خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ
١٥
قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ
١٦
وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ
١٧
قَالُوۤاْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٨
قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ
١٩
وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ
٢٠
ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ
٢١
وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٢٢
أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ ٱلرَّحْمَـٰنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ
٢٣
إِنِّيۤ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٢٤
إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَٱسْمَعُونِ
٢٥
قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ قَالَ يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ
٢٦
بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُكْرَمِينَ
٢٧
-يس

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ * قَالُوۤاْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ }
والقصَّةُ: أنَّ عيسَى عليه السلام لَمَّا بعثَ الرسولَين إلى أنطاكيَّة وقَرُبَا من المدينةِ، وجَدَا شيخاً كَبيراً يرعَى غُنَيمَاتٍ له وهو حبيبُ النجَّار فسَلَّما عليه، فقالَ لَهما: مَن أنتُما؟ قالاَ: رسُولاَ عيسَى عليه السلام ندعُوكم إلى عبادةِ الله تعالى، قالَ: هل معَكُما آيةٌ؟ قالاَ: نَعَمْ؛ نَشفِي المريضَ ونُبرِئُ الأكْمَهَ وَالأبرصَ بإذنِ الله تعالى. فقالَ الشيخُ: إنَّ لِي إبناً مَريضاً صاحبَ فِرَاشٍ منذُ سِنينَ، قالاَ: فَانطَلِقْ بنا إليهِ.
فانطلقَ بهما إليه، فمَسَحا ابنَهُ فقامَ من ساعتهِ صَحيحاً بإذنِ الله تعالى. ففشَا الخبرُ في المدينةِ، وشفَى اللهُ على أيدِيهما كَثيراً من المرضَى، وآمَنَ حبيبُ النجَّار، وجعلَ يعبدُ اللهَ تعالى في غار جَبَلٍ في أبعدِ أطرافِ المدينة.
فسمعَ الملِكُ بخبرِ هذين الرَّسولَين، وكان يعبدُ الأصنامَ، فدعَا لَهُما فأتياهُ، فقالَ لَهما: مَن أنتُما؟ قالاَ: رسولاَ عيسَى عليه السلام ندعُوكَ إلى عبادةِ الله تعالى، قال: وما آيتُكما؟ فقالاَ: نُبرِئُ الأكمَهَ والأبرصَ، فغَضِبَ الملِكُ وأمرَ بهما فحُبسَا، وجُلِدَ كلُّ واحدٍ منهما مائةَ جلدةٍ.
فلمَّا كُذِّبَ الرسُولاَنِ، بعثَ عيسى رسُولاً ثالثاً يقالُ له: شَمعون المصفِّي على إثرِهما لينصُرَهما، فدخلَ شمعونُ البلدَ متنكِّراً، وجعلَ يعاشِرُ حاشيتَهُ حتى أفشَوا به، فرُفِعَ خبرهُ الى الملِكِ فدعاهُ فأكرمَهُ وأنِسَ بهِ. فقالَ له ذاتَ يومٍ: أيُّها الملِكُ؛ بلَغَني أنَّكَ حبستَ رجُلَين في السِّجن وضَربتَهُما حين دعَياكَ الى دينٍ غيرِ دِينكَ، فهل كلَّمْتَهما وسمعتَ قولَهما؟ قالَ: لاَ، قالَ: فإنْ رأى الملِكُ أن يدعوَهُما ويسمعَ قولهما حتى يطَّلِعَ على ما عندهما.
فدعاهُما الملِكُ، فقالَ لهما شمعونُ: مَن أرسلَكُما؟ قالاَ: اللهُ الذي خلقَ كلَّ شيءٍ وليس له شريكٌ. فقالَ لهما شمعون: صِفَاهُ وأوجِزَا، فقالاَ: إنه يفعلُ ما يشاءُ ويحكمُ ما يريد. قال شمعونُ: وما آيَتُكما؟ قَالاَ: ما تَتمَنَّاهُ.
فأمرَ الملِكُ حتى جَاؤُا بغُلامٍ مطمُوسِ العَينَينِ، موضعُ العينين كلٌّ لجِهَةٍ، فمَا زالاَ يدعُوَان اللهَ حتى انشقَّ موضعُ البصرِ، ثم أخذا بَندُوقَتَيْنِ فوُضِعَتا في الحدَقَتَين، فصارَتا مُقْلَتَيْنِ يبصرُ بهما، فعَجِبَ الملِكُ من ذلك.
فقال شمعونُ للملِك: إنْ سألتَ إلَهكَ أن يصنعَ مثل هذا، فصَنَعَهُ كان لكَ ولآلهتكَ الشرفُ. فقال الملِكُ: ليس لِي عَنْكَ سِرُّ أُسِرُّه إليك: إنَّ إلَهنا الذي نعبده لا يسمعُ ولا يبصر ولا ينفعُ.
ثم قالَ للمرسُولِين: إنَّ هنا مَيِّتاً ماتَ منذُ سبعةِ أيَّام، فلم أدفِنْهُ وأخَّرتُه حتى يرجعَ أبوهُ، وكان أبوهُ غائباً، فإن قَدِرَ إلَهُكما على إحيائهِ آمنتُ بهِ. قالاَ: إنَّ إلَهنا قادرٌ على كلِّ شيء، ثم جعَلاَ يدعُوان اللهَ علانيةً، وجعلَ شمعون يدعُو ربَّهُ سِرّاً، فقامَ الميِّتُ حيّاً بإذنِ اللهِ تعالى، وقد تغيَّرَ وانتنَّ وهو يقولُ: أيُّها الملِكُ إنِّي متُّ منذ سبعةِ أيَّام، ووجدتُ مُشْرِكاً فأُدخِلْتُ في سبعةِ أوديةٍ من النار، فأنا أُحذِّرُكم ما أنتم عليه، فآمِنُوا باللهِ واتَّبعُوا هؤلاءِ الثلاثةَ.
