خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي ٱللَّهُ ٱلشَّاكِرِينَ
١٤٤
-آل عمران

التفسير الكبير

قوله عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ }؛ الآيةُ، قال المفسِّرون: خرجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى أحُدٍ حتى نزلَ بالشِّعْب من أحُدٍ في سبعمائة رجلٍ، وأمَّرَ عبدَالله بن جُبير من بني عمرِو بن عَوفٍ على الرُّماة وهم خمسونَ رجُلاً، وقالَ: (أقِيْمُواْ بأصْلِ الْجَبَلِ وَأنْضَحُوا عَنَّا بالنَّبْلِ لاَ يَأْتُونَ مِنْ خَلْفِنَا، وَإنْ كَانَتْ لَنَا أوْ عَلَيْنَا فَلاَ تَبْرَحُواْ مِنْ مَكَانِكُمْ، فَإنَّا لاَ نَزَالُ غَالِبيْنَ مَا ثَبَتُّمْ مَكَانَكُمْ) فجاءَتْ قريشُ وعلى مَيْمَنَتِهِمْ خالدُ بن الوليدِ وعلى ميسرتِهم عكرمةُ بنُ أبي جهلٍ ومعهم النساءُ يضربنَ بالدُّفوفِ وَيَقُلْنَ الأشعارَ، وكانت هندُ تقول:

نَحْنُ بَنَاتُ طَارقْ نَمْشِي عَلَى النَّمَارقْ
إنْ تَغْلِبُواْ نُعَانِقْ أوْ تُدْبِرُواْ نُفَارقْ
فَرَاقَ غَيْرِ وَامِقْ

فحملَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه على المشركين فهزمُوهم، وقَتَلَ عَلِيُّ بْنُ أبي طَالِبٍ طَلحةَ بْنَ أبي طلحةَ وهو يحملُ لواءَ المشركين، وأنزلَ اللهُ نصرَهُ على المؤمنين.
قال الزُّبَيْرُ: فرأيتُ هِنْداً وصواحباتِها هارباتٍ مُصْعَدَاتٍ في الجبلِ، فلما نَظَرَتِ الرُّماةُ إلى القومِ قد انكشفُوا ورَأوا أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ينتهبونَ الغنيمةَ؛ أقبلُوا يريدون النَّهْبَ واختلفُوا فيما بينَهم، فقالَ بعضُهم: لا نتركُ أمرَ رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وقال بعضُهم: ما بقيَ في الأمرِ شيءٌ. ثم انطلقَ عامَّتهم ولَحِقُوا بالعسكرِ، فلما رأى خالدُ بن الوليدِ قلَّةَ الرُّماةِ واشتغالَ المسلمين بالغنيمةِ؛ صاحَ في المشركين ثم حَمَلَ على أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن خَلْفِهِمْ فهزمُوهم وقتلُوهم، ورمَى عبدُالله بن قَمِيئَةَ الحارثيُّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بحَجَرٍ فكسرَ أنفَهُ ورُبَاعِيَّتَهُ فشجَّهُ في وجههِ وأنفِه، وتفرَّقَ عنه أصحابُه صلى الله عليه وسلم.
"وكان مصعبُ بن عُمير يَذُبُّ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقُتِلَ، فَظَنَّ قاتلُه أنهُ قَتَلَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم؛ فنادَى: قتلتُ مُحَمَّداً، وأقبلَ عبدُالله بن قَمِيئَةَ يريدُ قَتْلَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ وقال: إنِّي قتلتُ مُحَمَّداً؛ وصرخَ إبليسُ لَعَنَهُ اللهُ: ألاَ إنَّ مُحَمَّداً قد قُتِلَ. وانْكَفَأَ الناسُ عنه، وجعلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدعُو الناسَ: إلَيَّ عِبَادَ اللهِ؛ إلَيَّ عِبَادَ اللهِ فاجتمعَ إليه ثلاثونَ رجُلاً فَحَمَوْهُ وكشَفُوا المشركينَ عنه، وأصيبَت يدُ طلحةَ بنِ عبدِالله فَيَبسَتْ وبها كان يَقِي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وأصيبَت عَيْنَيّ قتادةَ بن النُّعمان حتى وَقَعَتْ على وَجْنَتِهِ؛ فردَّها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مكانَها فعادت أحسنَ ما كانت.
فلما انصرفَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أدركَهُ أبَيُّ بنُ خَلَفِ الجمحيِّ وهو يقولُ: لا نَجوتُ إنْ نَجَا، فقال القومُ: ألاَ يعطفُ عليه رجلٌ منَّا يا رسولَ اللهِ؟! فقالَ: دَعُوهُ. حتى إذا دَنَا منهُ تناوَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْحَرْبَةَ من الْحَارثِ بن الصِّمَّةِ؛ ثم اسْتَقْبَلَهُ فَطَعَنَهُ فِي عُنُقِهِ وخَدَشَهُ خَدْشَةً فَتَدَهْدَهَ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ يَخُورُ كَمَا يَخُورُ الثَّوْرُ، وَهُوَ يَقُولُ: قَتَلَنِي مُحَمَّدٌ، وحملَهُ أصحابُه وقالوا لَهُ: ليسَ عليك بأْسٌ، قَالَ: لو كانت هذه الطعنةُ برَبيْعَةَ وَمُضَرَ لَقَتَلَتْهُمْ، أليسَ قالَ: أقْتُلُكَ: فلو بَزَقَ عَلَيَّ بَعْدَ تِلْكَ الْمَقَالَةِ قَتَلَنِي، فَلَمْ يَلْبَثْ إلاَّ يَوْماً حَتَّى مَاتَ"
.
"وكان أبَيُّ قد قالَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ هذا: عندي فرسٌ أعلِفُها كلَّ يومِ فَرَقاً مِن ذرَّةٍ أقْتُلُكَ عليها، فقال صلى الله عليه وسلم: بَلْ أنَا أقْتُلُكَ إنْ شَاءَ اللهُ" فأصدَقَ اللهُ قَوْلَ نَبيِّهِ صلى الله عليه وسلم.
وفشَا في الناسِ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قُتِلَ، قالَ بعضُ المسلمين: ليتَ لنا رَسُولاً إلى عبدِالله بن أبَيٍّ فيأَخُذْ لنا أمَاناً من أبي سُفيان؟! وبعضُ الصحابَةِ جلسُوا وألقَوا بأيديهم. وقال أنَاسٌ مِنْ أهْلِ النَّفَاقِ: إنْ كَانَ قَدْ قُتِلَ مُحَمَّدٌ فَالْحَقُواْ بدِينِكُمْ الأوَّلِ، فقال أنسُ بن النَّضر عَمُّ أنسِ بن مالك: يَا قَوْمِ؛ إنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ قُتِلَ؛ فَإنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ حَيٌّ لَمْ يُقْتَلْ وَهُوَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا تَصْنَعُونَ بالْحَيَاةِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَاتِلُواْ عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ؛ وَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ. ثم قالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أعْتَذِرُ إلَيْكَ مِمَّا يَقُولُ هَؤُلاَءِ الْقَوْمُ - يَعْنِي الْمُسْلِمِيْنَ - وَأَبْرَأ مِمَّا جَاءَ بهِ هَؤُلاَءِ الْمُنَافِقُونَ. ثم حَمَلَ سَيْفَهُ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.
ثم إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم انطلقَ إلى الصخرةِ وهو يدعُو الناسَ، وأولُ من عَرَفَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كعبُ بن مالكٍ، قالَ: عَرَفْتُ عَيْنَهُ تَحْتَ الْمِغْفَرِ تَزهُرَانِ، فَنَادَيْتُ بأعْلَى صَوْتِي: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِيْنَ؛ أبْشِرُوا هَذا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَأشَارَ إلَيَّ: أن اسْكُتْ، فانْحَازَتْ الطائفةُ إليه من أصحابه فَلاَمَهُمْ على الفرار، فقالوا: يا رسولَ اللهِ؛ أتَانَا الخبرُ بأنَّكَ قُتِلْتَ؛ فَرَغِبَتْ قلوبُنا فَوَلَّيْنَا مدبرينَ. فأنزلَ اللهُ تعالى هذهِ الآيةَ { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ }.
أكرمَ اللهُ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم بهذا الاسمِ اشتُقَّ من اسْمه المحمودُ، فسمَّاه مُحَمَّداً وأحْمَدَ، وفيهِ يقولُ حَسَّانٌ:

