خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ٱلْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ
٥٧
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ
٥٨
يَتَوَارَىٰ مِنَ ٱلْقَوْمِ مِن سُوۤءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي ٱلتُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
٥٩
لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ مَثَلُ ٱلسَّوْءِ وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٦٠
وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ
٦١
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ
٦٢
تَٱللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ٱلْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٦٣
وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٦٤
-النحل

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ٱلْبَنَاتِ }.
أي: يقولون: لله البنات، يخبر عن شدة سفههم؛ حيث يأنفون ويستحيون عن البنات، ثم ينسبون ذلك إلى الله ويضيفونها إليه، يصبر رسوله على أذى الكفرة؛ حيث قالوا فيه ما قالوا: إنه ساحر، وإنه مفتر، ونحوه، على علم منهم ويقين أنه ربهم وخالقهم، فمن أنكر رسالته أولى بالصبر على قوله والحلم منه.
{ سُبْحَانَهُ }.
كلمة تنزيه عمّا قالوا فيه، وحرف تعجيب؛ حيث نسبوا إلى الله ما كرهوا لأنفسهم [{ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ }: يجعلون لأنفسهم البنين ويجعلون لله ما يكرهون لأنفسهم].
وقوله - عز وجل -: { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ }.
قال بعضهم: قول العرب: قبح الله وجهك، وسوّد الله وجهك ليس على إرادة [السواد والقبح]، ولكن على إرادة ما يكرهه.
وقال الحسن: قوله: { ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً } أي: متغيراً من الغم وهو كظيم: أي: حزين، وهكذا العرف في الناس أنه إذا اشتد بهم الحزن والغم، يظهر ذلك في وجوههم قبحاً وسواداً.
{ يَتَوَارَىٰ مِنَ ٱلْقَوْمِ مِن سُوۤءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ }.
يذكر فيه كيف يصنع به: أيمسكه على هون أي: على هوان يضر به ويسيء صحبته أم يدسّه في التراب وهو حي؛ فيقول: إن ربي اختار البنات فأبعث بها إلى ربي، فإنه أحق بها، وهي الموءودة التي قال الله:
{ وَإِذَا ٱلْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ } [التكوير: 8] وإنما كانوا يصنعون ذلك خشية إملاق؛ كقوله: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } [الإسراء: 31].
وقوله - عز وجل -: { أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } في جعلهم لله ما كرهوا لأنفسهم، أو في قولهم:
{ وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } [الأعراف: 28]، أو في قولهم: { هَـٰذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـٰذَا لِشُرَكَآئِنَا } [الأنعام: 136] ونحوه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ مَثَلُ ٱلسَّوْءِ }.
قال بعضهم: قوله: { مَثَلُ ٱلسَّوْءِ } أي: لهم جزاء السوء؛ وهو النار.
وقال الحسن: مثل السوء: أي: صفة السوء التي وصفوا بها ربهم أنه اختار البنات.
{ وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ }.
أي: الصفة الأعلى التي ليس لها شبه؛ فإن تلك الصفة من صفته، ويشبه أن يكون قوله: { مَثَلُ ٱلسَّوْءِ } بما سمّاهم مرة موتى، ومرة فسقة، ومرة ظلمة، ومرة هم في الظلمات، وأمثاله، لهم ذلك الوصف بما أنكروا الآخرة، وذلك مما توجبه الحكمة والعقل والشريعة، فلهم ذلك الوصف والمثل السوء؛ بما أنكروا ما توجبه الحكمة والعقل والشريعة.
ويحتمل { مَثَلُ ٱلسَّوْءِ }: شبه السوء.
ويحتمل { مَثَلُ ٱلسَّوْءِ }: النعت والصفة، فإن كان هو على الشبه فهو في الدنيا؛ لما شبههم في غير [آي من القرآن] بالشجرة الخبيثة والكلمة الخبيثة، وبالرماد وبالزبد والتراب، ونحوه.
وإن كان على النعت والصفة فهو في الآخرة، وهو ما ذكر: الذي يحشرون على وجوههم.
