خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ ٱلرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً
٣٨
وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ ٱلأَمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً
٣٩
-الفرقان

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ ٱلرَّسِّ }؛ أي أهلَكْنا عَاداً وثَموداً وأصحابَ الرَّسِّ. قال قتادةُ: (الرَّسُّ بئْرٌ بالْيَمَامَةِ)، قال السديُّ: (بَأَنْطَاكِيَّةَ وَنَبيُّهُمْ حَنْظَلَةُ)، وإنَّما سُمُّوا أصحابَ الرَّسِّ؛ لأنَّهم قَتلُوا نَبيَّهُمْ ورَسُّوهُ في تلكَ البئرِ، والرَّسُّ واحدٌ. وقال مقاتلُ والسدي: (هُمْ أصْحَابُ الرَّسِّ، وَالرَّسُّ بئْرٌ، فَقَتَلُوا فِيْهَا حَبيْبَ النَّجَّارِ فَنَسَبَهُمْ إلَيْهَا، وَهُمُ الَّذِيْنَ ذكَرَهُمْ فِي سُورَةِ يس). وَقِيْلَ: هم أصحابُ الأُخْدُودِ الذين حفروهُ. وقال عكرمةُ: (هُمْ قَوْمٌ رَسُّوا لِنَبيِّهِمْ) أي دَسُّوهُ في البئرِ.
رُوي أن رَجُلاً سألَ عليَّ بنَ أبي طالبٍ رضي الله عنه فقالَ: يا أميرَ المؤمنينَ أخبرْنِي عن أصحاب الرَّسِّ، أينَ كانت منازلُهم، وبماذا أُهلِكُوا، ومَن نبيُّهم، فإنِّي أجدُ في كتاب الله ذِكْرَهم، ولا أجدُ خَبَرَهم؟ فقال عليُّ رضي الله عنه: (لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ حَدِيْثٍ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أحَدٌ قَبْلَكَ، وَلاَ يُحَدِّثُكَ بهِ أحَدٌ بَعْدِي، وَكَانَ مِنْ قِصَّتِهِمْ أنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً يَعْبُدُونَ شَجَرَةَ صُنَوْبَرٍ، كَانَ غَرَسَهَا يَافِثُ بْنُ نُوحٍ عَلَى شَفِيْرِ عَيْنٍ جَاريَةٍ، وَإنَّمَا سُمَّواْ أصْحَابَ الرَّسِّ؛ لأنَّهُمْ رَسُّوا نَبيَّهُمْ فِي الأَرْضِ، وَذلِكَ أنَّهُ قِيْلَ لِسُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد، وَكَانُوا إثْنَا عَشَرَ قَرْيَةً عَلَى شَاطِئ نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ الرَّسُّ مِنْ بلاَدِ الْمَشْرِقِ، وَكَانَ مَلِكُهُمْ يُسَمَّى تَرْكُولُ بْنُ عَامُورَ بْنِ يَاويْسَ بْنِ شَارب بْنِ نَمْرُودَ بْنِ كَنْعَانَ، وَكَانَ أعْظَمُ مَدَائِنِهِمْ سِنْدِبَادُ بهَا الْعَيْنُ، وَالصُّنَوبَرَةُ وهِيَ شَجَرَةٌ عَظِيْمَةٌ.
وَكَانُوا قَدْ حَرَّمُوا مَاءَ الْعَيْنِ وَهِيَ غَزِيْرَةُ الْمَاءِ، فَلاَ يَشْرَبُونَ مِنْهَا، وَلاَ يَسْقُونَ أنْعَامَهُمْ، وَمَنْ فَعَلَ ذلِكَ مِنْهُمْ قَتَلُوهُ، وَيَقُولُونَ: هِيَ حَيَاةُ آلِهَتِنَا! فَلاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ أنْ يَنْقُصَ مِنْ حَيَاتِهَا. وَقَدْ جَعَلُواْ فِي كُلِّ شَهْرٍ عِيْداً يَجْتَمِعُ إلَيْهِ أهْلُ كُلِّ قَرْيَةٍ، وَيَضْرِبُونَ عَلَى الشَّجَرَةِ ثِيَاباً مِنْ حَرِيْرٍ فِيْهَا مِنْ أنْوَاعِ الصُّوَرِ، ثُمَّ يَأْتُوا بشِيَاهٍ وَبَقَرٍ فَيَذْبَحُونَهَا قُرْبَاناً لِلشَّجَرَةِ، ثُمَّ يُوقِدُونَ النَّارَ وَيَشْوُونَ اللَّحْمَ، فَإذا انْقَطَعَ الدُّخَّانُ وَالنَّارُ خَرُّوا سُجَّداً لِلشَّجَرَةِ يَبْكُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ إلَيْهَا أنْ تَرْضَى عَنْهُمْ.
