قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ}؛ أي دخلَ مُوسَى مدينةَ فرعون وهي مدينةٌ يقالُ لَها منف، وكانت مِن مِصْرَ على فَرْسَخَيْنِ. وقولهُ تعالى: {عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا}، قال ابنُ عبَّاس: (فِي وَقْتِ الظَّهِيْرَةِ عِنْدَ الْمَقِيْلِ وَقَدْ خَلَتِ الطُّرُقُ).
وَقِيْلَ: دخلَها بين المغرب والعِشَاء، وَقِيْلَ: دخلَها يومَ عيدِهم وكانوا مشغولِين عن موضعِ مدينَتِهم باللَّهْوِ واللَّعب، {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَـٰذَا مِن شِيعَتِهِ}؛ أي مِن بَنِي إسرائيلَ، {وَهَـٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ}؛ أي من القِبْطِ، وكان القبطيُّ يُسَخِّرُ الإسرائيليَّ ليحمِلَ له حَطَباً إلى مَطبَخِ فرعون، والإسرائيليُّ يَأْبَى ذلكَ، {فَٱسْتَغَاثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِ}؛ أي اسْتَنْصَرَهُ الإسرائيليُّ، {عَلَى ٱلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}، على القِبْطِيِّ، {فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ}؛ أي ضَرَبَهُ بجمعِ كفِّهِ في صدرهِ، {فَقَضَىٰ عَلَيْهِ}؛ أي قَتَلَهُ فوقعَ القبطيُّ مَيِّتاً. وكلُّ شيءٍ فَرَغْتَ منهُ وأتْمَمْتَهُ فقد قَضَيْتَ عليهِ وقَضَيْتَهُ، والوَكْزُ: الضَّرْبُ بجمعِ الكَفِّ.
وكان مُوسَى عليه السلام قد أُوْتِيَ بَسْطَةً في الْخَلْقِ وشدَّةَ القوةِ والبطش، وكان مِن نِيَّةِ موسى أنه لا يريدُ قَتْلَهُ ولَم يتعمَّدْ هَلاكَهُ، بل قَال له أوَّلاً: خَلِّ سَبيْلَهُ، فقال: إنَّما أريدهُ ليحمِلَ الحطبَ إلى مطبخِ فرعونَ، {فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ} أي قَتَلَهُ وفَرَغَ من أمرهِ، والوَكْزُ واللَّكْزُ وَالْهَز بمعنى واحدٍ وهو الدَّفْعُ، ويقالُ: وَكَزَهُ بعَصَاهُ.
فَلَمَّا قَتَلَهُ موسَى عليه السلام نَدِمَ على قتلهِ وقالَ: لَمْ أدْر بهذا، ثُم دفعَهُ في الرَّمْلِ، {قَالَ هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ}؛ لأنِّي كنتُ لا أريدُ قَتْلَهُ، ولكن هَيَّجَ الشيطانُ حَرْبي حتى ضربتهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ}؛ أي عَدُوٌّ لبَنِي آدمَ مُضِلٌّ له مُبيْنٌ عداوتَهُ لَهم.
ثُم استغفرَ مُوسَى رَبَّهُ فـ {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي}؛ بقَتْلِ القبطيِّ قَبْلَ وُرودِ الأمرِ والإذنِ لِي فيهِ، {فَٱغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ}؛ أي بما أنعمتَ عليَّ بالمغفرةِ والحِلْمِ والعلمِ فلن أكونَ عَوْناً للكافرينَ، وهذا يدلُّ على أنَّ الإسرائيليَّ الذي أعانَهُ موسى كان كَافِراً.