خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَٱللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٤١
وَقَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ ٱلْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى ٱلدَّارِ
٤٢
وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ
٤٣
-الرعد

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ }.
قد ذكرنا فيما تقدم أنه إنما هو حرف تعجب وتنبيه؛ فهو يخرج على وجهين:
أحدهما: على الخبر؛ أي: قد رأوا أنا فعلنا ما ذكر.
والثاني: على الأمر؛ أي: [رَوْا أنَّا] فعلنا ما ذكر؛ وهو ما ذكر من قوله:
{ أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } [الروم: 9] أي: قد ساروا في الأرض؛ أو سيروا.
{ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا }.
قال بعضهم: هو ما جعل من أرض الكفرة للمسلمين؛ بالفتح لهم؛ والنصر على أولئك؛ والإخراج من سلطان أولئك الكفرة وأيديهم، وإدخالها في أيدي المسلمين؛ فذلك النقصان. [وهو] والله أعلم لما وعد لرسوله أن يريه بعض ما وعد لهم؛ فقال الكفرة عند ذلك: أين ما وعد أن يريك؟ فقال عند ذلك: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا } أي: ألم يروا أنه جعل بعض ما كان لهم من الأرضين للمسلمين؛ فإذا قدر على جعل البعض - الذي كان لهم لهؤلاء؛ لقادر أن يجعل الكل لهم؛ فهلا يعتبرون.
هذا والله أعلم ما أراد بما ذكر من النقصان.
وقال قائلون: نقصان الأرض: موت فقهائها وعلمائها وفنائها.
ووجه هذا: وهو أن الفقهاء والعلماء - هم عمّار الأرض وأهلها؛ وبهم صلاح الأرض؛ فوصف الأرض بالنقصان بذهاب أهلها، وهو كما وصف الأرض بالفساد؛ وهو قوله:
{ لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ } [البقرة: 251] وقوله: { ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } [الروم: 41] فالأرض لا تفسد بنفسها؛ ولكن وصفت بالفساد؛ لفساد أهلها، فعلى ذلك لا تنقص هي بنفسها؛ ولكن وصفت بالنقصان؛ لذهاب أهلها، وعمارها وفقهائها وعلمائها.
ثم يحتمل ذهاب العلماء المتقدمين، الذين تقدموا رسول الله في الأمم السالفة؛ وهم علماء أهل الكتاب؛ فيقول ألا يعتبرون بأولئك الذين قبضوا وتفانوا من علمائهم؟ فلا بدّ من رسول يعلمهم الآداب والعلوم؛ ويجدد لهم ما دَرَس من الرسوم [وذهب] من الآثار؛ فكيف أنكروا رسالته؟ وفي بعث الرسول حدوث العلماء؛ وذلك وقت حدوث العلماء وزمانه؛ فإن كان أراد العلماء المتأخرين وفقهاءهم - فيخرج ذلك مخرج التعزية له؛ أي: تصير الأرض بحال توصف بالنقصان، بذهاب العلماء والفقهاء. والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَٱللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ }.
قيل: لا رادّ لحكمه، وحكمه: يحتمل: العذاب الذي حكم على الكفرة؛ يقول: لا رادَّ للعذاب الذي حكم عليهم؛ [وهو كقوله:
{ رَبِّ ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ } [الأنبياء: 112] أي: احكم بالعذاب الذي حكمت عليهم].
ويحتمل قوله: { لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ } أي: لا يتعقب أحد حكمه؛ ولا يعقب أحد سلطانه؛ كما يكون في حكم الخلائق يتعقب بعض عن بعض، وكما ذكر في الحفظة:
{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } [الرعد: 11] يتعقب بعض عن بعض في الحفظ؛ وفيما سلطوا. والله أعلم.
{ وَهُوَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } هذا قد ذكرناه في غير موضع.
وقوله - عز وجل -: { وَقَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ }.
أى: مكر الذين من قبلهم برسلهم؛ كمكر هؤلاء بك يصبر رسوله على أذاهم به.
ثم يحتمل المكر به وجهين:
أحدهما: مكروا بنفسه؛ همّوا قتله وإهلاكه.
والثاني: مكروا بدينه الذي دعاهم إليه وأراد إظهاره؛ هموا هم إطفاء ذلك وإبطاله وكذلك مكر الذين من قبلهم برسلهم يخرج على هذا. والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعاً }.
هذا أيضاً يخرج على وجهين:
أحدهما: يقول: فلله جزاء المكر جميعاً؛ يجزى كلا بمكره.
والثاني: أي: لله حقيقة المكر يأخذهم جميعاً بالحق من حيث لا يشعرون، وأما هم فإنما يأخذون ما يأخذون لا بالحق ولكن بالباطل، ولا يقدرون على الأخذ من حيث لا يشعرون إلا قليلا من ذلك، فحقيقة المكر الذي هو مكر بالحق في الحقيقة لله لا لهم.
ويحتمل قوله: { فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعاً } أي: لله تدبير الأمر جميعاً، إن شاء أمضاه؛ وإن شاء منعه، إليه ذلك لا إليهم.
أو لله حقيقة المكر يغلب مكره مكر أولئك.
وقوله - عز وجل -: { يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ } من خير أو شرّ.
{ وَسَيَعْلَمُ ٱلْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى ٱلدَّارِ }.
يشبه أن يكون عقبى الدار معروفاً عندهم؛ وهي الجنة؛ فيكون صلة قولهم:
{ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ } [البقرة: 111] فيقول - والله أعلم - سيعلمون هم لمن عقبى الدار؛ أهي لهم أم هي للمؤمنين؟
أو أن يكون جواب قوله:
{ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [الكهف: 36] أنهم لما رأوهم مفضلين في أمر الدنيا ووسع عليهم الدنيا - ظنوا أن لهم في الآخرة كذلك؛ فقال ذلك جواباً لهم.
وقوله - عز وجل -: { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي: قالوا.
{ لَسْتَ مُرْسَلاً } أي: لن يبعثك الله رسولا، وهم كانوا يقولون كذلك له فأمره أن يقول لهم.
{ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } إني نبي رسول الله إليكم بالآيات التي آتي بها، أو كان قال لهم ذلك؛ لما بالغ في الحجاج والبراهين في إثبات الرسالة والنبوة؛ فلم يقبلوا ذلك فأيس من تصديقهم؛ فعند ذلك قال:
{ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ } أي: يعلم من كان عنده علم الكتاب؛ يعني التوراة: فيشهد أيضاً أني رسول نبي؛ أي: يعلم من كان عنده علم الكتاب أني على حق؛ وأني رسول الله؛ وهو كقوله:
{ أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً... } الآية [الشعراء: 197] وقوله: { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ } [النحل: 43] ومن قرأ بالخفض: { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ } فتأويله - والله أعلم -: أي: من عند الله جاء علم هذا الكتاب؛ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وكذلك روي في بعض الأخبار؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقرأ: { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ } بالخفض، وأما القراء جميعاً فإنهم يختارون النصب { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ }.
قال أبو عبيد: وقرأ بعضهم: ومن عنده علم الكتاب بخفض الميم والدال ورفع العين؛ وقال: لكن لا أدري عمن هو.
وروي عن عبد الله بن سلام أنه قال: فيَّ نَزَلَ: { كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ } هذا يؤيد أن يثبت قول أهل التأويل؛ حيث قالوا: { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ }: عبد الله بن سلام وأصحابه. والله أعلم.