خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١
-الحجرات

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ }؛ أي لا تقطَعُوا أمراً دونَ اللهِ ورسولهِ، ولا تعجَلُوا بهِ، وقالت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا في قولهِ { لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ }: (أيْ تَصُومُواْ قَبْلَ أنْ يَصُومَ نَبيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم) { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ }؛ في تَضييعِ حقِّه ومخالفةِ أمرهِ، { إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ }؛ لأقوالِكم، { عَلِيمٌ }؛ بأفعالِكم، وقال جابرٍ: (نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } فِي النَّهْيِ عَنِ الذبْحِ يَوْمَ الأَضْحَى قَبْلَ الصَّلاَةِ).
وقالت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: "نَزَلْنَ فِي النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشُّكِّ)، وعن مسروقٍ قالَ: (دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فِي يَوْمِ الشُّكِّ، فَقَالَتْ لِلْجَاريَةِ: اسْقِيهِ، فَقُلْتُ: إنِّي صَائِمٌ، فَقَالَتْ: قَدْ نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْ صَوْمِ هَذا الْيَوْمِ، وَفِيْهِ نَزَلَ { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ }.
وعن الحسنِ البصريِّ قال: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الذبْحِ يَوْمَ الأَضْحَى، كَأَنَّهُ قَالَ: لاَ تَذْبَحُواْ قَبْلَ ذبْحِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وَذلِكَ أنَّ نَاساً مِنَ الْمُسْلِمِينَ ذبَحُواْ قَبْلَ صَلاَةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: فَأَمَرَهُمْ أنْ يُعِيدُواْ الذبْحَ).
وعن ابنِ عبَّاس رضي الله عنه قال: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ:
"أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَهْطاً مِنْ أصْحَابهِ وَهُمْ سَبْعٌ وَعُشْرُونَ رَجُلاً، وَأمَّرَ عَلَيْهِمُ الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو، وَأمَرَهُمْ أنْ يَسِيرُوا إلَى بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَأنْ يَمُرُّواْ عَلَى بَنِي سُلَيْمٍ، فَبَاتُوا عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الرَّحِيلِ، أضَلَّ أرْبَعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعِيراً لَهُمْ، فَاسْتَأْذنُوا الْمُنْذِرَ أنْ يَتَخَلَّفُواْ عَنْهُ حَتَّى يَطْلِبُوهُ، فَأَذِنَ لَهُمْ.
وَسَارَ الْمُنْذِرُ بمَنْ بَقِيَ مَعَهُ، وَكَانَتْ بَنُوا سُلَيْمٍ دَسَّتْ إلَى بَنِي عَامِرِ خَبَرَ أصْحَاب رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَعَدُّواْ لِقِتَالِهِمْ وَاجْتَمَعُواْ لَهُمْ، فَسَارَ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى بئْرِ مَعُونَةَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالاً شَدِيداً وَقُتِلَ الْمُنْذِرُ وَأصْحَابُهُ، وَقُتِلَ أحَدُ الأَرْبَعَةِ وَرَجَعَ الثَّلاَثَةُ إلَى الْمَدِينَةِ، فَلَقُوا رَجُلَيْنِ خَارجَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ فَقَالُواْ: مِمَّا أنْتُمَا؟ فَقَالاَ: مِنْ بَنِي عَامِرٍ، فَقَالُواْ: إنَّهُمَا مِنْ عَدُوِّنَا، فَقَتَلُوهُمَا وَأخُذوْا سَلْبَهُمَا.
وَجَاءُوا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَذكَرُوا لَهُ الْقِصَّةَ، فَقَالَ لَهُمْ صلى الله عليه وسلم: بئْسَمَا فَعَلْتُمْ، إنَّهُمَا مِنْ أهْلِ مِيثَاقِي مَنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَهَذا الَّذِي مَعَكُمْ مِنْ سَلْبهِمَا مِنْ كِسْوَتِي.
وَجَاءَ السُّلَيْمِيُّونَ يَطْلُبُونَ الْقَوَدَ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه سلم: إنَّ صَاحِبَيْكُمْ اعْتَزَمَا إلَى عَدُوَِّنَا، فَلاَ قَوَدَ فِيهِمَا وَلَكِنَّا نُؤَدِّي إلَيْكُمُ الدِّيَةَ فَأَمَرَ عليه السلام أنْ تُقْسَمَ دِيَتَهُمَا عَلَى أهْلِ مِيثَاقِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ"
.
والمعنى: لا تُقدِّموا بقولٍ ولا فعلٍ حتى يكون النبيُّ صلى الله عليه وسلم هو الذي يأمُركم في ذلك. وَقِيْلَ: إنَّ نَاساً كانوا يقولون: لو أنَّ اللهَ تعالى أمَرَ بكذا ونَهى عن كَذا، فقِيلَ: لا تُقدِّموا بين يدَي اللهِ ورسولهِ، فإنَّ اللهَ أعلمُ بصلاحِ خَلقهِ.
وقرئَ (لاَ تَقَدَّمُوا) بفتحِ التاء والدالِ، فيجوزُ أن يكون معناهما واحداً، يقالُ: قدَّمتُ في كذا وتَقدَّمتُ فيه، كما يقالُ عَجِلَتُ في الأمرِ وتعَجَّلتُ فيه بمعنى واحدٍ، ويجوز أنْ يكون معنى الضمِّ: لا تُقدِّمُوا كلامَكم ولا فعلَكم وما أنتم صانِعون في أمرٍ من الأمُور قبلَ أن يأمُرَكم اللهُ ورسوله. ومعنى قراءةِ الفتحِ لا تَقَدَّموا بأمرٍ ولا فعلٍ بحضرةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حتى يأمُرَكم به.
وَقِيْلَ: إنَّها نزلت في قومٍ كانوا يحضُرون مجلسَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإذا سُئل الرسولُ عن شيءٍ خَاضُوا فيه، وتقدَّمُوا بالفتوَى والقولِ، فنُهوا عن ذلك وزُجِرُوا عن أنْ يقولَ أحدٌ في شيءٍ من دينِ الله قبلَ أن يقولَ رسولُ الله.
وَقِيْلَ: معنى الآيةِ: لا تَمشُوا بين يدَي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك بينَ يدَي العُلماءِ؛ فإنَّهم ورثةُ الأنبياءِ، ودليلُ هذا ما رُوي عن أبي الدَّرداءِ رضي الله عنه قال:
"رَآنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمْشِي أمَامَ أبي بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ: أتَمْشِي أمَامَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَلاَ غَرَبَتْ عَلَى أحَدٍ بَعْدَ النَّبيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ خَيْرٌ مِنْ أبي بَكْرٍ رضي الله عنه" .