خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ
٨٤
وَإِذَا رَأى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ
٨٥
وَإِذَا رَأى ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَـٰؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا ٱلَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ ٱلْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ
٨٦
وَأَلْقَوْاْ إِلَىٰ ٱللَّهِ يَوْمَئِذٍ ٱلسَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
٨٧
ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ ٱلْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ
٨٨
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىٰ هَـٰؤُلآءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ
٨٩
-النحل

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً }.
قال بعضهم: شهيدها: أن يشهد عليهم من نحو ما ذكر من شهادة جوارحهم عليهم، وهو قوله:
{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ... } الآية [النور: 24]، وقوله: { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم... } الآية: [فصلت: 20]، وقوله: { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا } [الزلزلة: 4]، ونحو ذلك من الآيات التي فيها ذكر الشهادة عليهم؛ عند إنكارهم أعمالهم التي عملوها.
وقال بعضهم: شهيدها: رسولها الذي بعث إليهم يشهد عليهم أنه قد بلغ إليهم رسالات ربهم، وهو كقوله:
{ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [فاطر: 24]، والنذير: هو الرسول المبعوث إليهم، وهو ما ذكر - أيضاً -: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [النساء: 41]، وكقوله: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [البقرة: 143] وقال: { وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىٰ هَـٰؤُلآءِ } [النحل: 89].
أخبر أنه يجيء بمحمد صلى الله عليه وسلم شهيداً على أولئك: أن الرسل قد بلغوا الرسالة إليهم، وهو ما ذكر:
{ فَلَنَسْأَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ } [الأعراف: 6]، وقوله: { يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ... } الآية [المائدة: 109]، وقوله: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ } [القصص: 65]: يسأل الرسل عن تبليغ الرسالة إلى قومهم، ويسأل قومهم عما أجابوا الرسل. إلى هذا يذهب بعض أهل التأويل، والله أعلم.
جميع ما ذكر في القرآن من مجيئه وإنبائه ونحوه جائز أن يكون ذلك البعث تفسير ذلك كله.
قوله: { وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ }: كذا من ذلك، وقوله:
{ وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ } [الفجر: 22]، و { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ } [البقرة: 210]، وقوله: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [النساء: 41] فهو البعث، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ }.
قال الحسن: لا يؤذن لهم بالاعتذار؛ لأنه لا عذر لهم، وهو ما قال:
{ هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ* وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [المرسلات: 35-36]؛ لأنه لا عذر لهم، واعتذارهم لا ينفع لهم شيئاً؛ إذ اعتذارهم من نحو قولهم: { رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ أَضَلُّونَا } [الأعراف: 38]، وقولهم: { لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } [سبأ: 31] ونحو هذا مما لا ينفعهم ذلك؛ فلا يؤذن لهم بذلك.
{ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ }.
قال الحسن: ولا هم يقالون، وكذلك قال في قوله:
{ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ ٱلْمُعْتَبِينَ } [فصلت: 24]، أي: من المقالين، أي: لا يقالون مما كان منهم.
وقال بعضهم: لا يؤذن لهم ولا يمكن لهم من التوبة والرجوع عما كانوا؛ لأن ذلك الوقت ليس هو وقت التوبة والرجوع، كقوله:
{ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ } [غافر: 84]، وهذه الآية، وقال: { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ } [غافر: 85]، ونحوه. { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } العتاب في الخلق: هو تذكير ما كان من الفرط؛ ليرجع عما كان منه، وذلك في الآخرة لا يحتمل.
ويحتمل قوله: { ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ }، أي: لا يؤذن لهم بالكلام، كقوله:
{ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون: 108]، أو: لا يؤذن للشفعاء أن يشفعوا للذين كفروا، ويؤذن للشفعاء أن يشفعوا للمؤمنين.
وقوله - عز وجل -: { وَإِذَا رَأى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلْعَذَابَ }.
أي: وقعوا فيه؛ دليله ما ذكر.
{ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ }.
دل هذا أنه لم يرد به رؤية العذاب؛ ولكن الوقوع فيه؛ فلا يخفف عنهم؛ لأنه يدوم، ولا تخفيف مما يدوم من العذاب.
{ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ }.
أي: يمهلون من العذاب.
والثاني: لا يخفف عنهم عما استحقوا واستوجبوا، أو ما ذكرنا: أنه لا يكون لعذابهم انقطاع.
