خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ ٱلسَّمْعَ وٱلأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ
٣١
فَذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمُ ٱلْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقِّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ
٣٢
كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ فَسَقُوۤاْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
٣٣
قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ ٱللَّهُ يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ
٣٤
قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ قُلِ ٱللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيۤ إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
٣٥
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ
٣٦
-يونس

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ ٱلسَّمْعَ وٱلأَبْصَارَ... } الآية: يحاجهم يعني: أهل مكة في التوحيد [والربوبية وكأن هذه السورة نزلت في محاجة أهل مكة في التوحيد] لأنها مكية.
وقوله - عز وجل -: { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } يحتمل وجهين؛ أي: من ينزل لكم الرزق من السماء، ومن يستخرج لكم الرزق من الأرض. والثاني: من يرزقكم من السماء والأرض أي ومن يدبر الرزق في السماء، ومن يدبر الرزق في الأرض، لا أحد يملك استنزال الرزق من السماء، واستخراج الرزق من الأرض؛ وكذلك لا أحد يملك تدبيره في السماء والأرض سواه، ولا أحد يملك إنشاء السمع والبصر، ولا أحد أيضاً يملك إخراج الحي من الميت ولا إخراج الميت من الحي ولا تدبير الأمر، لا يعرفون حقيقة ماهية السمع والبصر ولا كيفيتهما، فكيف يملكون إنشاء السمع والبصر ونصبهما، ولا [يملك أحد] سواه إصلاح ما ذكر إذا فسد ذلك، فأقروا له أنه لا يملك أحد سوى الله ذلك، وهو قولهم: { فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } [يقول: والله أعلم -: إذا عرفتم وأقررتم أنه لا يملك ما ذكر سواه وعرفتم أن له السلطان والقدرة على ذلك أفلا تتقون] بوائقه ونقمته، [أو يقول: أفلا تتقون عبادة غيره دونه، وإشراك غيره في ألوهيته وربوبيته]، أو يقول: أفلا تتقون صرف شكره إلى غيره وقد أقررتم أنه هو المنعم عليكم بهذه النعم لا من تعبدون دونه.
أو يقول - والله أعلم -: إذا عرفتم ذلك أفلا تتقون مخالفته وعصيانه، فإذا أقروا أن الذي يملك تدبير ما بين السماء والأرض هو الذي له السماوات والأرض عرفوا الذي يستحق العبادة والقيام بشكره، فإذا ضيعوا ذلك جمعهم على اسم الضلال؛ فذلك قوله: { فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقِّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ }.
وقوله تعالى: { فَذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمُ ٱلْحَقُّ } أي: ذلكم الذي ذكر ربكم بالحجج والبراهين، فماذا بعد الحق الذي هو حق بالحجج والبراهين إلا الضلال؟! لأن ما لا حجج له ولا براهين فهو ضلال.
وقوله - عز وجل -: { فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ }: عن عبادته إلى عبادة غيره، أو فأنى تصرفون عن شكر المنعم، إلى شكر غير المنعم. أو يقول: فأنى تعدلون من لا يملك ما ذكر بمن يملك، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } حقت: وجبت، وقيل: كذلك حقت كلمة ربك على الذين ختموا بالفسق أنهم لا يؤمنون، أي: لا ينتفعون بإيمانهم بعد ذلك.
وقوله: { كَلِمَتُ رَبِّكَ } تحتمل وجهين: تحتمل كلمة ربك [مواعيد ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون فإن كان على هذا فهو في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون. ويحتمل كلمة ربك] حجج ربك وبراهينه على الذين فسقوا.
وقوله - عز وجل -: { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ }: قال عامة أهل التأويل: ثم يعيده: البعث بعد الموت، أي: لا أحد من شركائكم الذين تعبدون يملك بدء الخلق ولا بعثه. وقال بعضهم: قوله: { ثُمَّ يُعِيدُهُ } لا يحتمل البعث؛ لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث، فلا يحتمل الاحتجاج عليهم بذلك، ولكن قوله: { ثُمَّ يُعِيدُهُ } ما سوى البشر؛ لأنهم إنما ينكرون إعادة البشر، فأما إعادة غيره من الأشياء لا ينكرونه؛ نحو إعادة الليل والنهار، وإعادة الإنزال والنبات، ونحو الأشياء التي يشاهدونها، أي: ثم يعيد مثله: الليل ليلا مثله، والنهار نهارا مثله؛ وكذلك الخلائق تفنى ثم يعيد مثله، فإذا ثبت في غير البشر ثبت في البشر.
