خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً
٥٣
رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً
٥٤
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ ٱلنَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً
٥٥
-الإسراء

تأويلات أهل السنة

قوله - عزّ وجلّ -: { وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }.
يحتمل قوله: { ٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } الوجوه الثلاثة:
أحدها: الدعوة؛ كقوله:
{ ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ } [النحل: 125]: أمره أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فالتأنيث للدعوة، كأنه قال: ادع لهم الدعوة التي هي أحسن الدعوة، على إضمار الدعوة.
وجائز على إضمار الحسنة، أي: قل لهم أن يقولوا لهم الحسنة التي هي أحسن.
أو على إضمار الأقوال؛ كأنه قال: يقولوا لهم الأقوال التي هي أحسن الأقوال، وإلا ظاهره أن يقول: "يقولوا الذي هو أحسن".
والثاني: على إضمار المجادلة - المناظرة - معهم؛ كقوله:
{ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل: 125]: أمر رسوله أن يجادلهم أحسن المجادلة والمحاجة معهم.
والثالث: في حسن المعاملة معهم والعفو والصفح عما كان منهم إلى المسلمين من أنواع الأذى فأمرهم أن يحسنوا معاملتهم ويصفحوا عنهم؛ كقوله:
{ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } [المائدة: 13]، وكقوله: { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ... } الآية [المؤمنون: 96]، وقوله: { وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ... } الآية [آل عمران: 134] ونحوه من الآيات: أمرهم أن يعاملوا أولئك أحسن المعاملة، [وهو أن الله يتركهم] ولا يكافئهم بسوء صنيعهم، ولكن يعفون عنهم، ويصفحون لما لعلهم يكونون أولياء وحميماً على ما أخبر، ويصيرون إخواناً لهم من بعد هذا في حق هذه الآية.
وأمّا من جهة الحكمة، وهو أن الله - تعالى - أنشأ هذا اللسان وجعله ترجماناً بين الخلق: به يفهم بعضهم من بعض، وبه يقضي الحوائج بعضهم من بعض، وبه قوام معاشهم ومعادهم، وبه بعث الرسل والكتب جميعاً، فإذا كان كذلك فالواجب ألا يستعمل إلا في الخير والحكمة، ولا ينطق به إلا ما هو أحسن وأصوب، والله أعلم.
وقوله - عزّ وجلّ -: { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ }.
أي: يفسد بينهم ويوسوس إليهم ويغري بعضهم على بعض؛ ليفسد بينهم، وذلك كقوله: { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً }.
أي: كان الشيطان منذ كان للإنسان عدوّاً ظاهراً عداوته بيّناً. جعل الله - تعالى - الشيطان بحيث يوسوس إليهم ويدعوهم إلى أشياء يظنون أن ذلك خير لهم، وأبداً يلقي إليهم ما يقع عندهم أن ذلك أنفع لهم ويحبب إلى كلٍّ مذهباً يقع عنده هو الحق؛ فيقع بذلك الإفساد وإبقاء العداوة بينهم أبداً هذا دأبه وشأنه يجبر كلا إلى جهة، ويري كل أحد جهة غير الجهة التي أرى الآخر، والله أعلم.
وقوله - عزّ وجلّ -: { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ }.
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: { أَعْلَمُ بِكُمْ }: بمصالحكم، وما لا يصلح لكم في الدّنيا والآخرة.
والثاني: { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ }: بما تسرون وما تعلنون، وما تعلمون وتفعلون، وإلا: لا شك أنه أعلم بنا منا.
وقوله - عزّ وجلّ -: { إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ }.
قال بعضهم: :إن [يشأ] يرحمكم فينجيكم من أذى هؤلاء، أو إن يشأ يعذبكم فيسلّطهم عليكم.
والثاني: إن يشأ يرحمكم، فيهديكم إلى دينه، ويوفقكم لسبيله، أو إن يشأ، يترككم ويخذلكم، ولا يهديكم إلى سبيله، ولا يوفقكم لدينه.
