خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً
٩
وأَنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
١٠
وَيَدْعُ ٱلإِنْسَانُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُ بِٱلْخَيْرِ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ عَجُولاً
١١
وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً
١٢
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً
١٣
ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً
١٤
-الإسراء

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }.
معنى: التأنيث في قوله { لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } قيل بوجوه:
قيل: إن هذا القرآن يهدي للملة التي هي أقوم الملل وأعدلها، والملة هي الدين، دين الله.
وقال بعضهم: يهدي إلى الأمور التي هي أعدل الأمور وأصوبها.
وقيل: يهدي إلى السبيل التي هي أقوم السبل وأعدلها.
يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرناها.
وجائز أن يكون قوله: { يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }، أي: للأعمال الصالحات وللخيرات، لأن الأعمال الصالحات قوامها به.
ثمّ قوله: { يَِهْدِي }: يحتمل وجهين: يحتمل: يبين، والثاني: يدعو؛ فهو يهدي الكل لو استهدوا، لكن خص هؤلاء لما منفعة تكون لمن ذكر، وقد ذكرنا أن هذا القرآن وغيره من كتب الله هدى ورحمة يدعو إلى ثلاث خصال: إلى معالي الأمور، ومكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال ومصالحها. وينهى عن مساوي الأعمال، وداني الأمور، وسوء الأخلاق ودناءتها؛ فهو هدى ورحمة على ما أخبر لمن استهدى به، ورشد لمن استرشد.
وقوله - عز وجل -: { وَيُبَشِّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ }.
البشارة المطلقة إنما جعلت للمؤمنين الذين عملوا الصالحات، لم يذكر للمؤمنين خاصّة على غير العمل الصالح؛ فالمسألة فيهم غير المسألة في هؤلاء.
وفيه دلالة أنه يقع اسم المؤمنين بدون العمل الصالح؛ لأنه قال: { ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ }؛ دلّ أن ذلك الاسم يقع بدون ذلك الاسم.
وفيه دلالة أن اسم الإيمان قد يستحق بدون العمل الصالح؛ حيث يشرط فيه العمل الصالح.
وقوله - عز وجل -: { أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً }.
سماه كبيراً؛ لكبير خطره عند الله، كما سمى عذاب النار عظيماً؛ لعظم خطره عنده، أو سماه كبيراً؛ لأنه أكبر ما يقصد إليه ويرغب فيه، وهو ثواب الجنة، والنار أعظم ما يحذر بها ويرهب عنها.
وقوله - عزّ وجلّ -: { وأَنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }.
إنكارهم البعث، وكفرهم به - هو الذي حملهم على تكذيبهم الرسل وكفرهم بالله، ليسلم لهم شهواتهم في الدنيا؛ لأن الرسل جميعاً دعوهم إلى ترك شهواتهم في الدنيا، ورغبوهم بما يوجب لهم الثواب في الآخرة وحذروهم عما يوجب العقاب، فأنكروا الآخرة والبعث رأساً ليسلم لهم الدنيا فذلك الذي حملهم على إنكار الرسل وتكذيبهم إياهم؛ ألا ترى أنه قال:
{ وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ } [الأنعام: 92] أي: بالقرآن أو بمحمدّ، إيمانهم بالبعث حملهم على الإيمان بالقرآن والرسول، وتكذيبهم الآخرة حملهم على تكذيب الرسل، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَيَدْعُ ٱلإِنْسَانُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُ بِٱلْخَيْرِ }.
قال بعضهم: إذا غضب الإنسان يدعو على نفسه وولده وأهله، ويلعن، كدعائه عليهم بالخير؛ لذلك انتصب قوله: { دُعَآءَهُ }.
وقال الحسن: إن الإنسان يتضايق صدره وقلبه بأدنى شيء يكره؛ فيلعن على نفسه وأهله؛ فلا يجيبه الله، ثم يدعو بالخير؛ فيعطيه، أو نحوه من الكلام.
وقوله: { وَيَدْعُ ٱلإِنْسَانُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُ بِٱلْخَيْرِ }: هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: ويدعو الإنسان بالشرّ على العلم منه بذلك كدعائه بالخير على العلم منه بذلك.
