خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ
١٠٠
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ ٱلَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ
١٠١
وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ
١٠٢
إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ ٱلآخِرَةِ ذٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ٱلنَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ
١٠٣
وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ
١٠٤
يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ
١٠٥
فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ
١٠٦
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ
١٠٧
وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ
١٠٨
-هود

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } قوله: { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْقُرَىٰ }: ذلك ما سبق من ذكر القرى والقرون في هذه السورة من أنباء الغيب نقصه عليك؛ [لتفهم رسالتك بها]، ولتكون آية لنبوتك؛ لأنك لم تشاهدها، ولا اختلفت [إلى أحد] منهم فتعلمت منهم، ولا كانت الكتب بلسانك فيقولون: نظرت فيها فأخذت ذلك منها، ثم أنبأت على ما كان وقصصت عليهم؛ ليعلم أنك إنما عرفت بالله، فتكون آية لرسالتك.
وقوله: { مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } قال بعض أهل التأويل { مِنْهَا قَآئِمٌ }: ترى مكانها وتنظر إليها، ومنها حصيد لا ترى له أثراً ولا مكاناً.
وقال بعضهم: قائم: أي: خاوية على عروشها، وحصيد: مستأصلة.
وعن الحسن قال: منها قائم وما حصد الله أكثر، أي: وما أهلك الله من القرى أكثر. وأصله عندنا: منها قائم؛ نحو قرى عاد وثمود ومدين، أهلك أهلها وبقيت القرى لأهل الإسلام؛ لأنه يقول في قرى عاد:
{ فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىٰ إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } الآية [الأحقاف: 25]، ومنها حصيد: ما أهلك أهلها والقرى جميعاً نحو قوم نوح؛ أهلكوا ببنيانهم، ونحو قريات قوم لوط أهلكت بأهلها أيضاً حتى لم يبق لا الأهل ولا البنيان، فذلك - والله أعلم - تأويل قوله: { مِنْهَا قَآئِمٌ } هلك أهلها وبقي البنيان، ومنها حصيد: هو ما أهلك البنيان بأهله، حتى لم يبق لها أثر، وفيه وجوه ثلاثة:
أحدها: آية لرسالته؛ لما ذكرناه وعبرة لأهل التقوى، وهو ما ذكر في آخره: { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ ٱلآخِرَةِ } أي: عبرة لمن خاف عذاب الآخرة، وزجراً لأهل الشرك والكفر؛ لأنهم يذكرون ما نزل بأولئك فينزجرون عن صنيعهم فيه.
هذه الوجوه التي ذكرناها، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } قوله: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } فيه وجهان:
أي: لم نظلمهم؛ لأنهم وبنيانهم ملك لله - تعالى - وكل ذي ملك له أن يهلك ملكه، ولا يوصف بالظلم من أتلف ملكه، وهم ظلموا أنفسهم إذ أنفسهم ليست لهم في الحقيقة وكذلك بنيانهم، ومن أتلف ملك غيره فهو ظالم.
والثاني: أن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه؛ يقول: وما ظلمناهم بالعذاب؛ إذ هم يستوجبون ذلك بما ارتكبوا، فلم نضع العذاب في غير موضعه؛ بل هم الذين وضعوا أنفسهم في غير موضعها؛ حيث صرفوها إلى غير مالكها وعبدوا غيره، فهو ظلم؛ هذا التأويل في أنفسهم، وأما البنيان فهو، أنه إنما جعله لهم، فإذا هلكوا هم أهلك ما جعل لهم، إنما أبقي لهم ما داموا، فأما إذا بادوا هم فلا معنى لإبقاء البنيان.
وما ذكر من ظلمهم أنفسهم يحتمل وجوهاً:
أحدها: ظلموا أنفسهم بعبادتهم غير الله.
والثاني: ظلموا أنفسهم بصرفهم الناس وصدهم عن سبيل الله وعن عبادة الله وتوحيده إلى عبادة غير الله.
والثالث: ظلموا أنفسهم بسؤالهم العذاب.
