خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ ٱللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَانِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ كَذٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٣٦
-الحج

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ ٱللَّهِ }؛ جمع بَدَنَةٍ وهي الناقةُ والبقرة، والبَدَانَةُ الضخامةُ، والمعنى: والإبلَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ من أعْلاَمِ دِيْنِ اللهِ؛ أي جعلناها لكم فيها عبادةٌ لله من سَوْقِهَا إلى البيتِ وتقلِيدِها وإشعارِها ونَحرِها والإطعامِ منها، قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ }؛ يعني النفعَ في الدُّنيا والآخرة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ }؛ أي عند نَحرها، وصَوَافَّ جمعُ الصَّافَّةِ وهي القائمةُ على ثلاثِ قوائم قد عُقلت، وكذا السُّنة في الإبلِ، ومعنى الآية: فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ على نَحْرِهَا قِيَاماً معقولة إحدى يدَيها وهي اليُسرى. وعن يحيى بن سالِم قال: (رَأيْتُ ابْنَ عُمَرَ وَهُوَ يَنْحَرُ بَدَنَتَهُ، فَنَحَرَهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ مَعْقُولةٌ إحْدَى يَدَيْهَا) يعني اليسرى.
وروِيَ عن ابنِ مسعود كان يقولُ: (صَوَافَّن) بالنون وهي المعقولةُ، مِن قولِهم: صَفَنَ الفرسُ إذا قامَ على ثلاثِ قوائم، قَالَ اللهُ تَعَالَى:
{ { ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ } [ص: 31]. وقرأ الحسنُ ومجاهد: (صَوَافِي) بالياء أي صافيَةً خالصةً لله تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا }؛ أي سَقَطَتْ بعدَ النحرِ، فوضعت جنوبُها على الأرضِ وخرجت روحُها، { فَكُلُواْ مِنْهَا }؛ ولا يجوزُ الأكلُ من البُدْنِ إلاّ بعد خروجِ الروح، لأن ما بينَ عن الحيِّ فهو ميتٌ. وأصلُ الوُجُوب الوُقُوعُ، ومنه وَجَبَتِ الشمسُ إذا وقعت في الْمَغِيْب، ووجبَ الحائطُ إذا وقعَ، ووجبَ القلبُ إذا وقعَ فيه الفزعُ، ووجبَ الفِعلُ إذا وجبَ ما يلزمُ به فعله. قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَكُلُواْ مِنْهَا } أمَرْنا بإباحةٍ ورُخْصَةٍ مثلُ قوله:
{ { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ } [المائدة: 2]، وقولهِ تعالى { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } [الجمعة: 10].
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَانِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ }؛ اختلَفُوا في معناها، فرُويَ عن ابنِ عبَّاس ومجاهد: (أنَّ الْقَانِعَ هُوَ الَّذِي يَقْنَعُ وَيَرْضَى بمَا عِنْدَهُ وَلاَ يَسْأَلُ، وَالْمُعْتَرَّ الَّذِي يَعْتَرِضُ لَكَ أنْ تُطْعِمَهُ مِنَ اللَّحْمِ)، يقالُ: قَنَعَ قَنَاعَةً إذا رَضِيَ قانع، وعَرَاهُ واعْتَرَاهُ إذا سألَهُ، وكذلك قال عكرمةُ وقتادة: (إنَّ الْقَانِعَ هُوَ الْمُتَعَفِّفُ الْجَالِسُ فِي بَيْتِهِ، وَالْمُعْتَرَّ السَّائِلُ الَّذِي يَعْتَرِيْكَ وَيَسْأَلُكَ).
قال سعيدُ بن جبير والكلبيُّ: (الْقَانِعُ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ، وَالْمُعْتَرُّ هُوَ الَّذِي يَتَعَرَّضُ لَكَ ويُرِيكَ نَفْسَهُ وَلاَ يَسْأَلُكَ)، فعلى هذا يكون القانعُ من القُنُوعِ وهو السُّؤالُ، يقال منه: قَنَعَ الرجلُ يَقْنَعُ إذا ذهبَ يسأل، مثل ذهبَ فهو قانعٌ. قال الشمَّاخُ:

كَمَالُ الْمَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْنَى مَفَاقِرَهُ أعَفُّ مِنَ الْقَنُوعِ

أي من السُّؤال. وقال زيدُ بن أسلمَ: (الْقَانِعُ هُوَ الْمِسْكِيْنُ الَّذِي يَطُوفُ فَيَسْأَلُ، وَالْمُعْتَرُّ الصَّدِيْقُ الزَّائِرُ، وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَعْتَرِي الْقَوْمَ لِلَحْمِهِمْ وَلَيْسَ بمِسْكِيْنٍ إلاَّ أنَّهُ لَيْسَتْ لَهُ ذبيْحَةٌ، يَأْتِي الْقَوْمَ لأَجْلِ لَحْمِهِمْ).
وقرأ الحسنُ: (وَالْمُعْتَرِي) بالياء من قولِهم: اعْتَرَاهُ إذا غَشِيَهُ لحاجته. وروى عطاءٌ عن ابن عبَّاس: (أنَّ الْقَانِعَ الَّذِي يَسْأَلُ، وَالْمُعْتَرَّ الَّذِي يَأْتِيْكَ بالسَّلاَمِ، وَيُرِيْكَ وَجْهَهُ، وَلاَ يَسْأَلُ)، وعن مجاهد: (أنَّ الْقَانِعَ جَارُكَ الْغَنِيُّ، وَالْمُعْتَرَّ الَّذِي يَعْتَرِيْكَ مِنَ النَّاسِ).
فعلى هذا تقتضي الآيةُ: أن المستحبَّ أنْ يتصدَّقَ بالثُّلُثِ؛ لأن في الآيةِ أمرٌ بالأكلِ وإعطاءِ الغنيِّ وإعطاءِ الفقير السائلِ.
"وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ في الحرمِ: الأَضَاحِي كُلُوا وَادَّخِرُواْ" ، وقال تعالى: { { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ } [الحج: 28]، فإذا جَمعت بين الآية والخبر جُعِلَ الثلثُ للصدقةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { كَذٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }؛ أي مِثْلَ ما وَصَفْنَا من نَحرِها وقيامها سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ؛ أي ذلَّلْنَاهَا لكم؛ لتتمكَّنوا من نحرِها على الوجهِ الْمَسْنُونِ؛ لكي تَشْكُرُوا نِعَمَ اللهِ تعالى.