والثاني: يدعو الإنسان بالشر لو أجيب فيه على الجهل منه والغفلة، كدعائه بالخير لو أجيب في ذلك. ثم إن كان ذلك الإنسان هو الكافر فهو يدعو على الاستهزاء؛ كقوله:
{ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } الآية [الأنفال: 32]، وكذلك قوله: { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } [المعارج: 1]، ونحوه. وإن كان مسلماً فهو يدعو بالشر على نفسه وأهله عند الغضب على علم منه به، ويدعو أيضاً بالشرّ على السهو والغفلة منه، نحو ما يسأل الأموال والنكاح، ولعل ذلك شرّ له.
وقوله - عزّ وجلّ -: { وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ عَجُولاً }.
قال بعضهم: هذا لازم؛ لأنه لما خلقه الله فنفخ الروح في بعض جسده - همّ أن يقوم؛ فسمّاه عجولاً، لكن كل الإنسان خلق في الطبع من الأصل عجولاً؛ ألا ترى أنه لا يصبر على أمر واحد ولا على شيء واحد، وإن كان نعمة لم يصبر عليها؛ ولكن يمل عنها؟! وكذلك في أدنى شدّة وبلاء إذا بلي به لم يصبر عليه، فأبداً يريد الانتقال من حال إلى حال؛ ألا ترى أن قوم موسى قد أكرمهم الله بكرامات: من إنزال المنّ والسلوى عليهم من غير كد ولا جهد ولا مؤنة، وكذلك اللباس؛ ثم لم يصبروا على ذلك حتى قالوا:
{ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ } [البقرة: 61] فسألوا ربهم - الفوم، والبصل، ونحوه؟! على هذا طبع الإنسان ملولاً عجولاً؛ ألا ترى أن الله مكن في باطنه، وجعل في سعة رياضة نفسه، وصرفها إلى أحد الوجهين اللذين يجهد عليه ولا يذم، وهو أن يروضها ويعودها على الصبر والحكم والوقار، ويصرف تلك العجلة إلى الخيرات والطاعات التي يحمد عليها المرء بالعجلة، وإلا: ففي ظاهر الخلقة والطبع منشأ على العجلة وما ذكر؛ ألا ترى أنه قال: { إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً } [المعارج: 19-21] إلا كذا، وهو ما ذكرنا - والله أعلم - لكن بما امتحنه من الأمر والنهي والترغيب في الموعود والترهيب صيره بحيث يملك إخراجه عما طبع وأنشئ إلى حال أخرى بالرياضة التي ذكرنا؛ ألا ترى أنه ذكر الهلع والجزع، ثم استثنى إلا كذا؟! وعلى ذلك خلق الله الخلق على همم مختلفة وأطوار متشتتة، لم يخلقهم جميعاً على همة واحدة، بحيث يرغبون جميعاً في معالي الأمور ومعاظم الحِرَف وأرفع الأسماء؛ بل طبعهم على أطباع مختلفة: فمنهم من يرغب في معالي الأمور ومعاظم الأمور والحرف، ومنهم من كانت همته الرغبة في الدون من الأمور والحرف في الحجامة والدباغة والحياكة ونحوها، وكذلك في الأسماء، [ومنهم بخلاف ذلك]، ولو كانت همتهم همة واحدة - لذهب المنافع والمعارف جميعاً، والله أعلم.
وقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ }.
اختلف فيه: قال بعضهم: المراد بالليل والنهار: الشمس والقمر، أي: جعلنا في الشمس والقمر؛ ألا ترى أنه أضاف الآية إلى الليل والنهار حيث قال: { فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً }، وحيث قال - أيضاً -: و
{ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ } [يونس: 5]، وإنما يعلم ذلك بالقمر؛ ألا ترى أنه قال - أيضاً -: { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً... } الآية [يونس: 5]، إنما أضاف معرفة عدد السنين والحساب إلى القمر؛ دلّ أنه بالقمر يعلم ذلك، وهو قول علي وابن عبّاس - رضي الله عنهم - وغيرهم من أهل التأويل؛ ويكون تأويل المحو الذي ذكر في قوله: { فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ } - ما قالوا في محوه، وهو السواد الذي يرى فيه والنقصان الذي يكون فيه في آخره.
وقال بعضهم: محي منه تسعة وستون جزءاً من سبعين جزءاً، إلى هذا يذهب هؤلاء.
