خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً
١٧
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً
١٨
وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً
١٩
إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً
٢٠
وَكَذٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ٱبْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً
٢١
-الكهف

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ }.
قيل: تميل عن كهفهم.
{ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ }.
كانت لا تصيبهم لا عند طلوعها ولا عند غروبها؛ لأن الكهف كان مستقبل بنات النعش، وكل شيء يكون مستقبل بنات النعش لا تصيبه الشمس.
وقال بعضهم: لا، ولكن كان ثمة حجاب وستر يحجب الشمس عن أن تقع عليهم، لكن هذا لا يصلح؛ لأن الله - عز وجل - جعل لهم ذلك آية من آياته، وكرامة من كراماته؛ فليس فيما لا يقع عليهم الشمس بحجاب أو ستر كبير آية ومنة؛ إنما الآية فيما تقع الشمس عليهم، ثم يدفع عنهم ضررها وأذاها؛ فإذا كانوا بحيث لا تصيبهم الشمس - فأذاها وضررها - أيضاً - لا يصيبهم؛ فليس في ذلك كبير آية وحكمة؛ إذ ليس فيما لا يصيب الشمس ضرر أو أذى، ولكن يذكر لطفه؛ حيث منع ضرر الشمس وأذاها عنهم مع إصابة الشمس إياهم ووقوعها عليهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ } يمينهم، أو يمين القبلة، وكذلك { ذَاتَ ٱلشِّمَالِ }: شمال أولئك، أو شمال القبلة، فأما يمين الجبل والغار، على ما قال أهل التأويل، فإنه ليس للجبل يمين ولا شمال.
وقوله - عز وجل -: { وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ }:
قال بعضهم: الفجوة: الظل.
وقال بعضهم: الفجوة: الفضاء.
وقال بعضهم: هي سعة المكان: يخبر - عز وجل - عن لطفه ومننه: أنه قد حشرهم إلى غار كانوا يسعون فيه حتى يتقلبوا فيه، والغار الذي يكون في الجبال لا هكذا يكون؛ بل يكون ضيقاً.
وقوله - عز وجل -: { ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ }.
هذا يرد قول من ينكر جري الآيات على يدي غير الأنبياء؛ لأنه جعل في أصحاب الكهف عدداً من الآيات: كلها خارجة عن احتمال وسع الخلق وعادتهم؛ لمفارقتهم قومهم لسلامة دينهم.
أحدها: ما أخبر أنه ضرب على آذانهم، وأنامهم نوماً خارجاً عن طبع الخلق وعادتهم، وهو ثلاثمائة سنة، ثم بعثهم ليتساءلوا بينهم، على ما أخبر، عز وجل.
والثاني: لم تبل ثيابهم في مثل تلك المدة ومثل المكان، ولم تتغير؛ ألا ترى أنهم قالوا حين بعثوا: { لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ }، ولو كانت ثيابهم بالية أو متغيرة، لم يستقلوا ولا استقصروا كل هذا يوماً أو بعض يوم؛ ألا ترى أنهم فزعوا إلى الطعام، ولم يفزعوا إلى الثياب؛ حيث قالوا: { فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ }، ولو كانت ثيابهم بالية أو متغيرة - لكان فزعهم إلى الثياب كهو إلى الطعام، وهو أولي.
والثالث: ما أخبر: من تزاور الشمس إذا طلعت ذات اليمين، وقرضها إياهم ذات الشمال.
والرابع: دفع الحر والبرد عنهم؛ إذ من طبعهما الإهلاك والفساد إذا اشتدا وكثرا.
والخامس: ما ذكر من تقليبه إياهم ذات اليمين وذات الشمال، وحفظه إياهم عن أن تفسدهم الأرض وتأكلهم؛ إذ من طبع الأرض ذلك عند امتداد الوقت.
والسادس: ما ذكر في الآية من الهول والهيبة إذا دخل عليهم واطلع؛ حيث قال: { لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً }: خوفاً مما ترى فيهم من الأهوال: هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف لمن دونه؟!.
والسابع: حفظه إياهم عن جميع الخلائق حتى لم يطلع، ولم يعثر عليهم أحد من الخلائق.
والثامن: إبقاؤهم أحياء أكثر من ثلاثمائة سنة بلا غذاء، والأنفس لا تبقى بلا غذاء بدون ذلك؛ وذلك باللطف، وأمثال هذا كثير مما يكثر عدها وإحصاؤها.
كله من آيات عظيمة خارجة عن وسع [البشر] وعادتهم؛ فذلك لهم باختيارهم دين الله من بين قومهم، وبمفارقتهم إياهم؛ ليسلم لهم دينهم؛ إذ الغلبة فيهم يومئذ الكفر، فأكرمهم الله بذلك بالكرامات التي ذكرنا؛ فلا ننكر أن يعطي الله أحداً من أوليائه قطع مسيرة أيام بيوم أو بساعة، أو المشي على الماء، ونحو ذلك، ليس بمستبعد ولا مستنكر.
وقال أهل التأويل: إنهم كانوا كذا، والكلب كذا، وأساميهم كذا، وعددهم كذا، ونحوه؛ فذلك مما لا يعلم إلا بخبر الصدق وقول الحق، وقد نهى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يستفتي فيهم منهم أحداً حيث قال: { وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً } وما ذكر هؤلاء كله من الاستفتاء الذي نهى عنه رسوله عن ذلك.
قال أبو عوسجة: { تَّزَاوَرُ } أي: تميل، وتزور مثله.
