينهم قَبْلَ أن يؤذنَ له في الخروجِ، وكان خروجهُ من بينهم خطيئةً، وإنَّما خرجَ منهم على تركِهم الإيْمانَ به، هكذا رُوي عن ابنِ عبَّاس والضحَّاك.
وَقِيْلَ: كان يونسُ وقومُهُ يسكنون فلسطين فعداهم مَلِكٌ فسبَى منهم خَلْقاً كثيراً، فأوحَى اللهُ إلى أشعيا النبيِّ عليه السلام: إذْهَبْ إلى الملكِ حزقيا فقُل له: تَوِّجْهُ نبيّاً قوياً أميناً، فإنِّي أُلقِي في قلوب أولئك التخلية حتى يُرسلوا معه بني إسرائيل، فقال الملكُ: مَن ترى يرسلُ؟ وكان في مَملكته خمسةً من الأنبياءِ، فقال لهُ: أرسِلْ يونسَ فإنه قويٌّ أمين، فأتى الملكَ يونسُ فأخبرَهُ أن يخرجَ، فقال يونسُ: هل أمَرَكَ اللهُ بإخراجي؟ قال: لاَ، فقال: فهل سَمَّانِي لكَ؟ قال: لا، قال: فهنا أنبياءٌ غَيري أقوياءُ أمناءُ، فألَحَّوا عليه فخرجَ مُغاضِباً للنبيِّ والملكِ ولقومه.
فأتَى بحرَ الرُّوم، فإذا سفينةٌ مشحونةٌ فرَكِبَ مع أصحابها، فلما صارت في لُجَّةِ البحرِ انكفأَتْ حتى كادوا يغرَقون، فقال الملاَّحون: ها هنا عبدٌ آبقٌ عاصٍ، فاقترِعُوا، فمَن وقعت عليه القرعةُ ألقيناهُ في البحرِ، لئن يغرقَ واحدٌ منَّا خيرٌ مِن أن تغرقَ السفينةُ بما فيها. فاقترعوا ثلاثاً فوقعت القرعةُ كلُّها على يونسَ، فقال يونسُ: أنا الرجلُ العاصي والعبدُ الآبقُ، وألقَى نفسَهُ في الماءِ. فجاءَ حوتٌ فابتلعه، ثُم جاء حوتٌ آخر أكبرَ منه فابتلعَ الحوتَ أيضاً. فأوحىَ الله إلى الحوتِ لا تُؤْذِي منه شعرةً، فإنِّي قد جعلتُ بطَنَكَ سِجْنَهُ، ولَم أجعلْهُ رزْقاً لكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ }، بالعقوبةِ، يقال قَدَرَ اللهُ الشيءَ وَقَدَّرَهُ؛ أي قَضَاهُ. وَقِيْلَ: معناه: فَظَنَّ أن لن نُضَيِّقَ عليه السجنَ، من قولهِ تعالى:
{ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [الطلاق: 7] أي ضُيِّقَ، وَقولهِ { { يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } [الروم: 37]، وقد ضَيَّقَ اللهُ على يونس أشدَّ تضييقٍ. وَقِيْلَ: معناهُ: { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } ما قَدِرْنَا من كونه في بطنِ الحوت.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ }؛ قال ابنُ عباس: (هِيَ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَظُلْمَةُ الْبَحْرِ وَظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ)، وقال سالِمُ ابن أبي الْجَعْدِ: (كَانَ حُوتاً فِي بَطْنٍ حُوتٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ }؛ أي الظَّالِمين لنفسِي في خُروجي من قومي قبلَ الإذن. قال الحسنُ: (وَهَذا مِنْ يُونُسَ اعْتِرَافٌ بذنْبهِ، وَتَوْبَتِهِ مِنْ خَطِيْئَتِهِ، تَابَ إلَى رَبهِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ وَرَاجَعَ نَفْسَهُ). قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
"إنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لاَ يَقُولُهَا مَكْرُوبٌ إلاَّ فَرَّجَ اللهُ عَلِيْهِ، كَلِمَةُ أخِي يُونُسَ: لاَ إلَهَ إلاَّ أنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ" .
