خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ
١٢
-الحجرات

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ } "وذلك أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذا غَزَا أوْ سَافَرَ، ضَمَّ الرَّجُلَ الْمُحْتَاجَ إلَى رَجُلَيْنِ مُوسِرَيْنِ يَخْدِمُهُمَا وَيُهَيِّءُ لَهُمَا طَعَامَهُمَا وَشَرَابَهُمَا، وَيُصِيبُ مِنْ طَعَامِهِمَا، فَضَمَّ سَلْمَانَ إلَى رَجُلَيْنِ مِنْ أصْحَابهِ فِي بَعْضِ أسْفَارهِ، فَتَقَوَّمَ سَلْمَانُ مَعَهُمَا.
فَاتَّفَقَ ذاتَ يَوْمٍ أنَّهُ لَمْ يُعِدَّ لَهُمَا شَيْئاً فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ، فَلَمَّا قَدِمَا قَالاَ لَهُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئاً؟ قَالَ: لاَ، قَالاَ: وَلِمَ؟ قَالَ: غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ، فَقَالاَ: انْطَلِقْ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاطْلُبْ لَنَا مِنْهُ طَعَاماً وَإدَاماً - وَقِيْلَ: إنَّهُمَا قَالاَ لَهُ: انْطَلِقْ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَاسْأَلْهُ لَنَا فَضْلَ إدَامٍ إنْ كَانَ عِنْدَهُ - فَذهَبَ فَسَأَلَ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إنْطَلِقْ إلَى الْخَازنِ فَلْيُطْعِمُكَ إنْ كَانَ عِنْدَهُ وَكَانَ الْخَازنُ يَوْمَئِذٍ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَانْطَلَقَ إلَيْهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ شَيْئاً.
فَرَجَعَ إلَيْهِمَا فَأَخْبَرَهُمَا بذلِكَ، فَقَالاَ: إنَّهُ بَخيلٌ يَأْمُرُهُ رَسُولُ اللهِ وَيَبْخَلُ هُوَ عَلَيْنَا، فَقَالاَ فِي سَلْمَانَ: لَوْ بَعَثْنَاهُ إلَى بئْرٍ سَمِيحَةٍ لَقَالَ: لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ! ثُمَّ جَعَلاَ يَتَجَسَّسَانِ هَلْ كَانَ عِنْدَ أُسَامَةَ مَا أمَرَ لَهُمَا بهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الإدَامِ. فَلَمَّا جَاءَا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُمَا: مَا لِي أرَى حُمْرَةَ اللَّحْمِ عَلَى أفْوَاهِكُمَا؟ قَالاَ يَا رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا تَنَاوَلْنَا يَوْمَنَا هَذا لَحْماً؟ فَقَالَ: ظَلْتُمَا تَأْكُلاَنِ لَحْمَ سَلْمَانَ وَأُسَامَةَ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِه الآيَةَ: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ }؛ والظنُّ الذي هو الإثْمُ: أن يُعرَضَ بقلب الإنسان في أخيه ما يوجبُ الريبةَ فيحقِّقهُ من غيرِ سببٍ يوجبهُ، كما رُوي في الخبرِ: إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإنَّ الظَّنَّ أكْذبُ الْحَدِيثِ"
.
وقولهُ تعالى: { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } التَّجَسُّسُ: البحثُ عن عيب أخيهِ الذي سترَهُ اللهُ عليه. ومعنى الآيةِ: خُذوا ما ظهرَ ودَعُوا ما سترَ اللهُ ولا تتَّبعوا عوراتِ الناس، قال صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَجَسَّسُواْ؛ وَلاَ تَحَاسَدُواْ؛ وَلاَ تَبَاغَضُواْ؛ وَلاَ تَدَابَرُواْ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوَاناً" .
ورُوي: أنَّ رَجُلاً جَاءَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب رضي الله عنه قَالَ لَهُ: (إنَّ فُلاَناً يُوَاظِبُ عَلَى شُرْب الْخَمْرِ، فَقَالَ لَهُ: إذا عَلِمْتَهُ يَشْرَبُهَا فَأَعْلِمْنِي. فَأَعْلَمَهُ فَذهَبَ مَعَهُ حَتَّى انْتَهَى إلَى دَارهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقَالَ: أنْتَ الَّذِي تَشْرَبُ الْخَمْرَ؟ فَقَالَ: وَأنْتَ تَتَجَسَّسُ عُيُوبَ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: تُبْتُ أنْ لاَ أعُودَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَأنَا تُبْتُ لاَ أعُودُ).