وقوله - عز وجل -: { وَإِذَا رَأى ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَـٰؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا ٱلَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ }.
قال الحسن: قوله: { شُرَكَآءَهُمْ }، أي: قرناءهم وأولياءهم من الشياطين، كقوله:
{ ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ... } الآية [الصافات: 22]، وكقوله: { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ... } الآية [فصلت: 25]، وقوله: { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [الزخرف: 36] وقوله: { نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ... } الآية [الأنعام: 22].
وقوله: { شُرَكَآءَهُمْ }: أولياءهم، [الذين] كانوا لهم في الدنيا فهم شركاؤهم الذي ذكر.
وقولهم: { هَـٰؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا ٱلَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ }؛ على هذا التأويل: كنا ندعوك وإياهم من دونك.
{ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ ٱلْقَوْلَ }.
أي: يقولون لهم:
{ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ }.
وقال بعضهم قولهم: { هَـٰؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا ٱلَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ }: الأصنام التي عبدوها.
{ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ ٱلْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ }: أي: يكذبونهم، وهو ما ذكر:
{ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ } [يونس: 29]؛ يكذبونهم فيما قالوا، ويخبرون أنهم كانوا غافلين عن عبادتهم.
وقال بعضهم: شركاؤهم الملائكة الذين عبدوهم، كقوله:
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـٰؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ } [سبأ: 40-41]: أخبر أنهم إنما عبدوا الجن بأمرهم ولم يعبدوهم، أو يكون شركاؤهم رؤساءهم الذين انقاد الأتباع لهم ويحتمل الأصنام وما ذكر، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ ٱلْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ }.
هو ما ذكرنا: يقولون لهم: إنكم لكاذبون، أو يكذبونهم فيما يزعمون ويدعون.
وقوله - عز وجل -: { وَأَلْقَوْاْ إِلَىٰ ٱللَّهِ يَوْمَئِذٍ ٱلسَّلَمَ }.
أي: يخضعون كلهم لله يومئذ، ويخلصون له الدين، ويسلمون له الأمر والألوهية.
{ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }.
أي: بطل عنهم ما طمعوا بعبادتهم الأصنام والأوثان التي عبدوها من الشفاعة وغيرها؛ كقوله:
{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3]، وقولهم: { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [يونس: 18]: بطل عنهم ما طمعوا ورجوا من عبادة أولئك من الشفاعة لهم، والقربة إلى الله.
وقوله - عز وجل -: { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ ٱلْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ }.
قال بعضهم: هؤلاء كانوا رؤساء الكفرة وقادتهم ضلوا هم بأنفسهم وأضلوا أتباعهم؛ فلهم العذاب الدائم بكفرهم بأنفسهم، وزيادة العذاب بإضلال غيرهم، وهو كقوله:
{ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [النحل: 25]، وكقوله: { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ... } الآية [العنكبوت: 13]: [أخبر أنهم يحملون أوزارهم] وأوزار الذين أضلوهم ومنعوهم عن الإسلام؛ فعلى ذلك قوله: { زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ ٱلْعَذَابِ }؛ بما أضلوا أتباعهم، وسعوا في الأرض بالإفساد، وهو قول أبي بكر الأصم.
وقال بعضهم: إن عذابهم كلما أراد أن يفتر بنضج الجلود، زيدت لهم - بتبديل الجلود - نارها كلما أرادت أن تخمد زيد لهم سعيراً؛ كقوله:
{ بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } [النساء: 56]، وقوله: { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } [الإسراء: 97]؛ فذلك هو الزيادة في العذاب.
ويحتمل غير ذلك، وهو أن عذاب الكفر دائم أبداً؛ فيزداد لهم عذاباً بما كان لهم في الكفر - سوى الكفر - أعمال ومساوٍ، كما يعفى ويتجاوز عن المؤمنين ما كان منهم من المساوي؛ كقوله:
{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ } [الأحقاف: 16]؛ مقابل ما كان يعفى عن المؤمنين المساوي، زيد لأهل الكفر، على عذاب الكفر؛ لمساويهم.
وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه -: (زِدْنَهُمْ عَذَاباً ضِعْفاً بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ)، وأصله أن جزاء الآخرة من الثواب والعذاب على المضاعفة؛ لأنه دائم لا انقطاع له. وما ذكر من الزيادة والفوق وغيره - فهو على المضاعفة.
