خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً
٦١
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً
٦٢
قَالَ ٱذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً
٦٣
وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً
٦٤
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً
٦٥
-الإسراء

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمََ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً }.
قوله: { أَأَسْجُدُ }، أي: لا أسجد؛ كقوله:
{ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ } [الحجر: 33]؛ فدلّ هذا أن قوله: { أَأَسْجُدُ } معناه، أي: لا أسجد. ذكر في قصة إبليس ألفاظاً مختلفة:
مرة قال:
{ يٰإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ } [الحجر: 32]، وقال في موضع [آخر]: { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } [ص: 75]، وفي موضع آخر: { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [الأعراف: 12]، ونحوه؛ فجائز أن يكون ذكر هذا على اختلاف الأحوال لا في حال واحدة. هذا على ما ذكر في قصّة آدم من اختلاف الأحوال حيث قال مرة: { مِن تُرَابٍ }، وقال مرة: { مِّن طِينٍ } [المؤمنون: 12]، ومرة: { مِن صَلْصَالٍ } [الحجر: 33]، ونحوه، وذلك إخبار عن أحوال تغيرت فيها.
وجائز أن يكون ذلك بغير هذا اللسان؛ فذكر هاهنا بألفاظ مختلفة؛ والزيادة والنقصان؛ لأن اختلاف الألفاظ لا يغير المعنى.
وقوله - عزّ وجلّ -: { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ }.
قد أقر إبليس - لعنه الله - بالفضيلة لآدم والإكرام له إما من جهة الطاعة له والنبوة التي أعطاها الله [له]، وإن ادعى لنفسه الفضيلة عليه من جهة الخلقة؛ بأنه ناري وهو طيني، حيث قال: { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ }: أقر بالفضل له عليه، والإكرام: إما لطاعتهم له، أو لما جعله رسولاً إلى خلقه.
وقوله - عز وجل -: { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً }:
لا يحتمل أن يخاطب ربه ويقول: لئن أخرتني إلى كذا لأحتنكن؛ لأنه لما طلب التأخير والبقاء إلى يوم القيامة كان طالب نعمة منه ومنة؛ فيقول مقابل ما يطلب من النعمة: لئن أعطيتني ذلك لأعصينك؟! إنما يذكر مقابل طلب النعمة الطاعة له والشكر؛ على ما قال:
{ وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ } [التوبة: 75]: إنما يقابل بطلب النعمة الطاعة له، وأما مقابلة المعصية - فلا تعرف.
ثم يخرج قوله: { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } على وجهين:
أحدهما: على التأكيد، يقول: أي إنك، وإن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته.
أو على التمني منه الأمرين جميعاً: التأخير، واحتناك ذرّيته، وسؤاله إياهما.
ثم اختلف في قوله: { لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ }:
قال بعضهم: لأحتوينهم ولأحيطن بهم.
وقال بعضهم: لأضلّنهم؛ على ما ذكر في آية أخرى:
{ وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ } [النساء: 119].
وقال بعضهم: { لأَحْتَنِكَنَّ }: لأستزلن.
وقيل: لأستولين.
وقال القتبي: { لأَحْتَنِكَنَّ }، أي: لأستأصلنهم.
ويقال: هو من حنك الدابة، حنك دابته: يحنكها، حنكاً، إذا شد في حنكها الأسفل حبلاً يقودها به.
وقال القتبي: أي: لأقودنهم كيف شئت.
ثم قوله: { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ } كأنه سأل ربه التأخير، على ما ذكر في آية أخرى؛ حيث قال:
{ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الحجر: 36]؛ كأن اللعين لما سمع قوله: { وَإِنَّ عَلَيْكَ ٱللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [الحجر: 35] [علم] أنه لا تناله الرحمة في الإيمان به؛ حيث ذكر اللعنة عليه إلى يوم الدين، واللّعين هو المطرود عن رحمته، فعند ذلك سأل ربّه النظرة [إلى يوم القيامة]؛ ليغوين عباده، وعلم اللعين: أن طاعة خلقه له لا تزيد في ملكه شيئاً، وعصيانهم لا ينقص في ملكه شيئاً. لذلك قال: { لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ }، { وَلأُغْوِيَنَّهُمْ }، { وَلأُضِلَّنَّهُمْ }، وما ذكر.
