خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَٱلزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذٰلِكَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ
٣
-النور

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { ٱلزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَٱلزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ }؛ قال ابنُ عبَّاس: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُهَاجِرِيْنَ، دَخَلُواْ الْمَدِيْنَةَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَسَاكِنُ وَلا مَالٌ يَأْكُلُونَ مِنْهُ وَلاَ أهْلٌ يَأْوُونَ إلَيْهِمْ، وَفِي الْمَدِيْنَةِ بَاغِيَاتٌ سَافِحَاتٌ يَكْرِيْنَ أنْفُسَهُمَّ وَيَضْرِبْنَ الرَّايَاتِ عَلَى أبْوَابهِنَّ يَكْتَسِبْنَ بذلِكَ، وَكَانَ أُوْلَئِكَ الْمُهَاجِرِيْنَ الْفُقَرَاءَ يَطْلُبُونَ مَعَايشَهُمْ بالنَّهَارِ وَيَأْوُونَ إلَى الْمَسَاجِدِ باللَّيْلِ، فَقَالُواْ: لَوْ تَزَوَّجْنَا مِنْهُنَّ فَعِشْنَا مَعَهُمْ إلَى يَوْمِ يُغْنِيْنَا اللهُ عَنْهُنَّ، وَقَصَدُواْ أنْ يَتَزَوَّجُوهُنَّ وَيَنْزِلُواْ مَنَازِلَهُنَّ، وَيَأْكُلُواْ مِنْ كَسْبِهنَّ، فَشَاوَرُواْ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فِي ذلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ، فَنُهُواْ أنْ يَتَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى أنْ يُحِلُّوهُنَّ وَالزِّنَا).
والمعنى: لا يرغبُ في نكاحِ الزانية إلاّ زَانٍ مثلُها، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{ ٱلْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ } [النور: 26] مَيْلُ الخبيثِ إلى الخبيثِ وميلُ الطيِّب إلى الطيب، وقد يقعُ الطيبُ مع الخبيثِ، لكن الأعمَّ والأغلبَ ما ذكرنا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَحُرِّمَ ذٰلِكَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ }؛ أي حُرِّمَ على المؤمنينَ تزويجُ تلك الباغياتِ المعلِنات بالزِّنا، وفيه بيانُ أن مَن يتزوجُ بامرأةٍ منهنَّ فهو زَانٍ، فالتحريمُ كان خاصَّة على أولئكَ دون الناسِ.
ومذهبُ سعيدِ بن المسيَّب: أنَّ التحريمَ كان عامّاً عليهم وعلى غيرِهم، ثُم نُسِخَ التحريمُ بقولهِ تعالى
{ وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ } [النور: 32]، فإن تزوجَ الرجلُ امرأةً وعاينَ منها الفجُورَ لَم يكن ذلك تَحريْماً بينَهما ولا طَلاقاً، ولكنه يُؤْمَرُ بطلاقِها تَنَزُّهاً عنها، ويخافُ عليه الإثمَ في إمساكِها؛ لأن اللهَ تعالى شَرَطَ على المؤمنين نكاحَ الْمُحصَناتِ من المؤمناتِ.
ورويَ
"أنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إنَّ امْرَأتِي لاَ تَرُدُّ يَدَ لاَمِسٍ! فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: طَلِّقْهَا فَقَالَ: إنِّي أُحِبُّهَا، وَأخَافُ إنْ طَلَّقْتُهَا أنْ أُصِيْبَها حَرَاماً، فَقَالَ لَهُ: أمْسِكْهَا إذاً" . إلاّ أنَّ هذا الحديثَ فيه خلافُ الكتاب؛ لأن اللهَ تعالى أذِنَ في نكاحِ الْمُحصَناتِ، ثُم أنزلَ اللهُ في القاذفِ لامرأته آيةَ اللِّعانِ، وسَنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم التفريقَ بينهما، ولا يجتمعان أبداً، فكيفَ يأمرهُ بالوقفِ على عاهرةٍ لا تَمتنعُ عمَّن أرادَها، والحديثُ الذي ذُكِرَ لَم يصِحَّ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ثُم إنْ صَحَّ فتأويلهُ أنَّها امرأةٌ ضعيفةُ الرَّأيِ في تضييعِ مال زوجِها، فهي لا تَمْنعهُ مِن طالبٍ ولا تحفظهُ من سارقٍ، وهذا التأويلُ أشبهُ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وأحرَى لحديثهِ. ويحتملُ أن يكون قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَحُرِّمَ ذٰلِكَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } إشارةً إلى الزِّنا.
وعن عمرِو بن شُعيبٍ عن أبيه عن جدِّه: (أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي مَرْثَدَ الْغَنَوِيِّ، كَانَ قَدْ أمَرَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ يَحْمِلُ ضَعَفَةَ الْمُسْلِمِيْنَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِيْنَةِ، وَمِنَ الْمَدِيْنَةِ إلَى مَكَّةَ، وَكَانَتْ لَهُ صَدِيْقَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُقَالُ لَهَا: عِنَاقٌ، فَلَقِيَتْهُ بمَكَّةَ فَدَعَتْهُ إلَى نَفْسِهَا فَأَبَى وَقَالَ: إنَّ الإسْلاَمَ قَدْ حَالَ دُونَ ذلِكَ، فَقَالَتْ لَهُ: فَانْكَحْنِي، فَقَالَ: حَتَّى أُشَاوِرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَعَتْ بهِ إلَى الْمُشْرِكِيْنَ، فَهَرَبَ إلَى الْمَدِيْنَةِ وَأخْبَرَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَشَاوَرَهُ فِي تَزَوُّجِهَا، فأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). وبَيَّنَ أن نكاحَ المشركةِ زنا؛ لأنَّها لا تحلُّ له، وقَرَنَ بين الزِّنا والشِّركِ على طريقِ المبالغة في الزَّجرِ عن الزِّنا حين كان القومُ يألَفُون الزنا ألْفاً شديداً.
وكان بحسب ظاهر الآية أن يكونَ للزانِي أن يتزوجَ المشركةَ، وللزَّانيةِ أن تتزوجَ المشركَ، ولا خلافَ أن ذلك غيرُ جائرٍ، وأنَّ نكاحَ المشركاتِ وتزوُّجَ المشركين منسوخٌ بقولهِ تعالى
{ { وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ } [البقرة: 221] وبقوله { وَلاَ تُنْكِحُواْ ٱلْمُشِرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُواْ } [البقرة: 221].
وذهبَ بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ معنى الآية: الزانِي لا يطَأُ إلاّ زانيةً؛ أي لا يزنِي حينَ يزنِي إلاّ بزانيةٍ مثله، وكذلك الزانيةُ لا يزنِي بها إلاّ زَانٍ مثلُها، حتى إذا طاوعَ أحدُهما الآخرَ، فهُمَا سواءٌ في استحقاقِ الحدِّ وعقاب الآخرة، فكأنَّ المرادَ بالنكاحِ الوطءُ.