خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَأَنجَيْنَاهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ
٧٢
-الأعراف

التفسير الكبير

قولهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَأَنجَيْنَاهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا }؛ أي خَلَّصْنَاهُ من العذاب والذينَ معه بنِعْمَةٍ منَّا عليهم؛ وأمَرْناهُم بالخروجِ من بَيْنِ الكُفَّار قبلَ إنزالِ العذاب عليهم؛ { وَقَطَعْنَا دَابِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا }؛ أي اسْتَأْصَلْنَاهُمْ بالريِّحِ الْعَقِيْمِ، فما بَقِيَ منهم أحدٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } أي ما أهْلَكَهُمُ اللهُ إلاَّ وكان في عِلْمِهِ أنهُ لو لم يُهْلِكْهُمْ ما كانوا مؤمنينَ.
فصلٌ: وكانت قصة عاد وإهلاكهم على ما ذكره السُّدِّيُّ وغيره من المفسرين: (أنَّ عَاداً كانَ مساكنُهم اليمنَ، وكان مساكنُهم الأسَاف؛ وهي رمالٌ يقال لَها: رَمْلُ عَالِجٍ وَدَهْمَانَ وَنِيْرَانَ، ما بين عُمَانَ إلى حَضْرَمَوْتَ، وكانوا قد فَشَوا في الأرضِ. وقَهَرُوا أهلَها بقوَّتِهم التي أعطاهُم اللهُ إيَّاها، وكانوا يعبدونَ الأوثانَ.
فَبَعَثَ اللهُ إليهم هُوداً نَبيّاً عليه السلام مِن أوسَطِهم في النَّسَب، وأفضَلِهم في الْحَسَب، فأمَرَهم أن يُوَحِّدُوا اللهَ ولا يعبدُوا غيرَهُ، وأن يَكُفُّوا عن ظُلْمِ الناسِ، فَأَبَوا عليهِ وكَذبُوهُ وقالوا: مَنْ أشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟! وتَجَبَّروا في الأرضِ وبَطَشُوا بَطْشَةَ الجبَّارينَ، فلما فَعَلُوا ذلك أمْسَكَ اللهُ عنهمُ الْمَطَرَ ثلاَثَ سنين حتى جَهِدَهُمْ ذلك.
وكان الناسُ في ذلكَ الزَّمَانِ إذا أنْزِلَ بهم بَلاَءٌ وَجَهَدٌ مَضَوا إلى البيتِ الحرامِ بمَكَّةَ مُسْلِمُهُمْ وكافِرُهم وسألُوا اللهَ الْفَرَجَ، وكلُّ الناس مُسْلِمُهُمْ وكافِرُهم مُعَظّماً لِمَكَّةَ حَرَسَهَا اللهُ، عَارفاً بحُرْمَتِهَا. وكان أهلُ مكَّةَ يومئذ الْعَمَالِيْقَ، أبوهُم عِمْلِيْقُ بْنُ لاَودِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وكان رئيسُ العماليقِ يومئذٍ بمكة رَجُلاً يقال لهُ: مُعَاويَةُ بْنُ بَكْرٍ، وكانت أمُّهُ من عَادٍ.
فلمَّا قُحِطَ المطرُ من عَادٍ وجَهِدُوا؛ قالوا: جَهِّزُوا منكم وَفْداً إلى مَكَّةَ يَسْتَسْقِي، فَبَعَثُوا قِيلَ بن عنز، ولُقَيمَ بن هزال في سبعينَ رَجُلاً، فلما قَدِمُوا مكةَ نزلوا على مُعَاويَةَ بنِ بكرٍ وهو في خارجِ مكَّةَ، فأنزلَهم وأكرمَهم، وكانوُا أخوالَهُ وأصهارَهُ، فأقامُوا عندَهُ شَهْراً يشربونَ الْخَمْرَ وتغنِّيهم الْجَرَادَتَانِ؛ وهما قَينَتان لمعاويةَ.