وروى زيدُ بن أسلمَ: (أنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّاب رضي الله عنه خَرَجَ ذاتَ لَيْلَةٍ وَمَعَهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إذْ شَبَّتْ لَهُمَا نَارٌ، فَأَتَيَا الْبَابَ فَاسْتَأْذنَا فَفُتِحَ لَهُمَا فَدَخَلاَ، فَإذا رَجُلٌ وَامْرَأةٌ تُغَنِّي وَعَلَى يَدِ الرَّجُلِ قَدَحٌ، فَقَالَ عُمَرُ لِلرَّجُلِ: وَأنْتَ بهَذا يَا فُلاَنُ؟ فَقَالَ: وَأنْتَ بهَذا يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ عُمَرُ: مَنْ هَذِهِ مَعَكَ؟ قَالَ: امْرَأتِي، قَالَ: وَفِي الْقَدَحِ؟ قَالَ: مَاءٌ زُلاَلٌ، فَقَالَ لِلْمَرْأةِ: وَمَا الَّذِي تُغَنِّينَ؟ فَقَالَتْ: أقُولُ:

تَطَاوَلَ هَذا اللَّيْلُ وَاسْوَدَّ جَانِبُهُ وَأرَّقَنِي أنْ لاَ حَبيبَ ألاَعِبُهْ
فَوَاللهِ لَوْلاَ خِشيَةُ اللهِ وَالتُّقَى لَزَعْزَعَ مِنْ هَذا السَّرِيرِ جَوَانِبُهْ
وَلَكِنَّ الْعَقْلَ وَالْحَيَاءَ يَكُفُّنِي وَأُكْرِمُ بَعْلِي أنْ تُنَالَ مَوَاكِبُهُ

ثُمَّ قَالَ: يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } قَالَ: صَدَقْتَ، وَانْصَرَفَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً }؛ أي لا يتناولُ بعضُكم بعضاً بظهرِ الغَيب بما يسوءُ مما هو فيه، فإنْ يتناولْهُ بما ليس فيه فهو بُهْتَانٌ،
"وسُئل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن الغيبةِ فقال: أنْ تَذْكُرَ مِنَ الرَّجُلِ مَا يَكْرَهُهُ إذا سَمِعَهُ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَإنْ كَانَ حَقّاً؟ فَقَالَ: وَإنْ كَانَ حَقّاً، وَأمَّا إذا كَانَ بَاطِلاً فَهُوَ الْبُهْتَانُ" .
وعن جابرٍ قال: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكُمْ وَالْغِيبَةَ، فَإنَّ الْغِيبَةَ أشَدُّ مِنَ الزِّنَى قِيلَ: وَكَيْفَ ذلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: إنَّ الرَّجُلَ يَزْنِي وَيَتُوبُ، فَيَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِ، وَإنَّ صَاحِبَ الْغِيبَةِ لاَ يُغْفَرُ لَهُ حَتَّى يَغْفِرَ لَهُ صَاحِبُهُ" . وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا اغْتَابَ أحَدُكُمْ أخَاهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَهُ، فَإنَّ ذلِكَ كَفَّارَةٌ لَهُ" .
وعن ابنِ عمر رضي الله عنه قَالَ: "جَاءَ مَاعِزُ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى أقَرَّ أرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَأَمَرَ برَجْمِهِ، فَمَرَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلَيْنِ يَذْكُرَانِ مَاعِزاً، فَقَالَ أحَدُهُمَا: هَذا الَّذِي سَتَرَ اللهُ عَلَيْهِ فَلَمْ تَدَعْهُ نَفْسُهُ حَتَّى رُجِمَ كَرَجْمِ الْكَلْب، فَسَكَتَ عَنْهُمَا حَتَّى مَرَّا عَلَى جِيفَةِ حِمَارٍ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إنْزِلاَ فَأَصِيبَا أكْلَةً مِنْهُ فَقَالاَ: يَا رَسُولَ اللهِ أنْأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْجِيْفَةِ؟! فَقَالَ: فَمَا أصَبْتُمَا مِنْ لَحْمِ أخِيكُمَا أعْظَمُ عَلَيْكُمَا، أمَا إنَّهُ الآنَ فِي أنْهَار الْجَنَّةِ يَنْغَمِسُ فِيْهَا" .
