خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ
٤٤
-المائدة

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ }؛ أي إنَّا أنزَلنا التوراةَ على موسى فيها بيانٌ من الضَّلالة ونُورٌ لمن آمَنَ به، يقضي بها النبيُّون الذين أخلَصُوا، وهذه صفةُ الأنبياءِ؛ لا أن فيهم مَن لم يخلِصْ، كما يقال: صلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ وعلى آلهِ الطيّبين، لا يرادُ بذلك أنَّ في أهلهِ غيرَ طيِّب.
والمرادُ بالنبيِّين مُوسَى وعيسى ومُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وغيرُهم من الذين كانوا من وقتِ موسى إلى وقت نبيِّنا عليهم السَّلامُ. ويقال أرادَ بالنَّبيِّين مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم فإنه كان كالنائب عن أنبياء بني إسرائيلَ في أنْ يحكُمَ في الزِّنا بينهم بحُكمِ التوراةِ.
وَقِيْلَ: معنى { ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ } أي انقَادُوا لأحكامِ الله لا على أنَّ غيرَهم من النبيِّين لم يكونوا مُسلمين. وَقِيْلَ: معنى (أسْلَمُوا) أي صَارُوا إلى السَّلامةِ، كما يقال: أصْبَحُوا وَأمْسَوا: وادَّخَلُوا في الصَّباح والمساءِ. وَقِيْلَ: معناهُ: الَّذِين أسْلَمُوا أنفُسَهم إلى اللهِ.
"كما رُوي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقولُ إذا آوَى إلَى فِرَاشِهِ: أسْلَمْتُ نَفْسِي إلَيْكَ" . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { لِلَّذِينَ هَادُواْ } يعني لليهودِ، وَقِيْلَ: معنى الآيةِ: للذين تَابُوا من الكفرِ، كما في قوله تعالى: { { وَإِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ } [الأعراف: 156].
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱلرَّبَّانِيُّونَ }؛ هم العُلماء العامِلون، يَرُبُّونَ العلمَ؛ أي يقُومون به، { وَٱلأَحْبَارُ }؛ سائرُ العلماء دون الأنبياءِ والربَّانيِّين، وإنما سُمي العالِمُ حَبراً لكثرةِ ما يكتبُ بالحبرِ، ويقال: هو مِن التحبيرِ وهو تحسينُ العلمِ، وتقبيحُ الجهلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ }؛ من الرَّجمِ وسائر الأحكامِ، { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ }؛ إنه كذلك، ومعنى (اسْتُحْفِظُوا): استَودَعُوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ }؛ خطابٌ لعلماء اليهودِ؛ أي لا تخشَوُا السَّفلةَ والْجُهَّالَ في إظهار نعت النبيِّ صلى الله عليه وسلم وآيةِ الرَّجم، واخشَوا عِقَابي في كتمانِها، { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً }؛ أي لا تختَارُوا عَرَضاً يَسيراً من الدُّنيا، فإن الدُّنيا ما فيها قليلٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ }؛ ذهبَ الخوارجُ إلى أنَّ معنى الآيةِ: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بمَا نَزَّلَ اللهُ وَحَكَمَ بخِلاَفِهِ كَانَ كَافِراً بفِعْلِ ذلِكَ، اعْتِقَاداً كَانَ أوْ غَيْرَ ذلِكَ)، وَكَفَّرُوا بذلك كلَّ مَن عصَى اللهَ تعالى بكبيرةٍ أو صغيرة، وأدَّاهم ذلك إلى الضَّلال والكُفرِ تكفيرِهم الأنبياءَ صلواتُ الله عليهم بصغائرِ ذُنوبهم!
وأما عامَّةُ أهلِ الإسلام قالوا: إن المرادَ بهذه الآية: أنَّ مَنْ جَحَدَ شيئاً مما أنزلَ اللهُ مثلَ ما فعلَهُ اليهودُ من التحريفِ والتبديل وإنكار بعض آياتِ الله تعالى، { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ }؛ أي أهلُ هذه الصِّفة بمنزلةِ الكافر بالكُتب وبالرُّسل كلِّها.
يدلُّ على هذا أنه لا خلافَ أنَّ مَن لم يَقْضِ بينهم بما نزَّلَ اللهُ لا يكفرُ بأنْ لم يحكُمْ؛ لأنَّ أكثرَ الناس بهذه الصِّفةِ، والحاكمُ بين الناس في كثيرِ حالاته لا يحكمُ، فإذا صَلُحَ الخوارجُ أن يَزِيدُوا في ظاهرِ اللفظ فيقولوا معناهُ: (مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بمَا نَزَّلَ اللهُ وَحَكَمَ بِخِلاَفِهِ) صَلُحَ لغيرِهم أن يقولوا معناهُ: ومَن لم يحكُمْ بصحَّة ما نزَّلَ اللهُ { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ }، وهذا عامٌّ في اليهودِ وغيرهم.