وقوله: { إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ }: يحتمل الرحمة في الدنيا والآخرة: أما في الدنيا: هو أن يوفقهم على الطاعة، ويعينهم على ذلك وفي الآخرة: ينجيهم ويدخلهم الجنة. وأما التعذيب في الدنيا: أن يخذلهم ويتركهم على ما يختارون، وفي الآخرة يعذبهم في النار بالذي اختاروا في الدّنيا.
وقوله - عزّ وجلّ -: { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً }.
قال بعضهم: أي: لم نجعلك حفيظاً على ردّهم وإجابتهم وعلى صنيعهم.
وقال بعضهم: وكيلاً، أي: ثقيلاً بأعمالهم، أي: لا تؤخذ أنت بصنيعهم؛ كقوله:
{ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ } [الأنعام: 52]، وكقوله: { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } [النور: 54].
وقال بعضهم: { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً }، أي: مسلطاً عليهم وقاهراً لهم.
وقوله - عزّ وجلّ -: { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ }.
يحتمل ما ذكرنا: أنه أعلم بمصالحهم ومفاسدهم، وما يسرّون وما يعلنون، ويحتمل غير هذا؛ جواباً لقولهم:
{ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31]، وقوله: { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام: 124].
يقول - والله أعلم - { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ }، أي: أعلم بمن يصلح للنبوة والرسالة، وبمن لا يصلح، ومن هو أهل لها [ومن ليس بأهل لها].
أو يقول: أعلم بمن في السماوات والأرض، أي: عن علم بما يكون منهم أنشأهم لا عن جهل، أو أعلم بهم من أنفسهم، والله أعلم.
وقوله - عزّ وجلّ -: { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ ٱلنَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ }.
مثل هذا لا يكون إلا في نازلة، لكنه لم يذكر النازلة التي عندها نزلت، ثم اختلف فيما ذكر من تفضيل بعض على بعض:
قال بعضهم: إنه أعطى كلاًّ شيئاً لم يعط غيره؛ من نحو ما ذكر أنّه كلّم موسى، واتخذ إبراهيم خليلاً، وأعطى عيسى إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وهو روح منه وكلمته، وأعطى سليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وأعطى داود زبوراً، وأعطى سيّدنا محمّداً صلى الله عليه وسلم أن بعث إلى الناس كافّة، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر ومثله.
وقال بعضهم: فضل بعضاً على بعض في الدرجة والمنزلة والقدر عنده.
فالأوّل: يكون التفضيل في الآيات والحجج، والثاني: في أنفسهم: في المنزلة والقدر.
ويحتمل ما ذكر من تفضيل بعض على بعض في الآيات والحجج.
ويحتمل في كثرة الأتباع: يفضل بعضهم على بعض بكثرة الأتباع.
والثالث: يفضل بعضهم على بعض في القيام بشكر ما أنعم عليه وصبره على ما ابتلاه به.
والرابع: [...].
وعلى قول المعتزلة: لا يكون لأحد فضيلة عند الله إلا باستحقاق منه.
وقوله - عزّ وجلّ -: { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً }.
جميع كتب الله: زبور؛ لأن الزبور هو الكتاب. وقد ذكرنا أنا لا ندري لأية نازلة ذكر هذا، ولا يحتمل ذكر مثله على الابتداء والاستئناف، لكن فيه أن التفضيل والمنزلة إنما يكون من عند الله، ومن عنده يستفاد لا بتدبير من أنفسهم واستحقاق؛ حيث قال:
{ ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } [الإسراء: 21]، لئلا يرى أحد الفضل والمنزلة لنفسه بأسباب منه؛ ولكن من عند الله.
وقال الأصم في قوله: { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ ٱلنَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ } يقول: يخاطب به أهل الكتاب: أن أوائلكم كانوا يرون لبعض على بعض فضلاً في الدنياوية.
ثم إن أولئك المفضلين كانوا يتبعون الرسل؛ لما رأوا لهم من الفضل والخصوصية؛ فما بالكم يا أهل مكة لا تتبعون محمداً، وقد ترون [له] فضائل وخصوصية ما لا ترون ذلك لأنفسكم ولا لأحد سواه، وكلام نحو هذا، والله أعلم.