خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً
١٥
وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً
١٦
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً
١٧
-الإسراء

تأويلات أهل السنة

قوله - عزّ وجلّ -: { مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ }.
أي: من اهتدى إلى ما جعل الله عليه من أنواع النعم، وقام بأداء شكرها فإنما فعل ذلك لنفسه؛ لأنه هو المنتفع به.
أو يقول: من اختار الهدى وأجابه إلى ما دعاه مولاه فإنّما يهتدي لنفسه، أي: فإنّما اختار ذلك لنفسه؛ لأنه هو المنتفع به وهو الساعي في فكاك رقبته.
وقوله - عزّ وجلّ -: { وَمَن ضَلَّ }.
أي: من ضلّ، أي: من اختار الضلال { فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا }، أي: فإنما يرجع عليها ضرره، وهو ما ذكر:
{ مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } [فصلت: 46].
وقوله: { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا }.
وقوله: { وَمَن ضَلَّ } عن ذلك { فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا }.
أي: إلى نفسه يرجع ضرر ضلاله على نفسه؛ كقوله:
{ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } [النمل: 40].
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ }.
هو ما ذكرنا، أي: لا تحمل نفسٌ خطيئةَ أخرى، ولا تأثم بوزر أخرى، والله أعلم؛ ذكر هذا ليعلم أن أمر الآخرة خلاف أمر الدنيا؛ لأن في الدنيا قد يؤخذ نفس مكان أخرى، ويحتمل نفس مؤمنة أخرى، وفي الآخرة لا تؤخذ [نفس] بدل أخرى.
والثاني: قد يتبرع بعض عن بعض بتحمل المؤُنات والقيام في فكاكها، وأمّا في الآخرة فلا يتبرع بذلك.
وقوله - عز وجلّ -: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً }.
يحتمل: ما كنا معذِّبين تعذيب استئصال في الدنيا إلا بعد دفع الشبه - ودفعها عن الحجج - من كل وجه، وبعد تمامها، وإن كانت الحجة قد لزمتهم بدون بعث الرسل؛ ليدفع عنهم عذرهم من كل وجه، أو أن يكون قوله: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } إفضالاً منه ورحمة، وإن كان العذاب قد يلزمهم، والحجة قد قامت عليهم، والعذاب الذي كانوا [يعذبونهم في] الدنيا ليس هو عذاب الكفر؛ لأن عذاب الكفر دائم أبداً لا انقطاع له، وهذا مما ينقطع وينفصل، لكن يعذبون بأشياء كانت منهم من العناد ودفع الآيات، وأما عذاب الكفر فهو في الآخرة أبداً لا ينقطع.
وفي الآية دلالة أن حجة التوحيد قد لزمتهم وقامت عليهم بالعقل، حيث قال: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً }؛ فلو لم تلزمهم لكان الرسل إذا دعوهم إلى ذلك يقولون: من أنتم ومن بعثكم إلينا؟ فإذا لم يكن لهم هذا الاحتجاج دل أن الحجة قد قامت عليهم، لكن الله بفضله أراد أن يدفع الشبه عنهم ويقطع عنهم عذرهم برسول يبعث إليهم؛ لما أن أسباب العلم بالأمور ثلاثة:
فمنها ما يعلم بظاهر الحواس بالبديهة، ومنها ما يفهم [ويعلم] بالتأمل والنظر، ومنها ما لا يعلم إلا بالتعليم والتنبيه.
وقال القتبي: { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } وهو ما ذكرنا، أي: نخرج بذلك العمل كتاباً.
وقال أبو عوسجة: أي نكتب ما عمل ثم نقلده في عنقه فيجيء به يوم القيامة.
وقال أبو عبيدة: طائره حظه.
وقال غيره من المفسّرين: ما عمل من خير وشر ألزمناه عنقه.
قال القتبي: وهذان المعنيان يحتاجان إلى بيان.
والمعنى فيما أرى - والله أعلم - أن لكل امرئ حظّاً من الخير والشر قد قضاه الله؛ فهو لازم عنقه، والعرب تقول: إن كل ما لزم الإنسان قد لزم عنقه، وهو لازم طائر في عنقه، وهذا لك عليّ وفي عنقي حتى أخرج منه؛ وإنما قيل للحظ من الخير والشر: طائر؛ لقول العرب ما ذكرنا: جرى له الطائر بكذا من الخير، وجرى له الطائر بكذا من الشر؛ على وجه الفأل والطيرة على مذهبهم في تسمية الشيء بما كان له سبباً، وهو ما ذكر.
وقوله: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً }.