وَكَانَ الشَّيْطَانُ يَجِيْءُ فَيُحَرِّكَ أغْصَانَهَا وَيَصِيْحُ فِي سَاقِهَا: إنِّي قَدْ رَضِيْتُ عَنْكُمْ عِبَادِي، فَطِيْبُوا نَفَساً وَقَرُّوا عَيْناً، فَعِنْدَ ذلِكَ يَرْفَعُونَ رُؤُوسَهُمْ مِنَ السُّجُودِ وَيَضْرِبُونَ الدُّفُوفَ وَيَشْرَبُونَ الْخُمُورَ.
فَلَمَّا طَالَ كُفْرُهُمْ بَعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولاً، فَلَبثَ فِيْهِمْ زَمَاناً طَوِيْلاً يَدْعُوهُمْ إلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، فَلَمَّا رَأى تَمَادِيْهِمْ فِي الْغَيِّ والضَّلاَلِ قَالَ: يَا رَب إنَّ عِبَادَكَ أبَوا وَكَذبُواْ وَعَبَدُواْ شَجَرَةً لاَ تَنْفَعُ وَلاَ تَضُرُّ، فَأَيْبسْ شَجَرَتَهُمْ يَا رَب، فَأَصْبَحواْ وَقَدْ يَبسَتْ شَجَرَتَهُمْ فَهَالَهُمْ ذلِكَ، وَقَالُواْ: إنَّ هَذا أيْبَسَ شَجَرَتَكُمْ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ غَضِبَتْ آلِهَتُكُمْ حِيْنَ رَأتْ هَذا الرَّجُلَ يَعِيبَهَا وَيَدْعُوهُمْ إلَى عِبَادَةِ غَيْرِهَا، فَحَيَتْ وَغَضِبَتْ لِكَيْ تَغْضَبُواْ لِغَضَبهَا وَتَنْصُرُونَهَا. فَاجْتَمَعَ رَأيُهُمْ عَلَى قَتْلِهِ، فَطَرَحُوهُ فِي بئْرٍ ضَيِّقَةِ الْمَدْخَلِ عَمِيْقَةِ الْقَعْرِ، وَجَعَلُواْ عَلَى رَأسِهَا صَخْرَةً عَظِيْمَةَ، وَقَالُواْ: إنَّمَا غَرَضُنَا أنْ تَرْضَى بنَا آلِهَتُنَا إذا رَأتْ أنْ قَدْ قَتَلْنَا مَنْ كَانَ يَعِيْبُهَا وَدَفَنَّاهُ بحُكْمِ كَسْرِهُا، فَتَعُودُ لَهَا نَضَارَتُهَا وَنُورُهَا وَخُضْرَتُهَا كَمَا كَانَتْ.
فَبَقَواْ عَامَّةَ يَوْمِهِمْ يَسْمَعُونَ أنِيْنَ نَبيِّهِمْ عليه السلام وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَب؛ قَدْ تَرَى ضِيْقَ مَكَانِي وَشِدَّةَ كَرْبي، فَارْحَمْ ضَعْفِي وَقِلَّةَ حِيْلَتِي وَعَجِّلْ قَبْضَ رُوحِي، وَلاَ تُؤَخِّرْ إجَابَةَ دَعْوَتِي. فَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ.
فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: يَا جِبْرِيْلُ؛ إنَّ عِبَادِي هَؤُلاَءِ غَرَّهُمْ حِلْمِي، وَأمِنُواْ مَكْرِي وَعَبَدُواْ غَيْرِي، وَقَتَلُواْ رَسُولِي، وَأنَا الْمُنْتَقِمُ مِمَّنْ عَصَانِي، وَإنِّي حَلَفْتُ لأَجْعَلَنَّهُمْ عِبْرَةً وَنَكَالاً. فَأَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ ريْحاً حَمْرَاءَ عَاصِفاً تَتَوَقَّدُ، فَفَزِعُواْ مِنْهَا وَانْضَمَّ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ حَتَّى صَارُواْ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ حَرُّهَا، وَبَعَثَ اللهُ سُبْحَانَهُ سَحَابَةً سَوْدَاءَ فَأَلْقَتْ عَلَيْهِمْ كَالْقُبَّةِ "الْحَمْرَاءِ" تَلْهَبُ، فَذابَتْ أبْدَانُهُمْ كَمَا يَذُوبُ الرَّصَاصُ فِي النَّارِ، نَعُوذُ باللهِ مِنْ غَضَبهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً }؛ أي وأهلَكْنا قُروناً كثيرةً بين عادٍ إلى أصحاب الرسِّ من لَم نسَمِّه لكَ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ ٱلأَمْثَالَ }؛ أي وكلٌّ مِن هؤلاءِ بَيَّنَّا لَهم مِما يحتاجون إليه في أمرِ دِينهم فلم يُجيبوا، { وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً }؛ أي وأهلكناهُم بالعذاب إهلاكاً، والتَّبَارُ: هو الْهَلاَكُ، وكلُّ شيء كَسَرْتَهُ فقد تَبرْتَهُ، يقال للمكسَّرِ من الذهب والفضة والزُّجاج: تِبْرٌ.