وقوله - عز وجل -: { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ }.
يحتمل قوله: { مِّنْ أَنْفُسِهِمْ }، أي: من البشر، ويحتمل ما ذكرنا من شهادة الجوارح عليهم.
وقوله - عز وجلّ -: { وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىٰ هَـٰؤُلآءِ }.
هو ما ذكرنا: يشهد الرسول عليهم بالتبليغ، ويشهد لمن أجابه وأطاعه، وعلى من ردّ كذبه بالرد والتكذيب.
وقوله - عز وجل -: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ }.
يحتمل قوله: { تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ }: ما ذكر في هذه السورة؛ لأنه ذكر فيها جميع أصناف النعم وجواهرها، ووجوه الأسباب التي بها يوصل إليها، وذكر فيها ما سخر لهم من أنواع الجواهر، وفيه ذكر ما وعد وأوعد، وأمر ونهي، وذكر ما حل بالأعداء وما ظفر أولياؤه بهم. وفيه ذكر سلطانه وقدرته، وذكر سفه الكفرة وعنادهم، وذكر ما يؤتى ويتقى؛ فذلك تبيان لكل شيء.
أو أن يكون في الكتاب تبيان كل شيء، وفي القرآن ما ذكرنا: من الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وأخبار الأمم الماضية وأمثالهم، وجميع ما يؤتى ويتقى؛ ففيه تبيان كل شيء من الوجه الذي ذكرنا.
أو أن يكون أنزل عليه الكتاب [تبيانا] لكل ما دعا به الرسل وجاءت به الرسل والكتب جميعاً. في هذا الكتاب جميع ما أتى به الرسل والكتب من الأمر والنهي والوعد والوعيد، كقوله:
{ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } [المائدة: 48].
ثم اختلف في ذلك البيان:
قال بعضهم: تحتمل الآية وجهين:
أحدهما: الخصوص على الأصول دون الفروع؛ كذكر الكمال للدين، لكن ذلك وصف الدين، وقد يقع له الكمال بالكتاب والسنة، وهذا للكتاب؛ فلم يجز التقصير عن الاشتمال عما لزمت الحاجة في أمر الديانة.
وذكر أن الكتاب تبيان لكل ما وقعت إليه حاجة في أصول الدين: من الإيمان، وأنواع العبادات، والأحكام مع الحدود والحقوق، ومكارم الأخلاق: تنتظم صلة الرحم، وعشرة الإخوان، وصحبة الجيران، ونحو ذلك؛ فتشتمل هذه الجملة على أصول الدين، وما وراءها يكون موكولاً إلى بيان الرسول؛ ليفي الكتاب بما شرط له تلاوة ودلالة الوجه.
والوجه الثاني: أن يكون تبياناً لكل شيء منتظماً لما فيه، مجمله ومبهمه ومشكله، ولبيان الرسول مجمله وتفسيره مبهمه، وإيضاحه، ودلالته على مشكله.
وقال: والسنن كلها بيان للكتاب؛ لارتباط بعض ببعض. ثم قد يحتمل الآيات التي فيها ذكر البيان والتفصيل وجوهاً غير الوجهين اللّذين ذكرتهما:
أحدها: أنه تبيان كل شيء ظهر فيه التنازع بين أهل الأديان، وألزمتهم الضرورة فيه إلى البيان؛ فجعل الله الكتاب تبياناً ألزمهم بالتدبر العلم بأنه من عند الله؛ بخروجه عما عليه وسع القوم عن نوع ما ذكر فيه من الحجج والأدلّة، وبما أعجزهم عن الطمع في تأليف مثله ونظمه؛ ليعرفوا أن الله قد أعانهم فيما مستهم الحاجة، وألجأتهم الضرورة إلى من يطلعهم على الحق فيما لو أهملوا عن ذلك لتولد منه العداوة والعناد؛ فأنعم الله عليهم به، وبين فيه جميع ما بين إليه من الحاجة لدوام الأخوة.
