خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ
١٤
-المؤمنون

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً }؛ أي صَيَّرْنَا النطفةَ دَماً منعَقِداً، ثم صيَّرنا الدمَ لَحماً بلا عظمٍ، والْمُضْغَةُ: هي القطعةُ الصغيرة من اللَّحم. وقولهُ تعالى: { فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً }؛ أي حولنا المضغة عظاماً، { فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً }؛ أي ثم ألبسنا العظام لحماً؛ ليكون أبهى في النظر وليكون اللحم وقاية للعظم. وقرأ ابن عامر: (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عَظْماً فَكَسَوْنَا الْعَظْمَ لَحْماً).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ }؛ بأنْ جعلنَا فيه الرُّوحَ بعد أن لَم يكن، ثُم جعلناه ذكَراً أو أُنْثَى إلى أن أعطيناهُ الفهمَ والتمييز ليأخذ ثَدْيَ أمِّهِ عند الحاجةِ فيرتضعُ ويشتكي إذا تَضَرَّرَ بشيءٍ. وقال مجاهدُ: (مَعْنَى قَوْلِهِ: { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } يَعْنِي سَوَّيْنَا شَبَابَهُ). وقال قتادةُ: (يَعْنِي أنْبَتْنَا شَعْرَهُ وَأسْنَانَهُ). وَقِيْلَ: معناهُ: أعطيناهُ العقلَ والقوَّةَ والفهمَ، ورَبَّيْنَاهُ حالاً بعد حالٍ إلى أن بلغَ أن يتقلَّبَ في البلادِ.
وَقِيْلَ: إذا اجتمعَ الماءُ المتخلِّقُ منه الولدُ، فأولُ الحالاتِ أن يزيدَ، ثُم يستحيلُ ذلك الماءُ علقةً، وهو دمٌ غبيطٌ، ثُم يصيرُ مُضغةً، وفي تلك الحالةِ تظهرُ الأعضاءُ النَّفِيْسَةُ كالقلب والدِّماغ والكبدِ، فالقلبُ أول عُضْوٍ مكَوَّنٍ ثُم الدماغُ ثُم الكبد، ثُم يُنَحَّى بعضُها عن بعضٍ، وتخطَّطُ الأطرافُ، ثُم يصير لَحماً على عِظَامٍ، وعظامُ البَدَنِ مائتان وأربعونَ عَظْماً، فإذا نُفِخَ فيه الروحُ لأربعةَ أشْهُرٍ انقسمَ دمُ الحيضِ ثلاثةَ أقسامٍ: قسمٌ يتغذى به الولدُ، وقسم يَحْتَبسُ إلى النِّفَاسِ، وقسمٌ يصعدُ إلى الثَّدي.
وإنَّما ينفخُ الرُّوحُ في الجنينِ لأربعةِ أشهُرٍ؛ لأنه يكون نطفةً أربعين يوماً، ثُم يكون علقةً أربعين يوماً، ثُم يصير مضغةً أربعين يوماً، ثُم ينفخُ فيه الرُّوحُ. ويكون الولدُ في بطنِ أُمِّهِ معتمداً على رجليه وراحة يدَيه على رُكبتيه وظهرهُ إلى وجهِ الأم، ووجههُ إلى ظهرِها حتى لا تتأذى الأمُّ بنَفَسِهِ.
وإنَّما خَلَقَ اللهُ عَيْنَيْهِ في رأسهِ لتكونُ مشرفةً على جميعِ الأعضاء في الجهات كلها، كالطَّليعةِ للعسكرِ، وأصلحُ المواضع للطلائعِ المكانُ الْمُشْرِفُ، وجعلَهُما في كَهْفَين حراسةً لَهما وتوفيراً لضوئِهما، وجعلَ لَهما الْهُدُبَ ليدفعَ ما نظر إليهما.