وقال وهبُ بن منبه: (إنَّ يونسَ بن متَّى عليه السلام كان عبداً صالحاً، وكان في خُلُقِهِ ضيقٌ، فلمَّا حُملَتْ عليه أثقالُ النبوَّة، تفسَّخَ تحتَها تفسَّخَ الربع تحت الحملَ الثقيل فقذفَها بين يديهِ، وخرجَ هارباً منها فلذلكَ أخرجَهُ اللهُ من أُوْلِي العَزْمِ قال اللهُ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: { فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ } [الأحقاف: 35] وقال { { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ } [القلم: 48] أي لا تَلْقَ قَوْلِي كما ألقاهُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } أي ظَنَّ أن لن نَقْضِيَ عليهِ بما قضَينا من العقوبةِ، ودليلهُ قراءة الزهريِّ: (أنْ لَنْ نُقَدِّرَ عَلَيْهِ) مُشدَّداً. وقرأ عبيدُ بن عمير: (يُقَدَّرَ عَلَيْهِ) بالتشديد على الْمَجهُولِ.
واختلَفُوا في مُدَّةِ لَبْثِهِ في بطنِ الحوت، فقيلَ: أربعونَ يوماً، وَقِيْلَ: سبعةُ أيَّام، وَقِيْلَ: ثلاثةُ أيَّام، وأمسكَ اللهُ نَفْسَهُ فلم يقتلْهُ هناكَ. وروى أبو هريرةُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لَمَّا أرَادَ اللهُ حَبْسَ يُونُسَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ أوْحَى اللهُ إلَى الْحُوتِ: أنْ خذْهُ وَلاَ تَخْدِشْ لَهُ لَحْماً وَلاَ تَكْسِرْ لَهُ عَظْماً. فَأَخَذهُ ثُمَّ هْوَى بهِ إلَى مَسْكَنِهِ فِي الْبَحْرِ، فَلَمَّا انْتَهَى بهِ إلَى أسْفَلِ الْبَحْرِ سَمِعَ يُونُسُ حِسّاً، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: مَا هَذا؟ فَأَوْحَى اللهُ إلَيْهِ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: أنَّ هَذا تَسْبيْحُ دَوَاب الْبَحْرِ، قال: فَسَبَّحَ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، فَسَمِعَتِ الْمَلاَئِكَةُ تَسْبيْحَهُ، فَقَالُواْ: رَبَّنَا إنَّا سَمِعْنَا صَوْتاً ضَعِيْفاً بأَرْضٍ غَريبَةٍ؟ قَالَ: ذلِكَ عَبْدِي يُونُسُ عَصَانِي فَحَبَسْتُهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، قَالُواْ: الْعَبْدُ الصَّالِحُ الَّذِي كَانَ يَصْعَدُ لَهُ إلَيْكَ مِنْهُ فِي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَمَلٌ صَالِحٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَشَفَعُواْ لَهُ، فَأَمَرَ اللهُ الْحُوتَ، فَقَذفَهُ عَلَى السَّاحِلِ وَهُوَ سَقِيْمٌ" .
وعن ابنِ عبَّاس قالَ: أتَى جِبْرِيْلُ إلَى يُونُسَ فَقَالَ: انْطَلِقْ إلَى أهَلِ نِيْنَوَى فأنْذِرْهُمْ أنَّ الْعَذابَ قَدْ حَضَرَهُمْ، قَالَ: حَتَّى ألْتَمِسَ دَابَّةً، قَالَ: الأَمْرُ أعْجَلُ مِنْ ذلِكَ، فَانْطَلَقَ إلَى السَّفِيْنَةِ فَرَكِبَهَا فَأَخْشَبَتِ السَّفِيْنَةُ، فَسَاهَمُواْ فَخَرَجَ السَّهْمُ عَلَيْهِ، فَجَاءَ الْحُوتُ يُنَصِّصُ بذنَبهِ فَالْتَقَمَهُ، فَنُودِيَ الْحُوتُ: إنَّا لَمْ نَجْعَلْهُ رزْقاً لَكَ، وَإنَّمَا جَعَلْنَاكَ لَهُ سِجْناً، وَانْطَلَقَ الْحُوتُ مِنْ ذلِكَ الْمَكَانِ حَتَّى مَرَّ بهِ عَلَى الأَيْكَةِ، ثُمَّ مَرَّ عَلَى دِجْلَةَ).
وكانَ ابنُ عبَّاس يقولُ: (كَانَتْ رسَالَةُ يُونُسَ بَعْدَ مَا نَبَذهُ الْحُوتُ، وَدَلِيْلُ هذا أنَّ اللهَ ذكَرَ قِصَّةَ يُونُسَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ، ثُمَّ عَقَّبَهَا بقَوْلِهِ
{ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات: 147]). وقال آخرون: بل كانت قصةُ الحوتِ بعد دعائهِ قومَهُ، وتبليغهِ الرسالةَ.