خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ
١١٦
-المائدة

التفسير الكبير

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ }؛ أوَّلُ هذه الآيةِ معطوفٌ على قولهِ: { { إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ } [المائدة: 110] ويجوزُ أن يكون عَائداً على ما تقدَّم من قولهِ: { { يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ } [المائدة: 109] كأنه قالَ: إذ يقولُ الله يومَ القيامةِ، وفي آخرِ السُّورة ما يدلُّ على هذا، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى: { { قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } [المائدة: 119] وذكرَ اللفظَ على صيغةِ الماضي؛ لتحقُّقِِ أمرهِ كأنه قد وقَعَ وشُوهِدَ، ونظيرهُ { { وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ } [الأعراف: 44] وقوله: { { وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ } [إبراهيم: 22] أي سيَقُولُ.
وقال السديُّ وقطرب: (إنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لِعِيسَى عليه السلام هَذا الْقَوْلَ حِينَ رَفَعَهُ)، واحتجَّا بقولهِ:
{ { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } [المائدة: 118]، ولا خلافَ أنَّ الله لا يَغفِرُ لِمُشرِكٍ ماتَ على شِركهِ، وإنما معنى الآية: وَإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ بتَوْبَتِهِمْ.
وقال أكثرُ المفسِّرين: إنَّما يقولُ الله تعالى هذه المقالةَ يوم القيامةِ، بدليلِ ما ذكَرنا من قولهِ:
{ { يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ } [المائدة: 109]، { { يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } [المائدة: 119]، فإن قالوا (إذْ) للماضي، قُلنا قد تكون بمعنى (إذا) كقوله: { { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ } [سبأ: 51] أي إذا فَزِعوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } يعني أأنتَ قُلتَ لَهم في الدُّنيا: { ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ }؟ فإنْ قيلَ: ما وجهُ سؤالِ الله تعالى لعيسَى مع علمهِ بأنه لم يقُلْ؟ قِيْلَ: ذلكَ توبيخٌ لقومِ عيسى وتحذيرٌ لهم عن هذه المقالةِ. وَقِيْلَ: أرادَ الله بذلك أن يُقِرَّ عيسَى بالعبوديَّة على نفسهِ، فيظهرُ منه تكذيبُهم بذلك، فيكون حجَّةً عليهم.
قال أبو رَوْقٍ وميسرةَ: (إذْ قَالَ اللهُ لِعِيسَى عليه السلام: أأنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ؟ ارْتَعَدَتْ مَفَاصِلُهُ، وَانْفَجَرَتْ مِنْ كُلِّ شَعْرَةٍ مِنْ جَسَدِهِ عَيْنٌ مِنَ الدَّمِ).
ثُمَّ يَقُولُ عِيسَى عليه السلام مُجيباً اللهَ عَزَّ وَجَلَّ: { قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ }؛ أي تَنزيهاً لكَ يا رب، ما ينبغِي لي أن أدَّعي شيئاً لستُ بجديرٍ له، { إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي }؛ عندي وما في ضَمِيري، وما كان منِّي في الدُّنيا، { وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ }؛ غَيبكَ، { إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ }؛ لا يعلمُ الغيبَ أحدٌ غيرُكَ. وَقِيْلَ: معناهُ: تعلمُ ما أريدُ، ولا أعلمُ ما تريدُ، { إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } أي ما كانَ وما يكون.
وأمَّا ذِكْرُ النفسِ في قوله: { وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } فعلى من أوجُه الكلامِ: بأن الغيبَ من اللهِ تعالى في حُكمِ الضميرِ من الآدميِّين، والنَّفْسُ في كلامِ العرب على ضُروب؛ تُذكَرُ ويرادُ بها ذاتُ الشيءِ، كما يقالُ: جاءَني زيدٌ نفسُه؛ أي ذاتهُ، وقتَلَ فلانٌ نفسَهُ، وأهلَكَ فلان نفسَهُ، ويرادُ بذلك الذاتُ بكمالِها. وتُذكَرُ ويرادُ بها الروحُ، كما يقالُ: خرَجت نفسُ فلانٍ؛ أي روحهُ. وتُذكَرُ ويراد بها ما في القلب، كما يقالُ: أضمَرَ فلانٌ ما في نفسهِ كذا وكذا.
فإذا احتمل اللفظُ هذه الوجوهَ كلَّها وجبَ حملُ الآية على أصحِّ الوُجوهِ؛ لقيامِ الدَّلالة على وجوب تَنزيه صفاتِ الله تعالى عما لا يجوزُ. ولو كانت النفسُ لا تستعمل إلاَّ في أمرٍ كائن في غيرهِ لوجبَ في قولهِ تعالى:
{ { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } [النحل: 111] أنْ يقالَ: إن النفسَ نَفساً، فإذا بطَلَ ذلك صحَّ أن المرادَ به الجملةُ والذاتُ، كأنه قالَ: يومَ يأتِي كلُّ أحدٍ يجادلُ عن نفسهِ، فكان المرادُ بقوله: { وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } جُملةَ الأمرِ، وحقيقيةَ ما عندِ الله تعالى.
فإن قِيْلَ: ليس في النَّصارى مَن اتخذ مريم إلَهاً فما معنى هذا القولِ؟ قِيْلَ: إنْ لم يكن فيهم مَن يقولُ هذا القولَ اليومَ، فلا بدَّ أن يكونَ فيهم مَن قال ذلك؛ لأن هذه الآيةُ تدلُّ على أنَّهم قد قالوا ذلك، وتصديقٌ لكتاب الله تعالى أوجبَ من التصديقِ لنقل ناقلٍ.