خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ ٱلأَوَّلِينَ
١٠
وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
١١
كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ
١٢
لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ
١٣
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ ٱلسَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ
١٤
لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ
١٥
-الحجر

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ ٱلأَوَّلِينَ }.
قيل: في ملك الأولين. وقيل: في فرق الأولين. وقيل: في جماعات [الأولين]، وهو واحد.
{ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }.
يصبر رسوله على استهزاء قومه إياه، وأذاهم له.
يقول - والله أعلم -: لست أنت المخصوص بهذا، ولكن لك شركاء وأصحاب في ذلك؛ ليخف ذلك عليه ويهون؛ لأن العرف في الخلق أن من كان له شركاء وأصحاب في شدة أصابته أو بلاء يصيبه - كان ذلك أيسر عليه، وأهون من أن يكون مخصوصاً به، من بين سائر الخلائق. والله أعلم.
كأن هذه الآية صلة قولهم: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ }، فكأنه لما سمع هذا اشتد عليه، وضاق صدره بذلك؛ فعند ذلك قال: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ ٱلأَوَّلِينَ... } إلى آخره، يصبره على أذاهم وهزئهم به؛ فإنما يشتد عليه ذلك؛ على قدر شفقته ونصيحته لهم، وكان بلغ نصيحته وشفقته لهم ما ذكر:
{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ } [الشعراء: 3] وقوله: { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [فاطر: 8] كادت نفسه تهلك، أو ذكر هذا له لما أن هؤلاء - أعني قومه - إنما استهزءوا به تقليداً لآبائهم، واستهزاء بهم وتلقنوا منهم، لا أنهم أنشئوا ذلك من أنفسهم، وأولئك - أعني: الأوائل - إنما استهزءوا برسلهم، لا تقليداً بأحد، ولكن إنشاء من ذات أنفسهم، فمن استهزأ بآخر [فشتمه؛ تقليداً] واقتداء وتلقناً - كان ذلك أيسر عليه وأخف ممن فعل به من ذاته؛ لأنه إنما يلقن المجانين والصبيان ومن به آفة، بمثل ذلك؛ فهم الذين يعملون بالتلقين، وأما العقلاء السالمون عن الآفات - فلا، فذلك أهون عليه من استهزاء أولئك برسلهم والله أعلم.
وقوله - عز وجل -:{ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ }.
اختلف فيه: قال بعضهم: كذلك نسلك التكذيب والاستهزاء في قلوب المجرمين؛ لا يؤمنون به، يقول: من حكم الله أن يسلك التكذيب في قلب من اختار التكذيب وكذبه، ومن حكمه أن يسلك التصديق في قلب من صدقه واختاره؛ كقوله:
{ فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [الصف: 5] وكقوله: { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ } [البقرة: 26].
وقال بعضهم: قوله: { كَذَلِكَ } نجعل الكفر والتكذيب { فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ } بكفرهم؛ كقوله:
{ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ... } الآية [الأنعام: 25] وقوله: { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } [المائدة: 13] ونحوه.
ويحتمل قوله: { نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ } الحجج والآيات؛ ليكون تكذيبهم وردّهم [الآيات والحجج]، وتكذيبهم تكذيب عناد ومكابرة، لا يؤمنون به.
وقوله: { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ } أي: مثل الذي سلكنا في قلوب المؤمنين؛ من قبول الآيات والحجج، والتصديق لها؛ لما علم أنهم يختارون ذلك - نسلك في قلوب المجرمين؛ من تكذيب الآيات والحجج وردها؛ لما علم منهم الرد والتكذيب لها. هذا يحتمل، ويحتمل غير هذا مما ذكرنا. والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ }.
يحتمل قوله: { وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ } بالتكذيب، والردّ، والمعاندة، والمكابرة، بعد قيام الحجج والآيات.
ويحتمل: { وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ }: الهلاك والاستئصال عند مكابرة حجج الله، ومعاندتهم إياها.
وقال بعض أهل التأويل: { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ } أي: نجعله؛ على ما ذكرنا، الكفر بالعذاب { فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ }، { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي: لا يصدقون بالعذاب { وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ } بالتكذيب لرسلهم بالعذاب، فهؤلاء يستنون بسنتهم.
وقال أبو عوسجة: { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ }: أي: ندخله؛ يقال: السالك: الداخل، والسلوك: الدخول، وسلكت أدخلت، وتصديقه: قوله:
{ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ } [الشعراء: 200] وقال: { ٱسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ } [القصص: 32] أي: أدخل.
وقوله - عز وجل -: { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ ٱلسَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ }.
يخبر - عز وجل - عن سفههم وعنادهم في سؤالهم الآيات؛ وطلب نزول الملائكة بقوله: { لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِٱلْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } يقول: إن سؤالهم الآيات؛ وما سألوا متعنتين مكابرين؛ ليسوا هم بمسترشدين، لكن أهل الإسلام لا يعرفون تعنتهم بالذكر؛ حيث قال:
{ وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ... } الآية [الأنعام: 109] ثم قال: { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام: 109] وذلك أن المؤمنين كانوا يشفعون لهم بسؤالهم الآيات لعلهم يؤمنون؛ فأخبر: { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام: 109] فعلى ذلك قوله: { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ ٱلسَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ } يخبر أنهم بسؤالهم نزول الملائكة؛ معاندين مكابرين - ليسوا بمسترشدين.
ثم اختلف فيه: قال بعضهم: قوله: { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم }: يعني على الملائكة بابا حتى رأوا، وعاينوا الملائكة ينزلون من السماء ويصعدون؛ فلا يؤمنون؛ وقالوا: { إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } قيل: حيرت وسدت، { بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ }: أي: سحرت أعيننا؛ فلا نرى ذلك.
وقال بعضهم: قوله: { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً } أي: لهم { بَاباً مِّنَ ٱلسَّمَاءِ } كقوله:
{ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } [المائدة: 3] أي: للنصب.
وقوله - عز وجل -: { فَظَلُّواْ فِيهِ } حتى { يَعْرُجُونَ } فيه ويعاينون نزول الآيات ويشاهدون كل شيء { لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } يؤيس رسوله وأصحابه عن إيمانهم، وقوله تعالى: { لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } يقولون ذلك لشدة تعنتهم وسفههم، وينكرون معاينة ذلك.