وخلقَ اللهُ الأنفَ لينحصرَ فيه الهواءُ الْمُسْتَنْشَقُ لترويحِ الرِّئة والدماغ. وخلقَ الفَمَ وعاءً لجميعِ الكلام، وخلقَ اللِّسان آلةً للنُّطقِ، ولتقليب الطعام الممضوغِ، والمضغُ يكون في جانِبَي الفمِ حراسةً لأداةِ النُّطق. وخلقَ الشَّفَتين غطاءً للفمِ والأسنانِ، ويَحْجُبَ اللُّعَابَ، ومُعيناً على الكلامِ، وجَمالاً في الصُّورة، والأسنانُ تُقَطِّعُ؛ والأنيابُ تكسرُ؛ والأضراسُ تطحَنُ. وخصَّ الفكَّ الأسفلَ بالتحريكِ؛ لأن تحريكَ الأخفِّ أحسنُ، لأن الأعلى يشتملُ على الأعضاءِ الشَّريفة فلم يُخاطرها في الحركةِ؛ لأن الحركةَ تُضْعِفُهَا. وجعلَ ماءَ الأُذُنِ مُرّاً لئلاَّ يقيمَ فيه الْهَوَامُ، فإذا دخلَ الأُذُنَ دابَّةً لَم يكن لَها هَمٌّ إلاّ الخروجَ. وجعلَ ماءَ العين مالحاً لئلاَّ يذوبَ، وجعل ماءَ الفمِ عَذِباً ليُطَيِّبَ طعمَ الطعام.
وخلقَ اللهُ الأصابعَ آلَةً لعملِ الأشياء كالكتابةِ والصِّناعة والخياطة، وجعلَها على الكفِّ لتحفظَ ما يُجعل فيها، ولَم يخلقِ الأصابعَ خاليةً من العظامِ لتكون أفعالُها قويَّة، ولَم يجعَلْ عِظَامَها مُجَوَّفَةً لتكون أقوَى على القبضِ والحركات. وجعل القلبَ في وسطِ الصَّدر لأنه أعدلُ الأماكنِ وقد مُيِّلَ قليلاً إلى اليسار ليبعدَ عن الكبد، والرِّئةُ، وغطاءً للقلب ووقايةً له، وهو بيتُ النَّفَسِ ومنْزِل الفَرَحِ. وخلقَ اللهُ الأمعاءَ كثيرة التَّلافِيْفِ ليطولَ سَتْرُ الغذاءِ، فلا يحتاجُ الإنسانُ إلى الغذاء في كلِّ وقتٍ، وخلقَ اللهُ القدم أخْمَصَ ليمسِكَ الماشيَ في الدَّرَجِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ }؛ أي الْمُصَوِّريْنَ الْمُحَوِّلِيْنَ من حال إلى حالٍ، ومعنى قولهِ { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ } أي استحقَّ التعظيمَ والثناء، وَقِيْلَ: دَامَ لَم يزل ولا يزالُ. وقولهُ تعالى: { أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } لا يقتضي أن يكون معهُ خالقٌ آخر كما قال
{ { أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } [الفرقان: 24]، ويقال: { أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } أي أحسنُ المقدِّرين، فإنَّ الخلقَ هو التقديرُ كما قال تعالى مُخبراً عن عيسى عليه السلام { { أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ } [آل عمران: 49] أي أُقَدِّرُ لكم من الطَّير.
قال ابنُ عبَّاس: (كَانَ عَبْدُاللهِ بْنُ شُرَيْحٍ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمْلَى عَلِيْهِ هَذِهِ الآيَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ إلَى قَوْلِهِ { آخَرَ } خَطَرَ ببَالِهِ { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ }، فَلَمَّا أمْلاَهَا عَلَيْهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كَذلِكَ، قَالَ عَبْدُاللهِ: إنَّ مُحَمَّداً نَبِيٌّ يُوحَى إلَيْهِ، وَأنَا نَبيٌّ يُوحَى إلَيَّ. فَلَحِقَ بمَكَّةَ فَمَاتَ كَافِراً).