وقوله - عز وجل -: { قَالَ ٱذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ }.
مع إحساني إليهم وإنعامي عليهم.
{ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً }.
وقوله - عزّ وجلّ -: { وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ }.
هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: على التمكين له ذلك والإقدار على ما ذكر، أي: مكن له ذلك، وأقدر عليه؛ لخذلانه إياه لما عصى ربّه وترك أمره؛ لما رأى أمره بالسجود لآدم جوراً منه، حيث قال له:
{ وَإِنَّ عَلَيْكَ ٱللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [الحجر: 35]. مكن له ذلك، لتتم له اللعنة والخذلان.
والثاني: قال ذلك له على التوعد والتهدد؛ ألا ترى أنه ذكر هذا على أثر وعيد، وهو قوله: { قَالَ ٱذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً }، فيخرج على إثر ذلك مخرج الوعيد له ولمن تبعه وأجابه، كقوله:
{ ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [فصلت: 40] لهذا وإن كان ظاهره أمراً فهو وعيد؛ فعلى هذا قوله: { وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ } فإن لك ولمن تبعك كذا.
أو لما ذكرنا من التمكين له ذلك والإقدار على ذلك ليتم له اللعنة والخذلان.
والثاني: قال ذلك الذي لعنه، وإلا لا يجوز أن يكون الله يأمره بما ذكر أن يخرج الأمر بما ذكر مخرج سفه والأمر بالفحشاء، وقد أخبر أنه: لا يأمر بالفحشاء والمنكر، وإنما يأمر بالعدل؛ كقوله:
{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ } [الأعراف: 28]، وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ } [النحل: 90]؛ فلو حمل هذا على الأمر لكان أمراً بالفحشاء والمنكر فدلّ أنه يخرج على أحد الوجهين اللذين ذكرناهما، أو على الاستبعاد والإياس عن أن يملك أو يقدر عليهم بما ذكر إلا من اختار منهم اتباعه، وهو ما ذكر: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ... } الآية [الإسراء: 65]، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَٱسْتَفْزِزْ }: قال القتبي، أي: استخف، والرجل: الرجالة.
وقال أبو عوسجة: { وَٱسْتَفْزِزْ }، أي: استخف، أي: دعاه فأجابه وأمره فأطاعه؛ وعلى هذا يخرج قوله:
{ فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } [الزخرف: 54]، أي: أمرهم فأطاعوه، أو دعاهم فأجابوه.
وقوله - عزّ وجلّ -: { بِصَوْتِكَ }.
يحتمل وجوهاً ثلاثة:
أحدها: على حقيقة الصوت، يكون له صوت يدعو الناس به، فيسمع ذلك الصوت النفس الخفية التي تكون في هذه النفس الظاهرة الكثيفة، ولا تسمعه النفس الظاهرة، على ما يخطر أشياء بالقلب من غير أن يعلم به الإنسان أنه من أين جاء؟ ومن أين هيجانه؟ وعلى ما يقذف ويوسوس أشياء في القلوب من غير أن يعلم ذلك ويطلع عليه؛ فعلى ذلك يجوز أن يكون له صوت يدعو الناس به، وإن كنا لا نسمعه؛ لكنّه يسمع النفس الخفيّة بما يسمع النفس الظاهرة، وبها نبصر - أعني: بالنفس الخفية - ألا ترى أن النائم يرى أشياء ويكون في أقصى الدنيا، ونفسه الظاهرة ملقاة هاهنا؛ فذلك كله بالنفس الخفية.
