خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً
٧٢
-الأحزاب

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ }، معناه: إنا عرَضنا الأمانةَ التي هي الشرائعُ والفرائض التي يتعلَّقُ بأدائها الثوابُ وبتركها العقاب. قال ابنُ عباس: (عُرِضَتِ الأَمَانَةُ عَلَى السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ الَّتِي زُيِّنَتْ بالنُّجُومِ وَحَمَلَتِ الْعَرْشَ الْعَظِيْمَ، فَقِيْلَ لَهُنَّ بأَخْذِ الأَمَانَةِ بَما فِيهَا، قُلْنَ: وَمَا فِيهَا، قِيلَ: إنْ أحْسَنْتُنَّ جُزِيتُنَّ، وَإنْ أسَأْتُنَّ عُوقِبْتُنَّ، قُلْنَ: لاَ. ثُمَّ عُرِضَتِ الأَمَانَةُ عَلَى الْجِبَالِ الصُّمِّ الشَّوَامِخِ الصِّلاَب الْبَوَاذِحِ)، { فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا }. قال ابنُ جريج: (قَالَتِ السَّمَاءُ: يَا رَب خَلَقْتَنِي وَجَعَلْتَنِي سَقْفاً مَحْفُوظاً، وَأجْرَيتَ فِيَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ، لاَ أعْمَلُ فرِيضَةً وَلاَ أبْتَغِي ثَوَاباً. وَقَالَتِ الأَرْضُ: يَا رَب جَعَلْتَنِي بسَاطاً وَمِهَاداً، وَشَقَقْتَ فِيَّ الأَنْهَارَ، وَأنْبَتَّ فِيَّ الأَشْجَارَ، لاَ أتَحَمَّلُ فَرِيضَةً وَلاَ أبْتَغِي ثَوَاباً وَلاَ عِقَاباً).
ومعنى قولهِ: { فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا } أي مخافةً وخِشيَةً لا معصيةً ولا مخالفة، والعرضُ كان تَخييراً لا إلزاماً، قولهُ: { وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } أي خِفْنَ من الأمانةِ أن لا توفِّيها، فيلحقهُنَّ العقابُ، فأَبَوا ذلك تَعظيماً لدِين الله وخَوفاً أن لا يقوموا به، وقالوا: نحنُ مسخَّرات لأمرِكَ لا نريدُ ثَواباً ولا عقاباً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }، يعني: وحَملَها آدمُ عليه السلام قال الله له: يا آدمُ إني عرضتُ الأمانةَ على السَّماوات والأرض والجبالَ فأبَين أن يحمِلنَها ولم يُطِقْنَها، فهل أنتَ آخذُها بما فيها؟ قال: يا رب وما فيها؟ قال: إنْ أحسنتَ جُزِيتَ، وإنْ أسأتَ عُوقِبْتَ. فتحمَّلها آدمُ، وقال: حَمَلتُها بين أذُنَيَّ وعاتِقي.
قال ابنُ عباس: (عَرَضَ اللهُ عَلَى آدَمَ أدَاءَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي مَوَاقِيتِهَا، وَأدَاءَ الزَّكَاةِ عِنْدَ مَحِلِّهَا، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَحِجِّ الْبَيْتِ، عَلَى أنَّ لَهُ الثَّوَابَ وَعَلَيْهِ الْعِقَابَ، فَقَالَ: بَيْنَ أُذُنَيَّ وَعَاتِقِي).
وقال مقاتل: (قَالَ اللهُ تَعَالَى لآدَمَ: أتَحْمِلُ هَذِهِ الأَمَانَةَ وَتَرْعَاهَا حَقَّ رعَايَتِهَا؟ فَقَالَ آدَمُ: وَمَا لِي عِنْدَكَ؟ قَالَ: إنْ أحْسَنْتَ وَأطَعْتَ وَرَعَيْتَ الأَمَانَةَ، فَلَكَ الْكَرَامَةُ وَحُسْنُ الثَّوَاب فِي الْجَنَّةِ، وَإنْ عَصَيْتَ وَأَسَأْتَ مُعَذِّبُكَ وَمُعَاقِبُكَ. قَالَ: قَدْ رَضِيتُ يَا رَب، وَتَحَمَّلَهَا. فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَدْ حَمَّلْتُكَهَا. فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }.
قال الكلبيُّ: (ظُلْمُهُ حَيْثُ عَصَى رَبَّهُ وَأُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَجَهْلُهُ حَيْثُ تَحْمَّلَهَا). وقال مقاتلُ: (ظَلُوماً لِنَفْسِهِ، جَهُولاً بعَاقِبَةِ مَا حُمِّلَ). وقال مجاهدُ: (لَمَّا خَلَقَ اللهُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ وَالْجِبَالَ، عُرِضَتِ الأَمَانَةُ عَلَيْهَا فَلَمْ تَقْبَلْهَا فَلَمَّا خَلَقَ اللهُ آدَمَ عَرَضَهَا عَلَيْهِ فَقَالَ: قَدْ تَحَمَّلْتُهَا يَا رَب. قال مجاهدُ: فَمَا كَانَ بَيْنَ أنْ تَحَمَّلَهَا وَبَيْنَ أنْ أُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ إلاَّ قَدْرَ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ وَالظُّهْرِ).
وعن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: (إنَّ اللهَ قَالَ لآدَمَ: إنِّي عَرَضْتُ الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَلَمْ يُطِقْنَهَا، فَهَلْ أنْتَ حَامِلُهَا بمَا فِيهَا؟ قَالَ: يَا رَب وَمَا فِيهَا؟ قَالَ: إنْ حَفِظْتَهَا أُجِرْتَ، وَإنْ ضَيَّعْتَهَا عُوقِبْتَ، قَالَ: قَدْ تَحَمَّلْتُهَا. فَمَا بِقِيَ فِي الْجَنَّةِ إلاَّ كَقَدْر مَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا).
وقال زيدُ بن أسلَمْ: (الأَمَانَةُ هِيَ الصَّوْمُ وَالْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ)، وقال بعضُهم: (هِيَ أمَانَاتُ النَّاسِ وَالَوَفَاءُ بالْعُهُودِ. فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُؤمِنٍ أنْ لاَ يَغُشَّ مُسْلِماً فِي شَيْءٍ لاَ قَلِيلٍ وَلاَ كَثِيرٍ).
وقال السديُّ: (هِيَ ائْتِمَانُ آدَمَ ابْنَهُ قَابيلَ عَلَى أهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَذلِكَ أنَّ آدَمَ عليه السلام لَمَّا أرَادَ أنْ يَحُجَّ إلَى مَكَّةَ، قَالَ: يَا سَمَاءُ احْفَظِي أوْلاَدِي بالأَمَانَةِ، فَأَبَتْ وََقَالَ لِلأَرْضَ كَذلِكَ، فَأَبَتْ. وَقَالَ لِلجِبَالِ كَذلِكَ، فَأَبَتْ. ثُمَّ قَالَ لابْنِِهِ قَابيلَ: أتَحْفَظُهُمْ بالأَمَانَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، تَذْهَبُ وَتَرْجِعُ فَتَجِدُ أهْلَكَ كَمَا يَسُرُّكَ. فَانْطَلَقَ آدَمُ وَرَجَعَ وَقَدْ قَتَلَ قَابيلُ هَابيلَ، فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } يَعنِي قَابيلَ حِينَ حَمَلَ أمَانَةَ أبيهِ ثُمَّ لَمْ يَحْفَظْهَا).