فلما رأى طُولَ مقامِهم وقد بعثَهُم قومُهم يتَغَوَّثُونَ من البَلاَءِ الذي أصابَهم؛ شُقَّ ذلك عليهِ فقال: إخْوَانِي وأصْهَاري وهؤلاءِ مقيمونَ عندِي وهم ضَيْفِي، واللهِ لا أدري ما أصنعُ بهم، أسْتَحِي أن آمُرَهم بالخروجِ إلى حاجتهم، فَيَظُنُّونَ أن ذلك لضيق مكانِهم عنده، وقد هَلَكَ قومُهم من وارئِهم جَهْداً وعَطَشاً، فَشَكا ذلكَ إلى قِينَتَيْهِ الجرادتين؟ فقالتَا: قُلْ شِعْراً لِنُغَّنِّيْهِمْ بهِ لا يدرونَ مَن قالَهُ، لعلَّ ذلك يُخْرِجُهم. فقالَ: معاويةُ:

ألا يا قِيْلَ وَيْحَكَ قُمْ فَهَيْنَمْ لَعَلَّ اللهَ يَسْقِيْنَا غَمَامَا
فَيَسْقِي أرْضَ عَادٍ إنَّ عَاداً قَدْ أمْسَوا لاَ يَبينُونَ الْكَلاَمَا
مِنْ الْعَطَشِ الشَّدِيْدِ فَلَيْسَ نَرْجُو بهِ الشَّيْخَ الْكَبيْرَ وَلاَ الْغُلاَمَا
وَقَدْ كَانَتْ نِسَاؤُهُمْ بخَيْرٍ فَقَدْ أمْسَتْ نِسَاؤُهُمْ أيَامَى
وأَنْتُمْ هَا هُنَا فِيْمَا اشْتَهَيْتُمْ نَهَارَكُمْ وَلَيْلَكُمْ التَّمَامَا
فَقُبحَ وََفْدُكُمْ مِنْ وَفْدِ قَوْمِ وَلاَ لُقُوا التِّحِيَّةَ والسَّلاَمَا

فلمَّا غنَّتْهُمْ الجرادتان بهذا، قال بعضُهم لبعضٍ: يا قومِ، لقد أبطأْتُم على أصحابكم، فقومُوا وادخلُوا الْحَرَمَ واسْتَسْقُوا، فَتَقَدَّمُوا إلى الحرمِ. فقام قِيْلُ بن عنز يستسقي في المسجدِ، فقال: اللَّهُمَّ إنِّي لم أجِيءْ لمريضٍ فأداويِهِ، ولا لأسيرٍ فأُفادِيهِ، اللَّهُمَّ اسقنا فإنا قد هلكنا، اللّهُمَّ اسقِ عَادَ ما كُنْتَ تسقيهم وقال قومهُ: اللَّهُمَّ أعْطِ قِيْلاً ما سألَكَ، واجعلْ سؤَالَنا مع سُؤْلِهِ. فأنشأَ اللهُ سحابةً بيضاءَ؛ وسحابةً حمراءَ؛ وسحابةً سوداءَ، ونُودِيَ: يا قِيْلُ؛ اخْتَرْ لنفسِكَ ولقومك من هذا السَّحاب ما شِئْتَ. فقالَ: اخترتُ السوداءَ لأنَّها أكثرُ السَّحَاب ماءً. فنودي: اخْتَرْتَ رَمَاداً رمَداً لا يُبقي مِنْ آلِ عادٍ ولداً ولا شيوخاً إلا صَارُوا هُمَّداً.
ثم سَاقَ اللهُ السَّحابةَ السوداءَ التي اختارها قيلٌ بما فيها من النِّقْمَةِ والبلاءِ إلى عادٍ، حتى خرجت عليهم من وادٍ لَهم يقال لَهم: الْمُغِيْثُ. فلمَّا رأوها فَرِحُوا وقَالُوا: هَذا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا يقولُ اللهُ تعالى:
{ بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } [الأحقاف: 24-25] أي كلُّ شيء مَرَّتْ به، فسَخَّرَهَا الله عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أيَّامٍ حُسُوماً؛ أي دَائِبَةً. فكانت الريحُ تحمل الضَّعْنَ ما بين السَّماءِ والأرض وتَدْمِغُهُمْ الحجارةُ، وكانوا قد حَفَرُوا لأرجُلِهم في الأرضِ وغَيَّبُوهَا إلى رُكَبهِمْ، فجعلتِ الريحُ تدخلُ تحتَ أقدامِهم، وترفعُ كلَّ اثنين وتضربُ بأحدِهما على الآخر في الهواء، ثم تلقيهِما في الوادِي، والباقونَ ينظرُونَ حتى رَفَعَتْهُمْ كلَّهم، ثم رَمَتْ بالتراب عليهم، فكان يُسْمَعُ أنينُهم من تحتِ التُّراب. فَاعْتَزَلَ هودُ ومَنْ معهُ من المؤمنين في حَضِيْرَةٍ، فما كان يُصِيْبُهُمْ من الرِّيحِ إلاَّ ما يُلَيِّنُ جلودَهم وتلذُّ به أنفُسُهم.