والثاني: على التمثيل، ليس على تحقيق الصوت، لكن ذكر الصوت؛ لما بالصوت يوصل إلى إعلام بعضهم بعضاً، وبه يدعو بعضهم بعضاً عند البعد؛ فذكر الصوت له مكان الوسوسة التي يوسوس الناس أشياء من بعد، ويدعوهم به إلى معاصي الله - تعالى - وكذلك قال الحسن في قوله:
{ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ٱلشَّيْطَانُ } [طه: 120]: من بعد من غير أن كان هنالك تقرب منه.
والثالث: على إضافة عمل كل عاص من نحو الغناء والمزامير وغيره، أو ما يضاف عمل كل طاغ وكل ضال إليه؛ أضيف ذلك إليه كما أضاف إليه موسى حيث قال:
{ هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ } [القصص: 15]، وقوله: { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَانُ } [الكهف: 63]، ولم يكن ذلك عمل الشيطان حقيقة، ولكن قال ذلك وأضافه إليه؛ لما بأمره ودعائه يعمل ذلك.
وقال عامة أهل التأويل: { بِصَوْتِكَ }، أي: بدعائك.
وقوله - عز وجل -: { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ }.
قال بعضهم: { وَأَجْلِبْ }، أي: اجمعهم، ويقال: وأجلبتهم، أي: أعنتهم - أيضاً - وهو قول أبي عوسجة.
وقوله: { بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ }.
يخرج على الوجوه الثلاثة التي ذكرنا:
أحدها: أن يكون له خيل ورجالة من جنسه وجوهره بجلبهم بهم، وإن كنا لا نراهم؛ كما قال:
{ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ... } الآية [الأعراف: 27]؛ فجائز أن يكون له خيل ورجالة وجنود لا نراهم نحن، وهم يروننا.
والثاني: على ما ذكرنا: أنه على التمثيل، لكنه ذكر الخيل والرجل؛ لما بالخيل والمشي يصل بعض إلى بعض عند الحاجة إليه في البعد والقرب؛ فذكر ذلك له على ما ذكرنا في الصوت.
والثالث: أنه أضاف كل خيل راكب في معصية الله، أو كل ماش [مشى] في معصية الله إليه؛ على ما ذكرنا في الصوت: أنه أضاف كل صوت في معصية الله إليه، والله أعلم.
وقوله - عزّ وجلّ -: { جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً }:
قال القتبي: { مَّوْفُوراً }، أي: موفراً.
وقال غيره: وافراً.
وفي قوله: { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأن إبليس سأل ربّه التأخير والإبقاء له إلى يوم القيامة، وقد علم أنه إذا أعطاه ذلك له يفي ما وعد، وأبقاه إلى ذلك الوقت، وهم لم يعرفوا ذلك؛ بل قالوا: إنه يجيء عبد فيقتله؛ فيمنعه عن وفاء ما وعد، والإبقاء إلى الوقت الذي وقت له؛ فهو أعرف بربه منهم، وكذلك قال:
{ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي } [الحجر: 39]، وهم يقولون لم يغوه؛ فهو أعرف به منهم.
وقوله - عز وجل -: { وَشَارِكْهُمْ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلادِ }.
قال بعض أهل التأويل: مشاركته في الأموال: هي أن يجعلوا [له] البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي؛ على ما كانوا يفعلونه.
وأمّا الأولاد: فإنهم هودوهم ونصروهم، ومجَّسوهم، وهو قول قتادة.
وقال بعضهم: مشاركته في الأموال: هي أن يكتسبوها من خبيث وحرام، وينفقونها في مثله وفيما لا يحل.
وأمّا الأولاد: ما ولدوا من الزنا.
وقال بعضهم: الأموال: ما كانوا يذبحون لآلهتهم، ويجعلون لها من الحرث والأنعام.
والأولاد: ما ولدوا من الزنا.
وجائز أن يكون هذا صلة ما تقدم من قوله: { وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ... } [الإسراء: 64] إلى آخر ما ذكر؛ حتى تشاركهم في الأموال والأولاد.
ثم معنى المشاركة له - فيما ذكر، والله أعلم - هو أن هذه الأموال والأولاد لله - تعالى - حقيقة؛ لما هو أنشأها وخلقها؛ فحقيقة الملك له بما ذكرنا، وظاهر الانتفاع لعبيده؛ إذ هذا كله لله بحق المحنة يمتحنهم وحق الانتفاع لهم؛ إذ لا يجوز أن يخلق الله شيئاً لمنفعة نفسه، ولكن يخلق لمنافع أنفسهم؛ ليمتحنهم بها. وقد شرع الله لهم شرائع، وشرع لهم إبليس شرائع، وهو ما ذكر:
{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ } [الشورى: 21]، فإذا صرفوا ذلك إلى ما شرع لهم إبليس دون ما شرع الله - فقد أشركوه فيها، وكل ما أطيع فيها مما [سن] لهم إبليس وشرع لهم - فذلك شركته فيها؛ وذلك أن الأولاد في الشاهد إنما تطلب لأحد الوجوه الثلاثة:
إمّا للاستئناس بهم في حال الوحشة.
وإمّا للاستنصار بهم والعون على أعدائهم.
وإمّا للذكر بعد الوفاة.
وكذلك الأموال يطلب منها ما ذكرنا:
الانتفاع بها في حال الحياة.
وإمّا للمعونة على الأعداء.
أو الذكر بعد الموت؛ لخيرات يتركونها، فإذا صرفوها إلى ما أمرهم إبليس أشركوه فيها، ومشاركته إياهم في الأموال هي أن يأمرهم ويدعوهم إلى اكتساب ما يحرم، والإنفاق فيما لا يحل وفي الأولاد، وكذلك يأمرهم بالمعصية، ويدعوهم إليه فيطيعونه ويجيبونه في ذلك، فذلك - والله أعلم - مشاركته.
وقوله - عزّ وجلّ -: { وَعِدْهُمْ }.
قال عامة أهل التأويل: أي: وعدهم أن لا جنة، ولا نار، ولا بعث، لكن يعدهم بخلاف ما وعد الله، وخوفهم على ضدّ ما خوفهم الله: ما كان من الله لهم وعد رجاء يكون منه وعد [خوف]، وما كان من الله [وعد خوف] يكون منه وعد رجاء؛ وهو ما قال:
{ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } [إبراهيم: 22]: أخبر أن ما وعد هو قد أخلف، فذلك تأويل قوله:
{ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً }، أي: كذباً وباطلاً؛ لأنه يخرج كله على خلاف ما وعد.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ }:
يحتمل قوله: { سُلْطَانٌ } وجوهاً ثلاثة:
أحدها: القدرة والقهر.
والثاني: في الحجة والبرهان.
والثالث: الولاية.
فأما القدرة والقهر: فليس له عليهم ذلك؛ لأنه لم يجعل له قدرة القهر عليهم شاءوا أو أبوا، وكذلك ليس له عليهم الحجة فيما يدعوهم إليه ويأمرهم به، كقوله يوم القيامة حين يقول:
{ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ... } الآية [إبراهيم: 22].
وأمّا سلطان الولاية فإن له ذلك على من اختار اتباعه وتوليه؛ كقوله:
{ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ } [النحل: 100]، وقوله: { إِنَّ عِبَادِي } المخلصين الذين أخلصوا إليّ، { لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } يحتمل قوله: { سُلْطَانٌ }، أي: حجة؛ لأنهم إنما يتبعون أمر الله بحججه؛ فلا يتبعون الشيطان بأمانيه التي يمنيهم، وشبهاته التي يشبه عليهم.
أو أن يكون قوله: { لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ }، أي: سلطان القهر والغلبة؛ إنما له عليهم الدعاء والتزيين لا غير.
أو أن يكون قوله: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ }: من الحجة والملك على ما ذكرنا؛ إنما سلطانه عليهم سلطان الولاية على الذين يتولونه.
وقوله - عز وجل -: { وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً }.
يحتمل: { وَكِيلاً }: عاصماً يعصمك عن تمويهاته وتسويلاته، وناصراً ينصرك على مكائده، أو مفزعاً تفزع إليه، أو معتمداً تعتمد عليه في جميع أمورك، والله أعلم.