وقوله: { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ ٱلَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ } في هذا وجهان:
أحدهما: ما أغنت عنهم عبادة آلهتهم التي عبدوها من دون الله لما جاء أمر ربّك؛ أي: عذاب ربك؛ كقولهم:
{ مَا نَعْبُدُهُمْ... } الآية [الزمر: 3]، يخبر أن عبادتهم الأصنام لا تنفعهم المنفعة التي طمعوا.
والثاني: فما أغنت عنهم أنفس آلهتهم في دفع العذاب عنهم في أحوج حال إليها؛ لعجزهم في أنفسهم وضعفهم؛ كقولهم:
{ هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [يونس: 18] فإذا لم يملكوا ذلك في وقت الحاجة إليهم فكيف يملكونه في غيره من الحال، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } يحتمل: ما زاد عبادتهم إياها غير تتبيب، أو ما زاد آلهتهم التي عبدوها غير تتبيب.
والتتبيب: قال عامة أهل التأويل: هو التخسير.
وقال أبو عوسجة: غير تتبيب: غير فساد، والتتبيب: الفساد.
وكذلك قال في قوله:
{ وَمَا كَـيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ } [غافر: 37] أي: فساد.
وقال غيره: إلا في خسار وقال غيره: غير تخسير.
[وكذلك قالوا في قوله:
{ تَبَّتْ } [المسد: 1] أي: خسرت.
وقال أبو عبيدة: غير تتبيب: غير تدبير وإهلاك].
وكذلك قالوا في قوله:
{ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [المسد: 1] وكذلك قالوا في قول الناس: تبّاً لك.
وقال بعضهم: غير تتبيب غير شر، والتتبيب: الشر، والتبّ: الشر والخسران، وهما واحد.
وقوله - عز وجل -: { وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ } أي: هكذا يأخذ كفار هذه الأمة كما أخذ أولئك، أي: كما عذبنا الأمم الخالية وهي ظالمة مشركة كافرة، كذلك نعذب هذه الأمة [لكن أخر عن هذه الأمة]، وفيه رحمة أن { أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }، أي: أن أخذه بالعذاب أليم شديد، الأخذ نفسه يوصف بالشدة، ولكن لا يوصف بالألم، والعذاب يوصف بالألم، لكن لما وصف بالألم والشدة دل أن الأخذ أخذ بعذاب، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ ٱلآخِرَةِ } هو ما ذكرناه: فيه عبرة لأهل التقوى ولمن خاف عذاب الآخرة.
وقوله - عز وجل -: { ذٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ٱلنَّاسُ } خصّ الناس بالذكر وإن كان الجمع لهم ولغيرهم؛ لأن الآية التي ذكر تكون لهم آية، أو لما هم المقصودون بالجمع بذلك اليوم - والله أعلم - قيل: يجمع فيه الأولون والآخرون { وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ }.
قال بعضهم: يشهده أهل السماء وأهل الأرض للعرض والحساب، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ } أي: ما نؤخر العذاب عن هذه الأمة إلا لأجل معدود، وذكر هذا - والله أعلم - جواب ما استعجلوه من العذاب بقولهم:
{ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال: 32] ونحوه، فقال: وما نؤخر العذاب عنهم إلا لأجل معدود، إلا لوقت موقوت؛ أي: إلا لأجل معدود عند الله، ولو كان ما ذكر ابن عباس أنه سبعة آلاف فيكون معدوداً عند الناس، ويكون وقت القيامة معلوماً على قوله، وقد أخبر الله: { لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } [الأعراف: 187] والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } أي: لا تكلم نفس بالشفاعة لأحد إلا بإذنه؛ كقوله:
{ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } [الأنبياء: 28] أو لا تكلم نفس لأهوال ذلك اليوم ولفزعه؛ كقوله: { مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } [إبراهيم: 43] وكقوله: { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاباً } [النبأ: 38] أو لا تكلم نفس من الأجلة والعظماء لأحد من دونهم بالشفاعة إلا بإذنه، وهو ما ذكرناه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ }: فمنهم شقي بأعماله الخبيثة التي إذا اختارها وعملها أدخلته [النار، ومنهم سعيد بما أكرم من الطاعة والخيرات التي إذا اختارها وعملها أدخلته] الجنة، وكل عمل يعمله فيدخله الجنة فهو سعيد به، وكل عمل يعمله فيدخله النار فهو شقي به.