التعذيب يكون على وجوه ثلاثة:
أحدها: يعذبهم في الدنيا ابتداء بتعذيب؛ امتحاناً وابتلاء بلا جريمة كانت منهم؛ كقوله:
{ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } [الأنبياء: 35]، وقوله: { وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ } [الأعراف: 168]، ونحوه؛ فيكون تنبيهاً وتذكيراً لهم لا تكفيراً.
والثاني: يعذب تعذيب العناد والمكابرة، وهو تعذيب إهلاكِ استئصالٍ؛ فهو عقوبة لهم، وموعظة للمتقين، وعبرة لغيره، وهو الذي يأتي على أثر وعيد.
والثالث: عذاب الموعود في الآخرة؛ يقول: وما كنا معذِّبين في الآخرة حتى نبعث رسولاً في الدنيا.
والأشبه أن يكون ما ذكر من التعذيب هو تعذيب استئصال، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا }.
بالتخفيف، والتثقيل: { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا }، ثم من قال { أَمَرْنَا } بالتثقيل يحتمل وجهين:
أحدهما: { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } من الإمارة والتسليط عليهم، أي: أمرنا عليهم وسلطنا مترفيها، أي: أكثرنا عددهم وسلطنا مترفيها فُسَّاقَهَا ومستكبريها.
والثاني: { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا }، أي: أكثرنا عددهم ومُنَعَّمِيهم؛ يذكر لهم هذا لقولهم:
{ وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ... } الآية [الزخرف: 23]، وقولهم: { نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً... } الآية [سبأ: 35]: كانوا يزعمون أنهم لا يعذبون؛ لأنهم قد أنعموا في هذه الدّنيا وأكثروا أموالهم وأولادهم؛ فأخبرهم - عز وجل - أنه ما أهلك من الأمم الخالية إلا بعد ما كثر عددهم ووسع عليهم الدنيا، لم يهلكوا في حال القلة والضيق؛ كقوله: { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوْاْ } [الأعراف: 95]، أي: كثروا، وقوله: { حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } [الأنعام: 44]: لم يأخذ بالعذاب الأمم الخالية إلا في حال كثرتهم وأمنهم وغِرَّتهم بالسَّعَة؛ يحذر هؤلاء؛ لئلا يغتروا بكثرة أموالهم وأولادهم وعددهم.
ومن قال: { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } بالتخفيف هو من الأمر، أي: أمرنا عظماءهم وكبراءهم طاعة الرسل والإجابة إلى ما دعاهم إليه، حتى إذا عصوا رسله وتركوا إجابتهم - على العناد والمكابرة - فعند ذلك يهلكون؛ لما ذكرنا أنه لم يستأصل الأمم الخالية إلاّ بعد عنادهم في آيات الله، ومكابرتهم في دفعها وتكذيبها، لا يهلكهم في أول ما كذبوا آيات الله وخالفوا رسله.
وقوله: { مُتْرَفِيهَا }، قال بعضهم: المترف: المنعَّم، وقال بعضهم: المترف: المكرم والمستكبر، وكله واحد.
وفي قوله: { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً } دلالة أن الإرادة غير المراد؛ لأنه أخبر بتقدم الإرادة عن وقت الإهلاك؛ دل أنها غيره، وفيه أنه أراد السبب الذي به يهلكون، وهو التكذيب والعناد؛ لما علم منهم أنهم يختارون ذلك؛ إذ لا يحتمل أن يريد هلاكهم، وهو يعلم منهم غير سبب الهلاك؛ فهذا يرد قول المعتزلة: إن الإرادة هي المراد، وأنه لم يرد ما كان منهم من سبب الهلاك، والله أعلم.
وقوله - عزّ وجلّ -: { فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ }.
بما أراد إهلاكهم وجب عليهم، أو يكون قوله: { فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ } بما أخبر عن الأمم الخالية، وهو قوله:
{ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ... } الآية [الأحزاب: 38، 62].
وقوله - عزّ وجلّ -: { فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً }.
أي: أهلكناهم إهلاكاً.
وقوله - عزّ وجلّ -: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً }.
يحتمل أن يكون الخبير والبصير واحداً، ويشبه أن يكون بينهما فرق؛ الخبير: العالم بأعمالهم، والبصير بمصالحهم ومعاشهم وبجزائهم؛ يقال: فلان بصير في أمر كذا، وفلان أبصر من فلان.
ويحتمل أن يكون بذنوب عباده، وهو مكرهم الذي كانوا يمكرون برسول الله؛ فقال: وكفى بمكرهم الذي يمكرون بك.