وعن عمرِو بنِ شُعيبٍ عن أبيهِ عن جَدِّهِ؛ قالَ: [لَمَّا أرَادَ اللهُ إرْسَالَ الرِّيحِ الْعَقِيْمِ إلَى عَادٍ، أوْحَى اللهُ إلىَ الرِّيْحِ أنْ تَخْرُجَ إلَى عَادٍ فَيَنْتقِمُ مِنْهُمْ، فَخَرَجَتْ عَلَى قَدْر مِنْخَرِ ثَوْرِ حَتَّى رَجَفَتِ الأَرْضُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِب. فَقَالَتِ الْخُزَّانُ: يَا رَب؛ لَنْ يُطِيْقَهَا وَلَوْ خَرَجَتْ عَلَى حَالِهَا لأَهْلَكَتْ مَا بَيْنَ مَشَارقِِ الأَرْضِ وَمَغَاربهَا. فأِوْحَى اللهُ: أخْرُجِي عَلَى قَدْر خَرْقِ الْخَاتَمِ، فَخَرَجتْ عَلَى قَدْرِ ذلِكَ]. قالَ السُّدِّيُّ: (فَلَمَّا بَعَثَ اللهُ علَى عَادٍ الرِّيْحَ الْعَقِيمَ وَدَنَتْ مِنْهُم، نَظَرُوا إلَى الإبلِ وَالرِّجَالِ تَطِيْرُ بهِمُ الرِّيْحُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَتَبَادَرُواْ إلَى الْبُيُوتِ، فأَخْرَجَتْهُمُ الرِّيْحُ مِنَ الْبُيُوتِ حَتَّى أهْلَكَتُهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ).
وعن عَلِيٍّ رضي الله عنه أنَّهُ سَأَلَ رَجُلاً مِنْ حَضْرَمَوْتَ: (هَلْ رَأيْتَ كَثِيْباً أحْمَرَ تُخَالِطُهُ نُدْرَةٌ حَمْرَاءُ فِيْهِ أرَاكٌ وَسِدْرٌ كَثِيْرٌ فِي نَاحِيَةِ كَذا مِنْ حَضْرَمَوْتَ؟) قَالَ: نَعَمْ يَا أمِيْرَ الْمُؤْمِنِيْنَ؛ واللهِ إنَّكَ نَعَتَّهُ نَعْتَ رَجُلٍ قَدْ رَآهُ! قال: (إنِّي لَمْ أرَهُ؛ وَلَكِنِّي حُدِّثتُ عَنْهُ). قالَ: يَا أمِيْرَ الْمُؤْمِنِيْنَ؛ وَمَا شَأْنُهُ؟ قالَ: فِيْهِ قَبْرُ هُودٍ عليه السلام).
وعن عبدِ الرَّحمنِ بنِ السَّائِبِ؛ قال: (بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ وَزَمْزَمَ تِسْعَةً وَتِسْعِيْنَ نَبيّاً، وإنَّ قَبْرَ هُودٍ وَشُعَيْبَ وَصَالِحَ وإسْمَاعِيْلَ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ). وفي بعضِ الأخبار: أنهُ كان إذا هَلَكَ قومُ نَبِيٍّ وَنَجَا هو ومَن مَعَهُ، أتَى مَكَّةَ بمن معهُ، فيعبدونَ اللهَ فيها حتَّى يَموتُوا.