ويحتمل الأمرين جميعاً عندنا البعث وأشياء مثله؛ لأنه تعليم منه لهم، ألا ترى أنه قال: { قُلِ ٱللَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } قيل: تكذبون بتوحيد الله، وقد عرفتم أنه هو بدأ الخلق ثم هو يعيده، لا أحد يملك ذلك، ألا ترى أنه احتج عليهم ما يلزمهم ذلك بقوله:
{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ... } الآية [البقرة: 28].
وقوله - عز وجل -: { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ }: يحتمل قوله: { يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ } يدعو إلى الحق فإذا كان هؤلاء الأصنام التي تعبدونها لا يملكون الدعاء إلى شيء، فلا يملكون الضر والنفع، ومن الخلائق من لا يملك النفع والضر، ويملك الدعاء إلى خير أو [إلى] نفع، فهؤلاء دون الخلائق جميعاً؛ إذ لا يملكون الدعاء، فكيف يملكون [الضرّ والنفع]؟! يبين عز وجل سفههم بعبادتهم هؤلاء الأصنام؛ لعلمهم أنهم لا يملكون نفعاً ولا ضرّاً.
ويحتمل قوله: { يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ } أي: يبين ويقيم الدلائل والبراهين على [عدم] استحقاق العبادة لهم، فإذا لم يملكوا الدعاء إلى العبادة لهم، فكيف يملكون نصب الدلائل والحجج على استحقاق العبادة؟!
{ قُلِ ٱللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ }: أخبر أن الله هو الذي يهدي للحق. ثم يحتمل الوجهين اللذين ذكرنا: هو يملك الدعاء إلى الحق ويقيموا الدلائل والحجج على ما دعا إليه، وهو يستحق العبادة له والربوبية.
{ أَفَمَن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ }: الذي يبين البراهين والحجج، { أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيۤ } أي: لا يبين، { إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ }، فإن قيل: ما معنى الاستثناء وهو وإن هدي لا يهتدي؟ قيل: يشبه أن يكون هذا صلة ما تقدم من قوله:
{ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } [يونس: 28] ينطقهم الله - عز وجل - يوم القيامة، فيشهدون عليهم أنهم لم يأمروهم بالعبادة لهم ولا دعوهم لإشراكهم في العبادة، فيكون قوله: { إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ } لما أن يجعلهم الله بحيث يهتدون إذا هدوا ويجيبون إذا دعوا.
{ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ }: بالجور وصرف العبادة والشكر إلى من لا يملك ذلك.
وقوله - عز وجل -: { أَمَّن لاَّ يَهِدِّيۤ إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ } قال بعضهم: { إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ } لا يحتمل الصنم والوثن الاهتداء وإن هدي، ولكن المراد منه الإنسان. وقال بعضهم: { إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ } إلا أن يحمل الصنم ويوضع، فأما أن يهتدي هو بنفسه فلا، لكن يحتمل ما ذكرنا أنه إذا صيره بحيث يتكلم ومن جنس ما ينطق وأذن له في النطق احتمل الإجابة والاهتداء، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً } قال بعضهم: هذا في الأئمة والرؤساء منهم حيث عبدوا الأصنام والأوثان وقالوا:
{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3]، وقالوا: { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [يونس: 18] ونحو ذلك من القول؛ يقول: ما يتبع أكثرهم في عبادتهم الأصنام بأنهم يكونون لهم شفعاء عند الله إلا ظنا ظنوه.
وقال بعضهم: هذا في الأتباع والعوام ليس في الأئمة؛ ذلك أن الأئمة قد عرفوا البراهين والحجج التي قامت عليهم والآيات التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن ما قالوا:
{ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } [المائدة: 110]، { مَا هَـٰذَآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى } [سبأ: 43]، { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ ٱخْتِلاَقٌ } [ص: 7] ونحو ذلك من الكلام، أرادوا أن يلبسوا على العوام ويشبهوا عليهم، فاتبع العوام الأئمة فيما قالوا وأنه كذا وصدقوهم؛ يقول: وما يتبع أكثرهم الأئمة في ذلك إلا ظنّاً ظنوا.
ويشبه أن يكون قوله: { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ } يعني: أهل مكة [أي ما يتبع أكثر أهل مكة] الأوائل والأسلاف في عبادة الأصنام والأوثان. { إِلاَّ ظَنّاً } لأنهم عبدوا الأصنام ويقولون:
{ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ... } الآية [الزخرف: 23] وآباؤنا كذلك يفعلون، ثم أخبر أن الظن لا يغني من الحق شيئاً، أي: الظن لا يدرك به الحق إنما يدرك الحق باليقين، { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } وهو حرف وعيد ليكونوا أبدا على حذر.