فقال الملِكُ: ومَنِ الثلاثةُ؟ قالَ: شمعونُ وهذانِ، وأشارَ الى الرَّسُولَين. فتعجَّبَ الملِكُ من ذلك، وأجمعَ هو وقومهُ على قتلِ الرُّسُلِ. فبلغَ ذلك حَبيباً النجَّار وهو على باب المدينة الأقصَى.
وَقِيْلَ: إنَّ الملِكَ قالَ لَهم: إنَّكم توافقتُم على هذا الكلامِ، ثم أمرَ بهم فأُخِذُوا ونُتِفَتْ حَواجِبُهم وشُعورُ أعْيُنِهِمْ، وطِيفَ بهم، فلمَّا سمعَ حبيبُ النجَّار ذلك أقبلَ مِن أبعدِ أطرافِ المدينة يسعَى؛ أي يَعْدُو ليَنصُرَ الرسُلَ ويذكرهم ويدعو إلى طاعةِ المرسَلين، وذلكَ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ }؛ وقال حبيبُ للرُّسُل: أتُرِيدُونَ أجْراً على ما جئتم بهِ؟ قالوا: لاَ، فقالَ لقومهِ: { ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ }؛ أي مُصِيبُونَ في مقالَتِهم، فقالوا له: صَبَوْتَ إليهم يا حبيبُ ودخلتَ في دِينهم؟ فقال: { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي }؛ أي أيٌّ شيء لِي إذا لم أعبُدْ خَالِقِي، { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }، أي إليه تُرجَعُونَ عندَ البعثِ فيجزِيكم بكُفرِكم.
ثم إنَّ أهلَ المدينةِ قالوا: ليس الرُّسل بأَولى بالنبوَّة منا فيما تقولون، قالوا: ربُّنا يعلمُ إنَّا إليكم لَمُرسَلون وما علينا إلا البلاغُ المبين، أي ليس علينا إلاّ التبليغُ البيّن.
فقال القومُ للرسل: إنا تطيَّرنا بكم، أي تشاءمنا منكم، وقد كان حُبس عنهم المطرُ، فقالوا ما أصابنا هذا الشر إلاّ من قبلكم { لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ } أي لئن لم تنَتهوا من مقالتكم هذه لنقتلَنَّكم رَجْماً وليمَسَّنكم منا عذاب، يعنون القتلَ والضربَ.
فقالت لهم الرسُل: { طَائِرُكُم مَّعَكُمْ } أي شُؤْمُكم معكم وهو كُفركم بالله تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَئِن ذُكِّرْتُم } معناه لئن وُعِظتم بمواعظ اللهِ تشاءَمتُم بنا بما لا يوجبُ التشاؤمَ ولكن أنتم قومٌ مسرفون، متجاوزون عن الحدِّ في الذنب والمعصية.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ } يعني حَبيباً النجَّار (قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبعُوا مَنْ لاَ يَسْأَلُكُمْ أجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أي مَن لا يسألُكم أموالَكُم على ما جاءَكم به مِن الْهُدَى، فقالُوا له: أتَّبَعْتَهُمْ أنتَ يا حبيبُ؟ قالَ: نعَمْ (وَمَا لِي لاَ أعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ) في الآخرةِ.
ثم أنكرَ عليهم اتخاذ الأصنامِ وعبادتَها، فقال: { أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً }، كما اتَّخذتُم، { إِن يُرِدْنِ ٱلرَّحْمَـٰنُ بِضُرٍّ }، في جسَدِي أو في معيشَتِي، { لاَّ تُغْنِ عَنِّي }، لا تنفعُ عنِّي، { شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً }، يعني لا شفاعةَ لها، { وَلاَ يُنقِذُونَ }؛ أي ولا يُخلِّصُونِ من ذلك المكروهِ ولا من عذاب الله، قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنِّيۤ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }، إنْ عبدتُ غير الله كنت إذاً في الخاطئين، { إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَٱسْمَعُونِ }؛ مقالَتي.
وَقِيْلَ: إنَّ قولَهُ { إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ } خطابُ المرسَلِ، قالَ لَهم اسمعُوا كلاَمِي لتشهدوا لي به في الآخرةِ، فلمَّا قال هَذا وثبَ عليه قومهُ وثبةَ رجُلٍ واحد فقتلوهُ، قال ابنُ مسعودٍ: (وَوَطَؤُهُ بأَرْجُلِهِمْ حَتَّى خَرَجَتْ أمْعَاؤُهُ مِنْ دُبُرِهِ، فَأَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ فَهُوَ حَيٌّ فِيْهَا يُرْزَقُ)، وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: { قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ }؛ فلما دخلَها، { قَالَ يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُكْرَمِينَ }؛ تَمنَّى أن يعلَمُوا أنَّ الله غَفَرَ له ليرغَبُوا في دينِ الرُّسلِ، والمعنى: يا ليتَ قَومِي يعلمون بغُفرانِ ربي لي وإكرامِه إيَّاي بإدخالهِ لِي الجنَّة.