روي في ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم روي عن عمر - رضي الله عنه - قال:
"لما نزلت هذه الآية: { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبي الله، فعلام نعمل، على شيء قد فرغ منه أو شيء لم يفرغ منه؟ قال: بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر، ولكن كل ميسر لما خلق له" فإن ثبت هذا فهو يدل لما ذكرناه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ } لما ذكرناه { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } قال بعضهم: الزفير هو كزفير الحمار في الصدر، وهو أول ما ينهق، وأمّا الشهيق فهو كشهيق الحمار في الحلق، فهو آخر ما يفرغ من نهيقه، فهو شهيق.
وقال بعضهم: الزفير هو ما لا يفهم منه شيء إنما هو كالأنين والجزع من شيء يصيبه لا يتبين منه؛ كقوله:
{ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [الفرقان: 12] والشهيق هو ما يرتفع منه الصوت يسمى شهيقاً.
ويحتمل ما ذكر من الزفير والشهيق أنهم يصيرون بعد كثرة دعائهم وندائهم حتى يكون منهم الزفير والشهيق لا يفهم؛ كصوت الدواب إذا أصابها ألم.
وقوله - عز وجل -: { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ } عن الحسن قال: { مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ }: تبدل سماء غير هذه السماء، وأرض غير هذه الأرض، فما دامت تلك السماء وتلك الأرض؛ لأن السماء هذه أخبر أنها تنشق وتطوى وتبدل؛ كقوله:
{ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ } [الفرقان: 25] و { يَوْمَ نَطْوِي } [الأنبياء: 104] و { يَوْمَ تُبَدَّلُ } [إبراهيم: 48] ونحوه.
وقال بعضهم: قوله: { مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ } إنما هو صلة الكلام؛ كأنه قال: خالدين فيها إلا ما شاء ربك، وقد يتكلم بمثل هذا على الصلة.
وقال بعضهم: يدوم لهم العذاب أبداً ما دامت السماوات والأرض [لأهل الدنيا ما كانوا فيها؛ لأنهما إنما تفنيان بعد فناء أهلها وإحياء الأهل والبعث، فأخبر أن العذاب يدوم لهم كما يدوم لأهل الدنيا السماء والأرض].
وقال بعضهم: { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ } أي: ما دامت سماء الجنة وأرض الجنة، وسماء النار وأرض النار، لكن ذكر هذا لئلا يتوهم أهل الجنة والنار قبل هلاك سمائها وأرضها على ما يتوهم في توهم هلاك أهل الدنيا قبل هلاك سمائها وأرضها.
وقال بعضهم: { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ } أي: ما دامت الأرض أرضاً والسماء سماء، يتكلمون على ما بعد من أوهامهم فناؤهما، أو على الصلة؛ يقول الرجل لآخر: لا أكلمك ما دام الليل والنهار: أي أبداً.
هذا تأويل قوله: { مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ } وأما قوله: { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } قال بعضهم: إن ناساً من أهل التوحيد يعذبون في النار على قدر ذنوبهم وخطاياهم ثم يخرجون منها. وقد روي في ذلك آثار؛ روي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"الاستثناء في الآيتين كلتيهما لأهل الجنة" ، يعني: الذين يخرجون من النار من أهل التوحيد { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } يقول: لم يشقوا شقاء من يخلد في النار وقال في الذين سعدوا إلا ما شاء ربك هم أولئك الذين لم ينالوا من السعادة ما نال أهل الجنة الذين لم يدخلوا النار.