وقوله - عز وجل -: { وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ }. أي: لأولياء الله المثل الأعلى، وهم المؤمنون، لا أن الله وصف المؤمنين بالحياة، والنور، والعدل، وغير ذلك من الأسماء الحسنة، وذلك لله في الحقيقة، لكنه بفضله ومنه وصفهم وسماهم بذلك، فأضيف إلى الله؛ لما بفضله استوجبوا لا باستحقاق أنفسهم. وكذلك قوله:
{ وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا } [الأعراف: 180] أضيف ذلك إليه؛ لما بفضله يستوجبون تلك الأسماء التي سماهم. ويحتمل قوله: { وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ }: أي: لأولياء الله المثل الأعلى، كأنه قال: وللذين يؤمنون بالآخرة مثل الأعلى، مقابل ما ذكر؛ حيث قال: { لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ مَثَلُ ٱلسَّوْءِ وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } قال الحسن: العزيز بالغلبة منه في الأشياء كلها على ما أمره، وكل شيء دونه ذليل، الحكيم بالعدل منه في كل قضاء قضى وقد ذكرناه في غير موضع.
وقوله: { ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } في هذا الموضع كأنه قال: وهو العزيز بنفسه لا بخلقه وأوليائه؛ كما يكون لملوك الأرض؛ يكون [عزهم بخدمهم وحشمهم]، فإذا ذهبوا أو عصوه [يصير] مقهوراً مغلوباً، فأمّا الله - سبحانه وتعالى - فهو عزيز بذاته.
والحكيم: أي: إنشاؤه العصاة منهم على علم منه بذلك، لم يخرج ذلك على غير الحكمة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ }.
دل قوله: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ } أنَّ له أن يستأصلهم ويهلكهم بما كان منهم؛ لكنه - بفضله - تركهم إلى المدة التي ضرب لهم؛ لأنه لو لم يكن له ذلك لم يكن للوعيد الذي أوعد معنى.
وقال أبو زيد البلخي: إن الله بما أوعد من الوعيد ليس يوعد لمضرة نفسه ولا لنفع يصل إليه، ولكن يوعد بما توجبه الحكمة، فدل أن الوعيد لازم واجب.
ونحن نقول: يوعد بما توجبه الحكمة، وقد أمهلهم بعد الوعيد، فعلى ذلك يجوز أن يخرجهم من النار بعد ما أدخلهم النار؛ بما ارتكبوا من الكبائر.
ثم في قوله: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ... } الآية - دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنهم يقولون: ليس لله أن يهلك قوماً قد علم منهم الإيمان في وقت، أو يكون في أصلابهم من يؤمن؛ إذ قد كان ممن أوعد ذلك الوعيد من بعضهم الإيمان أو في أصلابهم من قد كان آمن، فدل الوعيد لهم أنه قد يهلك من يعلم أنه يؤمن في آخر عمره؛ إذ لا يوعد إلا بما له أن يفعل لكنه بفضله أخره إلى وقت [وفيه] دلالة أن له أن يفعل بما ليس ذلك بأصلح لهم في الدين.
ثم اختلف في قوله: { بِظُلْمِهِمْ }: قال بعضهم: هذا للكفرة خاصة.
وقال بعضهم: لهم وللمؤمنين كل مرتكب زلة؛ إذ ما من أحد ارتكب زلّة إلا وقد استوجب العقوبة بذلك والمؤاخذة به، لكنه بفضله عفا.
وقوله - عز وجل -: { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ }.
قال بعضهم: أراد بالدابة: الدابة التي خلقها لهم، إذا أهلك الناس فقد أهلك الدواب؛ إذ خلقه إياها لهم.
وقال بعضهم: [قوله]: ما ترك [عليها من دابة]: أي: على ظهر الأرض من دابة؛ لأن الدواب إنما تتعيش بالذي [يتعيش] الناس؛ فإذا هلكوا هم هلكت الدواب أيضاً؛ لما ذهب سبب عيشها. وجائز أن يكون أراد بالدابة البشر؛ أي: ما تركهم بظلمهم ولكن يهلكهم، وسماهم دابة لأنه إذا ذكرهم في موضع الظلم وإن كان سماهم في غير موضع بالأسماء الحسنة، وهو كما سماهم في موضع آخر دابة؛ حيث قال:
{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا } [هود: 6] ولا شك أن البشر دخلوا في هذه التسمية، فعلى ذلك جائز دخولهم في الأخرى، وإن كان المراد مما ذكر من الدابة البشر فالأنبياء والرسل إنما يكون هلاكهم بقطع نسلهم؛ لأن الأنبياء أكثرهم ولدوا من الآباء الظلمة؛ فإذا أهلك آباؤهم لم يولد الرسل والأنبياء، فيكون هلاكهم لا بظلم هؤلاء ولكن بقطع النسل.