وأما الحسن وأبو بكر وهؤلاء، فهم يقولون: ليس في الآية ذكر الشمس والقمر، إنما ذكر الليل والنهار وأخبر أنه جعل آيتين؛ فهما كذلك آيتان، وبهما يعلم عدد السنين والحساب؛ لأنه بالأيام يعرف ذلك، فأمّا الشهور فإنه إنما تعرف بالقمر لا تعرف بالأيام؛ ويكون قول تأويل: { فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً }، أي: جعلنا آية الليل في الابتداء ممحوة مظلمة، وجعلنا آية النهار مبصرة مضيئة في الابتداء ليس أن كانا جميعاً مبصرتين مضيئتين ثم مُحِي آية الليل وأبقيت آية النهار مضيئة؛ ولكن إنشاء آية الليل في الابتداء [مظلمة، وإنشاء آية النهار في الابتداء] مبصرة، وهو كقوله:
{ وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَىٰ ٱلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ } [الغاشية: 18-19]، أي: إنشاؤها في الابتداء كذلك، لا أن السماء كانت موضوعة فرفعها، و[لا] كذلك الجبال [كانت] مبسوطة ثمّ نصبها؛ ولكن إنشاءهما في الابتداء كذلك؛ فعلى ذلك قوله: { فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً }، أي: جعلهما في الابتداء: هذا مظلماً ممحوّاً، وهذا مبصراً مضيئاً.
{ وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ }: هما آيتان مختلفتان، بل متضادتان تضاد كل واحدة منهما صاحبتها؛ إذ كل واحدة تنسخ الأخرى حتى لا يبقى لها أثر، وهما آيتان دالتان على وحدانية الله تعالى؛ لأنه لو كانا فِعْلَ عدد - لكان إذا أتى هذا على هذا وغلب عليه - منع من أن يكون للآخر سلطان أو أمر؛ فإذ لم يكن دلّ أنه صنعُ واحدٍ، وفيهما دلالة تدبيره؛ حيث جريا على سَنَنٍ واحد ومقدار واحد، على غير تفاوت يكون فيهما وتفاضل، أو تغير على ما كان ومضى؛ دل أنه عن تدبير خرجا وكانا كذلك.
وفيه دلالة علمه وحكمته لما جعل فيهما من المنافع ما لو كان اللّيل سرمداً ذهب منفعة الليل نفسه، ولو كان النهار سرمداً لذهب منفعة النهار رأساً.
وفيه دلالة البعث؛ لأنه يتلف أحدهما إذا جاء الآخر حتى لا يبقى [له] أثر بتة، ثم يعيده على ما كان من غير أن يعلم أنه غير الأوّل.
ثم قول { آيَتَيْنِ }، والآية علامة، وعلامتهما لا تعرف إلا بالتأمل والنظر فيهما؛ فعلى ذلك [لا يفهم] مراد ما في القرآن والمعنى المودع فيه - إلا بالتأمّل والنظر فيه.
وفيهما دلالة نقض قول أصحاب الطبائع وأصحاب النجوم والدهرية وجميع الملاحدة:
أمّا نقض قول أصحاب الطبائع: لما ذكرنا من اتساق مجراها على سنن واحد وأمر واحد، دلّ أنه بالتدبير صار كذلك لا بالطبع. وأمّا نقض قول أصحاب النجوم [لما جعل النجوم] مسخرة لمنافع الخلق ومغلوبة يغلبها ضوء الشمس ونور القمر حتى لا ترى؛ دلّ أنه لا تدبير لها وأن التدبير لغيرها. وعلى غيرهم من الملاحدة ما ذكرنا من اتصال منافع هذا بهذا ومنافع هذا بهذا، دلّ أنه ما ذكرنا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ }.
يحتمل الفضل الذي ذكر: الرزق والمعاش الذي ذكر في آية أخرى:
{ وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } [النبأ: 11]، ويحتمل أنواع فضل تكون في الدّين.
{ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ }.
هو ما ذكرنا أنه بهما يعرف [عدد السنين والحساب].
وقوله - عز وجل -: { وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً }.
يحتمل التفصيل تفصيل آية من أخرى، أي: لم يجعلهما آية واحدة؛ على ما ذكر.
وقال الحسن: أي فصل بين ما أمر عباده ونهاهم، أي: بين وفصل ما يؤتى ممّا يُتَّقَى، و{ فَصَّلْنَاهُ }: أي: فصله تفصيلاً لم يتركه مبهماً؛ بل بين غاية البيان.
وقوله - عز وجل -: { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ }.
اختلف في قوله: { طَآئِرَهُ }.
قال بعضهم: { طَآئِرَهُ }: شقاوته وسعادته، ورزقه وعيشه.
وقال بعضهم: عمله الذي عمل من خير أو شر.
وقال بعضهم: حظه ونصيبه من عمله، وهو جزاؤه ونحو ذلك، فذلك كله يرجع إلى معنى واحد؛ لأنه إنما يسعد ويشقى بعمله الذي يعمله، وكذلك جزاء عمله؛ ولذلك قال الحسن في تأويل قوله:
{ قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } [المؤمنون: 106]، أي: بأعمالنا التي عملناها، ثم يخرج تسمية العمل وما ذكروا طائراً؛ لوجهين:
أحدهما: على وجه التفاؤل والطيرة؛ كانوا يتفاءلون ويتطيرون بأشياء: بالطائر وغيره، ويقولون جرى له الطائر بكذا من الخير، وجرى له بكذا من الشر؛ على طريق الفأل والطيرة؛ فخاطبهم على ما يستعملون، وأخبر أن ذلك يلزم أعناقهم، وهو ما قال الله - تعالى -:
{ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ } [الأعراف: 131]، وكقوله: { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ } [الاعراف: 131]، وقوله - أيضاً -: { قَالُواْ ٱطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ... } الآية [النمل: 47]، ونحوه.
والثاني: سمى الأعمال التي عملوها طائراً؛ لما أن الذي يتولّد منه تلك الأعمال كالطائر، وهو الهمة، أو لا يخطر بباله شيء؛ ففي الأخطار لا صنع له فيه، ثم يهمُّ، ثم تبعث الهمّة على الإرادة، ثم الإرادة تبعث على الطلب والعمل، فالهمة التي في النفس التي يتولد منها الأعمال كالطائر؛ فسماه لذلك باسمه، والله أعلم.
وقوله - عزّ وجلّ -: { فِي عُنُقِهِ }.
يحتمل أن يكون العنق كناية عن النفس، أي: ألزمناه نفسه، وذلك جائز؛ يقال: هذا لك عليّ وفي عنقي.
والثاني: ذكر العنق؛ كما يقول الرجل لآخر إذا أراد التخلص من عمل: قلّدتك هذا العمل وجعلته في عنقك، أي: تكون أنت المأخوذ به إثماً إن كان في ذلك شر، وأنت المأجور به المثاب إن كان فيه خير.
والمعنى في قوله: { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ }، أي: لا يؤخذ غيره بعمله وشقائه؛ ولكن هو المأخوذ به، وهو ما قال:
{ مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ } [الإسراء: 15]، وقوله: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [الإسراء: 15]؛ هذه الآيات الثلاثة معناها واحد، وهو ما ذكرنا ألا يؤخذ غيره بعمل آخر، ولا تحمل نفس خطيئة أخرى ولا وزرها، ولكن كل نفس هي تحمل خطيئة نفسها.
وقوله - عز وجل -: { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً }.
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أي: يجعل ما لزم عنقه كتاباً يلقاه منشوراً.
والثاني: أي: يجعل بما ألزم عنقه كتاباً.
وقوله - عزّ وجلّ -: { ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً }.
قيل: شهيداً، وقيل: كافياً وحاسباً، وهو واحد: أن المؤمن بما سبق من صالحاته يقف فيها لا يقطع القول لرجائه في رحمته ولخوفه عن مساويه؛ فلا يشهد على نفسه بالعقوبة.
وأما الكفار فإنه يشهد على نفسه بالنار؛ لما لم يكن له ما يطمع رحمته.
وقوله: { ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ }، أي: { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً }؛ فيقال له: { ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً }.
وفي ذلك لطف عظيم بقراءة كتابه بأي لسان كان؛ لأنه لم يبين بأي لسان يكتب، ثم يتذكر جميع ما عمل في عمره؛ وقد ينسى الرجل عملاً يعمل في أدنى مدة، لكن هذا يتذكر في ساعة ووهلة ما كان عاملاً منه.