خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مُّبِينٍ
٥٩
-الأنعام

التفسير الكبير

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ }؛ قرأ ابن السُّمَيقِعِ: (مَفَاتِيْحُ الْغَيْب) بالياء. واختلفُوا في معنى (مَفَاتِحُ الْغَيْب) فروى عبدُالله بن عمرَ: أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَفَاتِحُ الْغَيْب خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهَا إلاَّ اللهُ: عِلْمُ السَّاعَةِ، وَنُزُولُ الْغَيْثِ، وَعِلْمُ مَا فِي الأَرْحَامِ، ومَا تَدْري نَفْسٌ مَاذا تَكْسِبُ غَداً، وَمَا تَدْري نَفْسٌ بأَيِّ أرْضٍ تَمُوتُ" . وقال السُّدِّيُّ: (مَفَاتِحُ الْغَيْب: خَزَائِنُ الْغَيْب) وَهِيَ الْمَقْدُورَاتُ الَّتِي يُفْـتَحُ بهَا مَا فِي الْغَيْب، وَسُمِّيَتِ الْخِزَانَةُ مِفْتَاحاً؛ لأَنَّهُ يَنْفَتِحُ مِنْهُ الأَمْرُ).
وقيل: { مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ } ما ينفتحُ به علمُ ما في الغيب من وقتِ نزول العذاب الذي كانوا يستعجلُون به وغيرُ ذلك. وقيل: معناهُ: { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ } أي نزولُ العذاب لا يَعلمُ متَى ينْزل ما غابَ عنكم من الثواب والعقاب، وما يصيرُ إليه من أمرِي وأمرِكم إلا هوُ. وقيل: معناهُ: { مَفَاتِحُ ٱلْغَيْب } الآجَالُ وأحوالُ العباد من السَّعادة والشَّقاوةِ، وعواقب الأمور، وخواتِم الأعمال. وقال ابنُ مسعود رضي الله عنه: (أوْتِيَ نَبيُّكُمْ عليه السلام كُلَّ شَيْءٍ إلاَّ مَفَاتِحَ الْغَيْب). وَالْمَفَاتِحُ جَمْعُ مِفْتَحٍ، وَالْمَفَاتِيْحُ جَمْعُ مِفْتَاحٍ؛ وهو معرفةُ المغيَّب.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ }؛ أي يَعْلَمُ ما في البرِّ من النباتِ والْخَلْقِ؛ وَما في الْبَحْرِ من الدواب والعجائب. وقيل: يعلمُ رزقَ كلِّ مَنْ في البرِّ والبحر، يسوقُ إلى كلِّ ذي روحٍ رزقَهُ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا }؛ قال ابنُ عبَّاس: (مَا مِنْ شَجَرَةٍ فِي الْبَرِّ إلاَّ وَبهَا مَلَكٌ مُوكَّلٌ يَعْلَمُ مَا يُؤْكَلُ مِنْهَا، وَمَا يَسْقُطُ مِنْ وَرَقِهَا، وَيَعْلَمُ عَدَدَ مَا بَقِيَ عَلَى الشَّجَرَةِ مِنَ الْوَرَقِ وَمَا يَسْقُطُ مِنْهُ). وقيل: معنى الآيةِ: { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ } من أوراقِ الشَّجر، { إِلاَّ يَعْلَمُهَا } اللهُ ثابتةً وساقطةً، ويعلمُ متَى سقوطُها وموضعُ سقوطها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلأَرْضِ }؛ أي كلُّ حبَّة تكون في الأرضِ حتى الحبَّةُ التي تكون تحتَ الصخرة التي هي أسفلُ الأرضين يعلمُها الله، وقيل: أرادَ كلَّ حبَّة تكون في شُقوق الأرضِ مِمَّا يخرجُ منها النبات. ومن قرأ (وَلاَ حَبَّةٌ) بالرفعِ فعلى الابتداء؛ وخبرهُ { إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مُّبِينٍ }.
وَقَوْلَهُ تَعَالَى: { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مُّبِينٍ }؛ أرادَ بالرَّطْب الماءَ والخضر، وباليابسِ الحجرَ والمدرَ، كلُّ ذلك مكتوبٌ في اللوحِ المحفوظ، أثبتَ اللهُ تعالى فيه كلَّ ما يخلقُ قبلَ أن يخلقَهُ، كما قال تعالى:
{ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ } [الحديد: 22].
وَاعْلَمْ: أنهُ قد أثبتَ ما خَلَقَ قبل خلقِهِ. والرطبُ واليابس عبارةٌ عن جميع الأشياءِ التي تكون في السَّماوات والأرضِ؛ لأنَّها تخلق من أحدِ هاتين الصِّفتين. وعن النبِيُّ صلى الله عليه وسلم أنهُ قال:
"مَا زَرْعٌ عَلَى الأَرْضِ وَلاَ ثِمَارٌ عَلَى الأَشْجَار؛ إلاَّ عَلَيْهَا مَكْتُوبٌ: بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، رزْقُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ" .
فإن قيلَ: ما الفائدةُ في كون ذلك مكتوباً في اللَّوح مع أنَّ اللهَ لا يخفى عليه شيءٌ، وأنه كان عالِماً بذلك قبلَ أن يخلقَه وقبل أن يكتبَه؛ ولم يكتُبها ليحفظَها ويدريها. قيل: فائدتهُ أن الحوادثَ إذا حدثت موافقةً للمكتوب، ازدادَتِ الملائكةُ بذلك علماً ويقيناً بعِظَمِ صفاتِ الله عَزَّ وَجَلُّ.