وقال صلى الله عليه وسلم: "لَمَّا عُرِجَ بي مَرَرْتُ بقَوْمٍ لَهُمْ أظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَلُحُومَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلاَءِ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أعْرَاضِهِمْ" . وقال رجلٌ لابنِ سيرين: إنِّي قَدِ اغْتَبْتُكَ فَاجْعَلْنِي فِي حِلٍّ، قَالَ: (إنِّي أكْرَهُ أنْ أُحِلَّ مَا حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى).
والغِيبَةُ في اللغة: هي ذِكرُ العيب بظهرِ الغيب، وذِكرُ عيب الفاسق المصرِّ على فِسقِهِ بمعنى يرجعُ إلى قبائحِ أفعالهِ على وجه التحقيرِ له فليس بغيبة كما وردَ في الحديثِ:
"اذْكُرُوا الْفَاجِرَ عَمَّا فِيْهِ كَيْ يَحْذرَهُ النَّاسُ" .
وكان الحسنُ يقول في الحجَّاج: (جَاءَنا أُخَيْفِشُ وَأُعَيْمِشُ، يَخْرُجُ إلَيْنَا ثِيَاباً قَصِيرَةً، وَاللهِ مَا عَرَفَ فِيهَا عَيْنَانِ فِي سَبيلِ اللهِ، يُرَجِّلُ جُمَّتَهُ وَيَخْطُرُ فِي مِشْيَتِهِ، وَيَصْعَدُ الْمِنْبَرَ فَيَهْدِرُ حَتَّى تَفُوتُهُ الصَّلاَةُ، لاَ مِنَ اللهِ يَتَّقِي وَلاَ مِنَ النَّاسِ يَسْتَحِي، فَوْقَهُ اللهُ وَتَحْتَهُ مِائَةُ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ، لاَ يَقُولُ لَهُ قَائِلٌ: الصَّلاةُ أيُّهَا الرَّجُلُ) ثم جعلَ الحسنُ يقول: (هَيْهَاتَ وَاللهِ!! حَالَ دُونَ ذَلِكَ السَّيْفُ وَالسَّوْطُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً }؛ أي كما كرِهتُم أكلَ لحمِ الميت طَبعاً فاكرَهُوا غيبةَ الحيِّ عقلاً، فإنَّ العقلَ أحقُّ أن يُتَّبَعَ من الطَّبعِ. ووجهُ تشبيهِ الغيبةِ لحمهِ مَيتاً أنَّ الاغتيابَ ذِكرٌ له بالسُّوءِ من غيرِ أن يُحِسَّ هو بذلكَ، فهو بمنْزِلة الأكلِ من لحمه وهو ميِّت لا يحسُّ بذلك.
وعن ابنِ عبَّاس أنَّهُ دَخَلَ الْكَعْبَةَ فَقَالَ: (مَا أطْيَبَ ريحَكِ وَأعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَلَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْ حُرْمَتِكِ، إنَّمَا جَعَلَكِ اللهُ حَرَاماً، وَحَرَّمَ مِنَ الْمُؤْمِنِ دَمَهُ وَمَالَهُ وَعِرْضَهُ، وَأنْ يُظَنَّ بهِ السُّوءُ).
وعن الحسن أنه قِيْلَ لهُ: إنَّ أقْوَاماً يَجْلِسُونَ مَجْلِسَكَ وَيَحْفَظُونَ عَلَيْكَ سَقَطَ كَلاَمِكَ ثُمَّ يَغِيبُونَكَ، فَقَالَ: طَمَّعْتُ نَفْسِي فِي جِوَار الرَّحْمَنِ وَطُولِ الْجِنَانِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النِّيرَانِ وَمُرَافَقَةِ الأَنْبيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ، وَلَمْ أُطْمِعْ نَفْسِي فِي السَّلاَمَةِ مِنَ النَّاسِ، إنَّهُ لَوْ سَلِمَ مِنَ النَّاسِ أحَدٌ لَسَلِمَ مِنْهُمْ خَالِقُهُمْ، فَإذا لَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ خَالِقُهُمْ فَالْمَخْلُوقُ أجْدَرُ أنْ لاَ يَسْلَمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَكَرِهْتُمُوهُ }؛ أي كما كَرِهتُم هذا فاجتَنِبُوا ذِكرَهُ بالسُّوء غائباً. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ }؛ أي اتَّقوهُ في الغِيبةِ، { إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ }؛ على مَن تابَ، { رَّحِيمٌ }.