وإن كان المراد بتلك الدابة الدواب أنفسها فلأن الدواب إنما أنشئت للبشر ولمنافعهم، فإذا أهلكت الدواب أهلك المنشأ لهم، والله أعلم.
وفي قوله: { لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } دلالة [نقض] قول المعتزلة؛ لأنهم يقولون: يجعل الله للخلق آجالا، ثم يجيء كافر فيقتله دون بلوغ الأجل الذي جعله الله؛ حيث أخبر أنهم لا يستأخرون [ساعة] - بعد الأجل المضروب لهم - ولا يستقدمون قبل ذلك، وهم يقولون: بل يستقدمه كافر فيقتله، فذلك سرف في القول.
وهذا يخرج على وجهين:
أحدهما: لا يتأخر الأجل الذي جعل لهم ساعة ولا يتقدم عن ذلك.
والثاني: لا يجاب في التأخير ولا في التقديم.
وقوله - عز وجل -: { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ }.
كانوا يجعلون لله أشياء يكرهون ذلك لأنفسهم من نحو البنات، يقولون: لله البنات؛ ويكرهون لأنفسهم البنات، ويجعلون له الشركاء من عبيده؛ وهم كانوا يكرهون لأنفسهم الشركاء من عبيدهم، وأمثاله؛ كقوله:
{ ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ... } الآية [الروم: 28] يخبر - عز وجل - عن سفههم وسرفهم في القول، ويخبر عن حلمه؛ حيث لم يستأصلهم ولم يهلكهم مما قالوا في الله من عظيم القول من الولد والشريك؛ لنعلم أنه لم يمهلهم لغفلة ولا سهو ولكن لحلم؛ لأن يحلم الخلق في ذات الله ولا يعجلوا بالعقوبة؛ إذ لو أراد إهلاكهم لأهلكهم ساعة قالوا ذلك؛ ولا يمهلهم يعيشون، لكن أخر ذلك ليوم، وهو ما قال: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً... } [إبراهيم: 42] الآية.
وجائز أن يكون قوله: { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ } أي: يجعلون لأولياء الله مما يكرهون لأنفسهم؛ لأنهم يقولون: إن لهم الحسنى في الآخرة؛ وهي الجنة، وإن للمؤمنين النار؛ بقوله:
{ وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ } [فصلت: 50].
وقوله - عز وجل -: { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ }.
قال أبو بكر الأصم: يقولون: إنا على دين الله وعلى الحق لعبادتنا، ويقولون: إن لهم الحسنى يعنون أنهم محسنون في أعمالهم، وبما هم عليه من دين.
وقال بعضهم: قوله: { أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ } يعنون البنين، لأنهم كانوا يضيفون البنات إلى الله وينسبون البنين إلى أنفسهم، فذلك الحسنى الذي ذكروا.
وقال بعضهم: بأن لهم الحسنى: أي: الجنة؛ كقوله:
{ وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ ... } الآية [فصلت: 50].
ثم كذبهم في قولهم فقال: { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ } ليس لهم الحسنى على ما زعموا؛ ولكن النار، وقد ذكرنا قوله: { لاَ جَرَمَ } فيما تقدم، كان أهل الكفر فرقاً، منهم من ادعى الاشتراك في نعيم الآخرة كما كان لهم اشتراك في نعيم الدنيا؛ كقوله:
{ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ } [الجاثية: 21] ومنهم من ادعى الآخرة لأنفسهم كما كانت لهم الدنيا، فجائز أن يكون قوله: { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } هم الذين ادعوا الحسنى - وهي الجنة - لأنفسهم.
وقوله - عز وجل -: { وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ }.
هو من الفرط؛ وهو: السبق والتقدم، كأن الآية في الرؤساء [منهم]، أخبر أنهم سابقون أتباعهم إلى النار، وهو كقوله:
{ وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ } [الأعراف: 39] الأولى هم المتبوعون، وأخراهم الأتباع.
وقال بعضهم: معجلون إليها بين يدي أتباعهم.
وقال بعضهم: { مُّفْرَطُونَ } أي: متروكون، منسيون في النار.
وقال بعضهم: { مُّفْرَطُونَ } مبعدون عن رحمة الله لكن هذين ليسا بتأويل ألبتة، إذ كل من في النار [فهو] منسي، متروك فيها، مبعد عن رحمة الله.
وقال بعضهم: وأنهم مدخلون فيها.
والوجه فيه ما ذكرنا.