ألَمْ تَرَ أنَّ اللهَ أرْسَلَ عَبْدَهُ ببُرْهَانِهِ وَاللهُ أعْلا وأمْجَدُ
شَقَّ لَهُ مِنَ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذا مُحَمَّدُ
نَبيٌّ أتَانَا بَعْدَ يَأَسٍ وَفَتْرَةِ مِنَ الدِّيْنِ وَالأوْثَانُ فِي الأَرْضِ تُعْبَدُ
فَأَرْسَلَهُ نُوراً مُنِيْراً وَهَادِياً يَلُوحُ كَمَا لاَحَ الصَّقِيْلُ الْمُهَنَّدُ

روي عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ: "إذا سَمَّيْتُمْ مُحَمَّداً فَأكْرِمُوهُ وَوَسِّعُواْ لَهُ فِي الْمِجْلِسِ وَلاَ تُقَبحُواْ لَهُ وَجْهاً، وَمَا مِنْ قَوْمٍ كَانَتْ لَهُمْ مَشُورَةٌ؛ فَحَضَرَ مَعَهُمْ مَنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدٌ فَأَدْخَلُوهُ فِي مَشُورَتِهِمْ إلاَّ خَارَ اللهُ لَهُمْ، وَمَا مِنْ يَدٍ وَضَعَتْ مَخْصَرَهَا مَنْ كَانَ اسْمُهُ مُحَمَّداً وأَحْمَداً إلاَّ قُرِّسَ فِي كُلِّ يَوْمٍ ذلِكَ الْمَنْزِلُ مَرَّتَيْنِ" . قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ } معناهُ: أفَإنْ مَاتَ على فراشِهِ، أو قُتِلَ في طاعةِ اللهِ رجعتُم إلى دينكم الأوَّل وقُلْتُمْ: إنْ كان نبيّاً لَمَا قُتِلَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً }؛ أي مَن يَرْجِعْ إلى دينهِ الشِّرك فلن يُنْقِصَ من مُلْكِ اللهِ شيئاً ومن سُلطانِه، وإنَّما يضُرُّ نفسَهُ، { وَسَيَجْزِي ٱللَّهُ ٱلشَّاكِرِينَ }؛ أي المؤمنينَ المجاهدين، وإنَّما سُمي الإرتدادُ انقلاباً عَلَى العَقِب؛ لأن الردَّةَ رجوعٌ إلى أقبحِ الأديان، كما أنَّ الانقلابَ على القَهْقَري أقبحُ ما يكون مِن المشي. ويسمَّى المطيعُ شاكراً؛ لأن الطَّاعات كلُّها شُكْرٌ للهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قال أبو هريرةُ رضي الله عنه: (لَمَّا تُوفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عُمَرُ رضي الله عنه وَقَالَ: إنَّ رجَالاً مِنَ الْمُنَافِقِيِْنَ يَزْعُمُونَ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَاتَ، وَإنَّ رَسُولَ اللهِ لَمْ يَمُتْ، وَاللهِ لَيَرْجِعَنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلْيُقَطِّعَنَّ أيْدِي رجَالٍ وأَرْجُلَهُمْ يَزْعُمُونَ أنَّهُ مَاتَ، فَأَقْبَلَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه حِيْنَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ؛ فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُسَجّىً بُرْدَةً؛ فكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ انْكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ؛ وَقَالَ: بأَبي أنْتَ وَأمِّي يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ أمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كَتَبَهَا اللهُ عَلَيْكَ فَقَدْ ذُقْتَهَا، ثُمَّ رَدَّ الثَّوْبَ عَلَى وَجْهِهِ وَخَرَجَ، فإذا هُوَ بعُمَرَ يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَقَالَ لَهُ: عَلَى رسْلِكَ يَا عُمَرُ؛ أنْصِتْ، فَأَبَى إلاَّ أنْ يَتَكَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ أبُو بَكْرٍ لاَ يَنْصِتُ؛ أقْبَلَ عَلَى النَّاسِ؛ فَحَمَدَ اللهَ وأثْنَى عَلَيْهِ؛ وَقَالَ: أيُّهَا النَّاسُ؛ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّداً فَإنَّ مُحَمَّداً قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ فَإنَّ اللهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ } قَالَ عُمَرُ: مَا هُوَ إلاَّ أنْ سَمِعْتُ أبَا بَكْرٍ يَتْلُوهَا إلاَّ عُقِرْتُ حَتَّى وَقَعْتُ عَلَى الأرْضِ مَا تَحْمِلُنِي رِجْلاَيَ؛ وَعَرَفْتُ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَاتَ).