خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أُوْلَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ
١٨
ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
١٩
أُولَـٰئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ
٢٠
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
٢١
لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ
٢٢
إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٢٣
مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
٢٤
-هود

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } هو ما ذكرنا أن لا أحد أظلم على نفسه ممن أخذ نفسه من معبوده وشغلها في عبادة من لا يملك له نفعاً إن عبده ولا ضر إن ترك عبادته، أو يقول: لا أحد أظلم على نفسه ممن ألقى نفسه الطاهرة في عذاب الله ونقمته أبداً بافترائه على الله، وبالله العصمة والقوة.
وفي التأويل لا أحد أظلم على نفسه ممن افترى على الله كذباً، وفي المعنى لا أحد أفحش ظلماً ممن افترى على الله كذباً بعد معرفته أن جميع ما له من الله تعالى.
وقوله - عز وجل -: { أُوْلَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ } أي: أولئك الذين تعرض أعمالهم على أنفسهم عند ربهم، فإن وافقت أعمالهم [ما في] شهادة خلقتهم أدخلوا الجنة، وإن خالفت أعمالهم شهادة خلقتهم أدخلوا النار، تعرض أعمالهم على أنفسهم عند ربهم؛ لأن الله عز وجل عالم بما كان منهم من الأعمال والأقوال على ربهم، أي: عند ربهم؛ كقوله:
{ وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ } [الأنعام: 30] [أي: عند ربهم] وتأويله ما ذكرنا يعرضون على ربهم لأنفسهم؛ لأنهم إنما يؤمرون وينهون ويمتحنون لأنفسهم ولمنفعة أنفسهم فيكون عرضهم لهم، أو أن يكون قوله: { أُوْلَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ } على ما وعدهم ربهم في الدنيا، أو يقول: أولئك يعرضون لأنفسهم على ربهم من غير غيبة كانت منه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ }: اختلف فيه:
قيل: الأشهاد: الرسل والأنبياء.
وقال بعضهم: الأشهاد: الملائكة.
وقال بعضهم: الأشهاد: المؤمنون. فمن قال: هم الأنبياء والمؤمنون؛ فهو كقوله:
{ لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [البقرة: 143]؛ وكقوله: { وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً } [النساء: 41] ومن قال: هم الملائكة؛ كقوله: { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق: 18]، وقوله: { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ... } الآية [الانفطار: 10-11]، ونحوه.
ومعناه - والله أعلم - أنه: تعرض أعمالهم وأقوالهم على أنفسهم فإن أقروا بها بعثوا إلى النار، وإن أنكروا يشهد عليهم ما ذكر من الشهداء فإن أنكروا يقال له:
{ ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ... } الآية [الإسراء: 14]، فإن أنكروا ذلك [فعند ذلك] تشهد عليهم جوارحهم؛ كقوله: { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ... } الآية [النور: 24].
ويحتمل أن يكون الملائكة نادوا في ملأ الخلق قبل أن يدخلوا النار: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم.
ويحتمل ما ذكر من شهادة الذين كانو موكلين بكتابة أعمالهم وأقوالهم يخبرون عما كتبوا في الكتب.
وقوله - عز وجل -: { أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ }: اللعنة. قال بعضهم: هي الطرد عن جميع المنافع والإبعاد عن رحمة الله في الدنيا عن دينه وفي الآخرة عن ثوابه. وقال بعضهم: اللعنة هي العذاب.
وقوله - عز وجل -: { ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } يصدون يحتمل وجهين:
يحتمل أن أعرضوا هم بأنفسهم عن دين الله.
ويحتمل صرفوا الناس عن دين الله، لكنه يتبين ذلك بالمصدر أنه أراد ذا أو ذا، يقال في الإعراض بنفسه: صد يصد صدودا؛ كقوله:
{ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } [النساء: 61]، ويقال في صرف غيره: صد يصد صدا.
وقوله - عز وجل -:
{ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } [الأعراف: 45]: قال بعضهم: هم بغاة على دين الله بالجور.
وقال بعضهم: يبغون من النساء الميل عن دين الله إلى دينهم، فذلك هو بغي العوج، كل سبيل غير سبيل الله فهو عوج وبغي، كأنه يقول: يبغون سبيلا غير سبيل الله.
{ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ }: في الدنيا.
وقوله - عز وجل -: { أُولَـٰئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ } أي: أولئك لم يكونوا معجزي الله في الدنيا من أن يعذبهم وينتقم منهم إن شاء. والثاني: أولئك لم يكونوا سابقي الله في الآخرة في دفع العذاب عن أنفسهم. وجائز أن يكون الآية في الأئمة منهم والجبابرة يخبر أنهم غير معجزي الله فيما يريد منهم من التعذيب لهم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ } هم حسبوا أن أولئك الذين عبدوهم من دون الله يكونون لهم أولياء؛ لأنهم يقولون:
{ هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [يونس: 18] و { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3] كانوا يطمعون في شفاعة الأصنام التي كانوا يعبدونها، أو الذين اتبعوهم يكونون لهم أولياء فأخبر أن ليس لهم أولياء على ما ظنوا وحسبوا، بل يكونون لهم أعداء؛ كقوله: { وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً... } الآية [الأحقاف: 6]، وأمثاله كثير؛ وكقوله: { يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } [العنكبوت: 25]؛ وكقوله: { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً } [مريم: 81] أي: لم يكن لهم ما طمعوا، وقوله: { سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [مريم: 82] صاروا لهم أعداء على ما ذكر.
ويحتمل { وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ } أي: لا ينفعهم ولاية من اتخذوا أولياء؛ كقوله:
{ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ } [المدثر: 48] ونحوه.
وقوله - عز وجل -: { يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ }: هذا يدل على أن قوله: { ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } في الأئمة الذين صرفوا الناس عن دين الله؛ لأنه أخبر أنه يضاعف لهم العذاب. وهو يحتمل وجهين:
أحدهما: لما ضلوا هم بأنفسهم، والآخر: لما صرفوا الناس عن دين الله تعالى.
وقوله - عز وجل -: و { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ }: قالت المعتزلة فيه بوجهين:
أحدهما: أنهم كانوا يسمعون ويبصرون، لكنه قال لا يستطيعون السمع ولا يبصرون استثقالا منهم لذلك، وهو كما يقول الرجل: ما أستطيع أن أنظر إلى فلان ولا أسمع كلامه، وهو ناظر إليه سامع كلامه، لكنه يقول ذلك لاستثقاله النظر إليه وسماع كلامه؛ فعلى ذلك الأول كانوا يسمعون ويبصرون، لكنهم كانوا يستثقلون السمع والنظر إليهم [فنفى عنهم] ذلك.
والثاني: كانوا لا يستطيعون السمع، أي: كانوا كأنهم لا يستطيعون السمع ولا النظر، وهو ما أخبر أنهم صم بكم عمي، كانوا يتصامون ويتعامون الحق.
وأمّا عندنا: الجواب للتأويل الأول أنهم كانوا لا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون السماع سمع الرحمة والنظر إليه بعين الرحمة والقبول، فهم من ذلك الوجه كانوا لا يستطيعون.
والثاني: يحتمل سمع القلب وبصر القلب، وهم كانوا لا يستطيعون السمع سمع القلب وبصر القلب؛ كقوله:
{ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } [الحج: 46] وهذه الاستطاعة عندنا هي استطاعة الفعل لا استطاعة الأحوال؛ إذ جوارحهم كانت سليمة صحيحة؛ فدل أنها الاستطاعة التي بها يكون الفعل لما ذكرنا.
وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه -: (يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع)، ثم سئل الحسن عن ذلك؟ فقال: هو قول الله:
{ ٱلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } [الكهف: 101] إذا سمعوا الوحي تقنعوا في ثيابهم، فلم يستطيعوا احتمال ذلك.
وفي حرف حفصة: (وما كانوا يستطيعون السمع) بالواو.
وأما في حرف ابن مسعود ظاهر تأويله أي: يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع، فلم يسمعوا عنادا وإبطاء، وأصله ما كانوا يستطيعون السمع المكتسب والبصر المكتسب عندنا، ما ذكر من السمع والبصر هو السمع المكتسب والبصر المكتسب والحياة المكتسبة؛ لأن سمع الآخرة وحياتها مكتسبان، وحياة الدنيا والسمع والبصر مخلوقة.
وقوله - عز وجل -: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ }: أما في الدنيا عبادتهم غير معبودهم الذي كان منه جميع النعم والمنافع، وما لحقهم بذلك من الذل والصغار، وأما في الآخرة فالعذاب والهوان الدائم بدلا عن النعم الدائمة.
{ وَضَلَّ عَنْهُمْ } أي: بطل عنهم، { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }:
{ هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [يونس: 18] و { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ... } الآية [الزمر: 3] وأمثاله.
وقوله - عز وجل -: { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ }: قال أبو عوسجة: لا جرم واجب من الكلام، أي: الحق أنهم في الآخرة هم الأخسرون. وقال بعضهم: لا جرم أي: نعم إنهم في الآخرة هم الأخسرون. وقال الفراء: قوله: { لاَ جَرَمَ } أي: لا بد، لكن الناس أكثروا استعماله فصار في معارفهم حقا، ولا بد في الحقيقة حقا؛ لأنه إذا كان لا بد فهو حق.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلجَنَّةِ }: تأويله - والله أعلم - أن الذين آمنوا بالله وبجميع ما أنزل على رسوله، وعملوا الصالحات ولزموا ذلك حتى صاروا إلى الله أولئك أصحاب الجنة؛ وهو كقوله:
{ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } [طه: 82] أي: من تاب من الشرك وآمن بالله وعمل صالحاً ثم اهتدى أي: ثم لزم ذلك حتى صار إلى الله هكذا؛ فعلى ذلك قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ } لزموا ذلك كله حتى صاروا إلى الله.
ويحتمل قوله:
{ ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } [طه: 82] سنن الذين أولئك كذا.
وقوله: { وَأَخْبَتُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ } اختلف فيه:
قال بعضهم: الإخبات التخشع والتواضع، أي: تخشعوا وتواضعوا فرقاً من ربهم.
وقال بعضهم: أخبتوا أي: اطمأنوا على ذلك أولئك كذا.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه -: أخبتوا قال: خافوا من ربهم.
وقال القتبي: أخبتوا أي: تواضعوا لربهم، وقال: الإخبات التواضع والوقار.
وقال أبو عوسجة: الإخبات التوبة والمخبت التائب.
وقال غيرهم: الإخبات الإنابة، أخبتوا أي: أنابوا إلى الله؛ وبعضه قريب من بعض. ومن قال: الإخبات هو التواضع الخشوع فمعناه - والله أعلم - أي: تواضعوا وخشعوا بالإجابة إلى ما دعاهم إليه ربهم وندبهم إليه.
وقوله - عز وجل -: { مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ } أي: الصنفين اللذين سبق وصفهما، وهو قوله:
{ مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا... } الآية [هود: 15] فهو وصف الكافر، والفريق الآخر قوله: { أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } [هود: 17] إلى آخر ما ذكر وفيه وصف المؤمن. أو يكون وصف الكافر ما ذكر: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أُوْلَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ... } إلى قوله: { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } هو وصف أحد الفريقين وهم الكفار، والفريق الآخر ما ذكر: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ } هذا - والله أعلم - الفريقين اللذين ضرب مثلهما بالأعمى والأصم و [البصير والسميع].
ثم وجه ضرب مثل الكافر بالأعمى والأصم، والمؤمن بالبصير والسميع، فهو - والله أعلم - أن الكافر أعمى القلب وأصم السمع، لم يبصر ما غاب عنه من الموعود، ولا يسمع ما غاب عنه من الموعود، وإنما أبصر ظواهر الأمر؛ وكذلك إنما سمع ظواهر من الأمور وبواديها، لم ينظر إلى الغائب من الموعود ولا سمع ذلك، وهو لم يخلق لمعرفة ذلك الظاهر خاصة، وإنما خلق لما وعد وأوعد في الغائب.
والمؤمن أبصر ذلك الغائب وسمع ما غاب من الموعود، فيقول [كما لم يستو] عندكم في الظاهر البصير والأعمى والسميع والأصم لم يستو من كان أعمى القلب بمن كان بصير القلب بذلك، ولم يستو أيضاً من به صمم القلب بمن كان سميعاً بذلك.
{ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }: أنهما لا يستويان، أو يقول: { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي: أفلا تتعظون بما نزل من القرآن وتنتهون عما تنهون، والله أعلم.
وفي قوله: { مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } وجوه من الأسئلة:
أحدها: أن يقال: كيف احتج عليهم وهو ما ذكر أنهم عميان وصم أو كالعميان والصم، ولا يكلف الأعمى الإبصار والنظر ولا الأصم السماع؟!
والثاني: يقولون: إنا [بصراء سمعاء] ليس بنا صمم ولا عمى، بل أنتم العميان والصم.
والثالث: كيف ذكر المثل لهم، وهم لا يتفكرون ولا ينظرون في المثل ولا يلتفتون إليه؟!
أما جواب الأول: فأنه احتج عليهم؛ لأنهم تركوا اكتساب بصر الآخرة وسمع سماع الآخرة، فنفى عنهم السمع والبصر والحياة؛ لأنه ببصر المخلوق يكتسب بصرا في الدين وسمعا في أمر الدين وحياة الدين، فيصير بذلك مكتسب الحياة الدائمة والبصر الدائم والسمع الدائم، فيكونون في الآخرة بصراء سمعاء أحياء؛ كقوله:
{ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [الأنفال: 24].
والثاني: نفى عنهم هذه الحواس؛ لأنهم لم ينتفعوا بها؛ لأن هذه الحواس إنما أنشئت لهم وخلقت لينتفعوا بها، وهو المقصود بإنشائها، فإذا تركوا الانتفاع بها فكأنها ليست لهم.
وأما جواب ما قالوا: إنا [بصراء وسمعاء] وأنتم العميان والصم، فيقال لهم: إن أهل الإسلام إذا سمعوا ذلك قد اشتغلوا بالتفكر فما فرغ سماعهم من الآيات والنظر فيها، وأنتم لا بل تعاموا عنها وتصاموا، فدل تفكرهم ونظرهم فيها على أنهم بصراء و [سمعاء وأحياء]، وأنتم يا أهل الكفر العميان والصم والأموات.
والثاني: أن هذه الآيات إنما نزلت في محاجة أهل مكة، وهم قد علموا أن آباءهم لم يكونوا حكماء ولا علماء، فلم يكونوا ما ذكر بصراء ولا أحياء ولا سمعاء، فصاروا صمّاً عمياناً أمواتا؛ ولأن أحد الفريقين لا محالة ما ذكر نحن، أوهم ثم قد استووا في هذه الدنيا وفي العقل والحكمة التفريق بينهما؛ فدل أنهم بما ذكر أولى.
وأما جواب ذكر المثل لهم على علم منهم أنهم لا يقبلون المثل ولا ينظرون بأنه إنما ذكر لأهل الإسلام؛ ولأن ذكر المثل به ربما يبعثهم على النظر فيه والتفكر.