وقوله - عز وجل -: { تَٱللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ }.
هذا لا يحتمل أن يكون هذا القسم منه ابتداء؛ [و] لكن كأنه عن إنكار كان منهم للرسالة، فعند ذلك أقسم بقوله: { تَٱللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ } وأكد بما أنكروا الرسالة بالقسم الذي ذكر، فقال: { تَٱللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ } يا محمد.
قوله: { تَٱللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ } كما أرسلناك إلى أمتك { فَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } كما زين لأمتك فهو كان وليهم يومئذ كما هو ولى لأمتك اليوم، يصبّره.
وقوله - عز وجل -: { فَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } يقول ليس هؤلاء بأول من زيّن لهم الشيطان أعمالهم، ولكن كان في الأمم الماضية من زين لهم الشيطان أعمالهم فيكذبون رسلهم، فلست أنت بأول مكذّب، بل كان لك شركاء في التكذيب { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ٱلْيَوْمَ } [قال بعضهم: هو وليهم اليوم] في الدنيا؛ لأن الدنيا هي دار الولاية بينهم، كقوله:
{ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [الجاثية: 19] وقوله: { أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ } [البقرة: 257]، وأمّا في الآخرة فيصيرون أعداء، كقوله: { ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 67] وقوله: { ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ... } الآية [العنكبوت: 25]، [وقوله: { قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ } [ق: 27] ونحوه، ولا يحتمل أن يكونوا أولياء في الآخرة ثم يلعن بعضهم بعضا] ويتبرأ بعضهم من بعض، فذلك علامة العداوة.
وقال بعضهم: قوله: { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ٱلْيَوْمَ } في الآخرة، أي: أولى بهم فيقرن بهم، كقوله:
{ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [الزخرف: 36] فهو وليهم: أي: صاحبهم، كقوله: { ٱحْشُرُواْ... } الآية، وكقوله: { قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ } [ق: 27] وقوله - عز وجل -: { وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ }.
قال بعضهم: قوله: { ٱلَّذِي ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ }: الكتب التي كانت من قبلهم؛ لأنهم اختلفوا في كتبهم، فمنهم من بدّل، ومنهم من غير وحرّف، فيقول - والله أعلم -: { وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } أي: في كتبهم؛ لأن هذا الكتاب أنزله مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، يبين هذا الكتاب ما اختلفوا في كتابهم، الحق من الباطل.
وقال بعضهم: { إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } أي: في الرسل والأديان وفي الكتاب المنزل عليه، اختلفوا عنه في ذلك كله، يبين لهم الحق من الباطل في جميع ما اختلفوا فيه بالكتاب الذي أنزله عليك؛ إذ فيه أنباء الأمم الماضية، وهو لم يشهدها، ولم يختلف إلى من يخبره عنها ثم أنبأهم على ما كانت، فدل أنه إنما عرف [ذلك] بالله، ومنه نزل ذلك، وفيه دلالة أن الحوادث التي علم الله أنهم يبتلون بها إلى يوم القيامة أنه جعل لهم سبيل الوصول إلى بيانها في الكتاب، إمّا بيان كناية وإما بيان تصريح، حيث قال: { وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ... } الآية، حيث لم يدعهم في الاختلاف على غير بيان، فعلى ذلك علم أنهم يبتلون بالحوادث التي ليس لها نصوص في الكتاب لا يحتمل ألا يبين لهم ذلك ويدعهم حيارى، لكن البيان على وجهين:
بيان تصريح يعقل بديهة العقل.
وبيان كناية يدرك بالنظر والتأمّل والاستدلال.
وأصله في قوله: { إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } أي: إلا لتبين لهم الحق فيما اختلفوا فيه؛ لأنهم اختلفوا في المحق في ذلك؛ لأن كل فريق منهم ادّعى أنه هو المحق، وأن الذي هو عليه الحق، وأن غيره على باطل، فأخبر أنه أنزل الكتاب عليه ليبين لهم الحق فيما اختلفوا فيه.
وقوله - عز وجل -: { وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } جعل الله تعالى رسوله وكتابه هدى ورحمة للمؤمنين؛ لأنهم آمنوا بهما، وصدقوهما، وقبلوهما، فصار ذلك [لهم] هدى ورحمة ونوراً، وأمّا من كذبهما ولم يقبلهما فهو عذاب عليهم وعمى، وهو كقوله:
{ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ... } الآية [التوبة: 124-125] وهو ما ذكر { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } [فصلت: 44].