وفي بعضها [عن النبي] صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"أما من يريد الله إخراجه [من النار] فإنهم يماتون فيها إماتة" .
وقال في خبر آخر: "أما من يريد الله له الخلود فلا يخرجون منها" وأمثال هذا من الأخبار، فإن ثبت هذا فهو المعتمد.
وقال بعضهم: قوله: { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } أي: قد شاء لأهل النار الأبد والخلود، وشاء لأهل الجنة عطاء غير مجذوذ؛ أي: غير منقطع.
ويؤيد هذا التأويل ما ذكر في حرف ابن مسعود وأبي: { مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ } في الآيتين؛ وفي الآية الأولى: { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } وفي الأخرى: (ما دامت السماوات والأرض عطاء غير مجذوذ) وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود وأبي أنهما لم يذكرا الثنيا في أهل الجنة، وأصل هذا ما ذكر أبو عبيد قال: الاستثناء الذي هو في أهل السعادة فهو المشكل؛ لأنه يقال: كيف يستثني وقد وعدهم خلود الأبد في الجنة. وقال في ذلك أقوالا لا أدري إلى من تسند، إلا أن لها مخارج في كلام العرب وشواهد في الآثار، وإنما يتكلم الناس في هذا على معاني العربية، والله أعلم بما أراد.
قال: فأحد هذه الوجوه في الاستثناء فيما يقال كالرجل يوجب على نفسه الشيء ليفعلنه، ثم يقول: إن شاء الله، وعزمه [و] ضميره مع استثنائه أنه فاعله، لا يريد غيره.
ومما يقوي هذا المذهب قول الله - تعالى -:
{ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ } [الفتح: 27] فاستثنى، وقد علم أنهم داخلوه ألبتة.
ومنه ما روي في حديث مكة عن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال:
"ولا تحل لقطتها إلا لمنشد" .
وقال بعضهم: استثنى المنشد وهي لا تحل له، كما لا تحل لغيره.
والوجه الثاني بأن يكون "إلا" في معنى سوى؛ فإن العرب تفعل ذلك؛ تقول: عليك ألف درهم من قبل كذا وكذا، إلا الألف التي قبل ذلك؛ أي: سوى الألف التي قبل ذلك [وغير الألف التي قبل ذلك، وإلا الألف التي قبل ذلك]، فيكون المعنى على هذا أنه وعدهم خلود الأبد سوى ما أعد لهم من الزيادة في الكرامة والمنزلة التي لم يذكرها لهم.
ومما يقوي هذا التأويل ما روي عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:
"قال الله - تعالى -: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بله ما اطلعتم عليه" ثم قرأ: { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ... } الآية [السجدة: 17]؛ أفلا ترى أن هاهنا من الزيادة ما لم يطلعهم عليه.
والوجه الثالث: أن يكون الاستثناء من خلودهم في الجنة احتباسهم عنها ما بين البعث والحساب، وقد قيل ما ذكرناه أنه ما بين الموت والبعث، وهو البرزخ الذي ذكر، إلى أن يصيروا إلى الجنة، ثم هو خلود الأبد؛ يقول: فلم يغيبوا عن الجنة إلا بقدر إقامتهم في الحساب.
ومما يقوي هذا المذهب ما قيل في قوله:
{ وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الأنبياء: 100] قيل: ما بين الموت والبعث، والله أعلم بذلك.
وقوله - عز وجل -: { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ } فقد اختلف القراء في قراءتها؛ قرأها الكسائي وحمزة. بضم السين (سُعِدُواْ) وأما أبو عمرو وأهل المدينة وغيرهم من القراء قرءوا بفتح السين (سُعِدُواْ) على قياس (شَقُواْ).
قال أبو عوسجة: لا أعرف سعدوا بضم السين، وإنما هو سعدوا بفتح السين.
وقال أبو عوسجة (غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي: غير مقطوع؛ كقوله:
{ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً } [الأنبياء: 58] أي قطعاً، وقد ذكرنا قولهم في الزفير والشهيق على قدر حفظنا له.