والثاني: أن يكون فيه تبيان كل شيء بالطلب من عنده، وبالبحث فيه الظفر بكل ما ينزل بهم من الحاجات إلى الأبد؛ فيكون هو أصل ذلك. لكن باختلاف الأسباب يوصل إلى حقيقة العلم به، وذلك نحو ما جعل الماء حياة لكل شيء ووصف أن في السماء رزق جميع الخلق؛ [فأخبر أنه] أنزل من السماء اللّباس والرياش [لكل شيء]، وأخبر أنه خلقنا من تراب، ثم أخبر أنه خلقنا جميعاً من نفس واحدة؛ على رجوع كل ما ذكر باختلاف الأسباب والتوالد إليه، والله أعلم.
وذلك كما قال أهل الكلام في جعل المحسوسات أدلة لكل غائب: جعلها الله أدلة توصل إليه بالتأمل والنظر فيكون المحسوس مبيناً من ذلك، وإلا على اختلاف الدرجات في حد البيان مع ما قد جعله الله كذلك، حتى إن في الفلاسفة من تكلف استخراج كلية أمور العالم العلوي والسفلي. وما على ذلك مدار ما عليه من هذا المحسوس؛ فمثله أمر القرآن، والله الموفق.
والثالث: أن يكون فيه بيان على الرمز والإشارة مرة، وعلى الكشف ثانياً؛ فما كان منه على الرمز فهو مطلوب في المعاني وطريق الرسول إلى ما في تلك المعاني من الأمور المختلفة:
منها ما يقع بمعونة الوحي من غير الكتاب على اختلاف وجوه الوحي من إرسال على لسان ملك، أو رؤيا، أو إلهام.
والتأمل في ذلك، أو الاستدلال بما قد أوضحه بعد توفيق الله للحق في ذلك وعصمته عن الزيغ.
أو على ما شاء من ترتيب الحكماء في حق التفاهم لغوامض الأمور، أو غير ذلك مما يريد الله أن يطلع عليه نبيّه؛ فإن لطف ربّ العالمين بما عامل به الأخيار يجل عن احتمال العبارة عنه أو تصويره في الأوهام، نحو كتابة الحفظة، وقبض ملك الموت أرواح الخلق في وقت واحد في أطراف الأرض، ونحو ذلك، وذلك كله حدّ اللّطف الذي يعجز البشر عن الإحاطة؛ فعلى ذلك أمر تبيان كل شيء مع ما يحتمل بتأويل الآية إلى أغلب الأمور وأعمها، كقوله - تعالى -:
{ وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [الأنبياء: 30]، وغيره، ولا قوة إلا بالله.
والأصل عندنا: أن ليس للبيان عدد يجب حفظ العدد، على ما ذكره قوم: أنه على خمسة أوجه؛ إنما هو أمران:
أحدهما: ما يبين هو.
والثاني: ما يبين غيره، لكن الوجه الذي به يقع ما غاب عن الحواس بالبيان أصله الواقع تحت الحواس؛ إذ البين الذين من جحده حرم أوّل درجات البيان [ومنع] عن فهم المجحود عنه؛ إذ الجحود يكفي كلاًّ مؤمنة خصومته، ثم غيره مما يصير بالتأمّل على الوجوه التي جعلت للوصول إليه، وإن بعد أو قرب بدليله كالمحسوس؛ إذ التأمل في الأسباب هو سبب الوصول إلى ما غاب، كاستعمال الحواس فيما يشهد؛ فمن أراد القطع على حد أو شيء يحتاج إلى دليل فيه.
وأصل البيان - حقيقة - هو الظهور، وأسباب إظهار الأشياء متفاوتة، وعلى ذلك مقاديرها من الظهور، وجملته ارتفاع التواتر عن القلوب، وتجلي حقائق الأمور لها؛ على قدر العقول في الإدراك وما يتجلى للقلوب على مقدار ما يحتمل من الظهور.
وقوله - عز وجل -: { وَهُدًى وَرَحْمَةً }.
يجب أن يكون قوله: { تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ }، وقوله: { وَهُدًى وَرَحْمَةً } - كله واحد الرحمة والهدى والبيان، وبرحمته وبهداه يتبين لهم ويتضح، لكنهم قالوا: البيان للناس كافة يبين ويتضح إلا من عاند وكابر، والهدى والرحمة للمؤمنين خاصّة؛ على ما ذكر وهدى [ورحمة] وبشرى للمسلمين؛ ذلك للمسلمين خاصّة، والله أعلم.