{ تَّقْرِضُهُمْ }، أي: تدعهم على شمالها، أي: أن الشمس لا تصيبهم طالعة ولا غاربة عند طلوعها وغروبها، ويقال: قرضته: تركته، أقرضه قرضاً، ويقال: قرضت موضع كذا، أي: جاوزته وتركته خلفي، ويقال: قرضه، أي: قطعه بمقراض، وتزاور يتزاور، أي: عدل ومال { وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ }: أي سعة، وفجوات جمع.
ويحتمل قوله: { ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ } أي: ذلك النبأ وما ذكر من قصة أصحاب الكهف من آيات قدرة الله، أو من حجج الله على إثبات رسالة رسوله ونبوته.
أو من آيات كراماته للفتية ولمن اختار دين الله وآثره على غيره.
وقوله - عز وجل -: { مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً }.
قد ذكرناه في غير موضع.
وقال بعضهم: { تَّزَاوَرُ } و { تَّقْرِضُهُمْ } كلاهما واحد، وهو أن تميل عن كهفهم فتدعهم ذات اليمين، و { وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ } أي: تدعهم ذات الشمال.
وقوله: { وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ } أي: زائفة من الكهف، قال أبو معاذ: الزائفة: قدر ما يصلح.
وقال بعضهم في قوله: { وَيُهَيِّئْ لَكُمْ } أي: يبوئ لكم؛ كقوله:
{ تُبَوِّىءُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [آل عمران: 121] أي: تهيئ، { وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً } الرشيد: الصالح.
وقال مقاتل: { رَشَداً }، أي: مخرجا.
{ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً }: قال ابن عباس - رضي الله عنه -: غذاء تأكلونه، وهو ما ذكرنا كل ما يترفق به، ويقال: مخرجا.
وقوله - عز وجل -: { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ }.
قال بعضهم: لأنهم كانوا مفتحي الأعين والأبصار كاليقظان.
وقال بعضهم: وتحسبهم أيقاظاً؛ لأنهم كانوا يتقلبون في رقودهم اليمين والشمال كما يتقلب اليقظان يمينا وشمالا.
وقال بعض أهل التأويل: إنما كان يقلبهم ذات اليمين وذات الشمال، ليدفع عنهم أذى الأرض وضررها؛ لئلا يفسدوا ولا يتلاشوا، وإن كان الله قادراً أن يدفع عنهم الأذى وضرر الأرض لا بتقليب من جانب إلى جانب وإن كان [ذلك] مما يفعله من لا يملك دفع الأذى [إلا] بما ذكرنا، فأما من كان قادراً بذاته مستغنيا عن الأسباب التي بها يدفع فغير محتمل.
وهو: على التعليم منه إياهم: أن كيف يتقي الأذى؟ وكيف يدفع الضرر؟ فإذا لم يكن بمشهد من الخلق فلا معنى له.
وقال بعضهم: قوله: { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ }؛ لأنهم كانوا في مكان الريبة واللصوص مما لا يأوي إليه إلا هارب من ريبة وشر أو قاصد ريبة وطالب عثرة ومكابرة لم يكونوا في مكان يسلم فيه ويرقد ولا يختار للنوم مثله، فقال: { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ } لما كانوا في مكان لا ينام فيه للخوف، كأنهم أيقاظ وهم رقود، والله أعلم.
ولكن لا ندري لأي معنى ذكر أنه يحسب الناظر إليهم كأنهم أيقاظ وهم رقود؟ وإذا لم يبين الله ذلك فلا نفسر.
وقوله - عز وجل -: { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ } هو ما ذكرنا أنهم: قد يتقلبون في نومهم من جانب إلى جانب، وذكر التقليب جائز أن يكون؛ لما ذكر بعضهم من دفع أذى الأرض وضررها.
أو ذكر فعله؛ لما له في تقلبهم صنع وفعل، والله أعلم.
وقوله: { ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ } إذ لا يفهم من ذات الشيء غير ذلك الشيء أو شيء آخر سواه؛ لأنه ذكر ذات اليمين فهو اليمين والشمال نفسه لا غير؛ فعلى ذلك في قولنا: عالم بذاته، لا يفهم غير علمه، أي: عالم.
وقوله - عز وجل -: { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ }.
قال بعضهم: الوصيد: هو فناء الباب.
وقال بعضهم: الوصيد: هو عتبة الباب.
قال القتبي: الوصيد: الفناء، ويقال: عتبة الباب، وهذا أعجب إليّ؛ لأنهم يقولون: أوصد بابك، أي: أغلقه. ومنها
{ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ } [الهمزة: 8] أي: مطبقة، وأصله: أن تلصق الباب إلى العتبة إذا أغلقته.
فإن كان الوصيد هو عتبة الباب، ففيه أن الكلب كان داخل باب الغار، وإن كان الفناء ففيه أنه كان خارج باب الغار، وفيه أيضاً [أنه] أبقى الكلب ثلاثمائة سنة على ما أبقاهم، وإن لم يكن من جوهرهم بلطفه.
وقوله - عز وجل -: { لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً }.
قال بعض أهل التأويل: ذلك أن شعورهم قد طالت وأظفارهم قد امتدت وعظمت، فكانوا بحال يرغب عنهم ويهاب.
لكن هذا لا يحتمل؛ لأنهم قالوا: { لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } فلو كانوا على الحال التي ذكروا من تطاول الشعور وامتداد الأظفار وتغير أحوالهم، لم يكونوا ليقولوا: { لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ }؛ إذ لو نظروا في أنفسهم من تغير الأحوال، لعرفوا أنهم لم يلبثوا ما ذكروا من الوقت؛ دل ذلك أن ذلك الخوف والهيبة لا لذلك.
وقال بعضهم: لأنهم كانوا في مكان الريبة فيما لا يؤوي إلى مثله إلا لخوف ريبة أو طلب ريبة لا يأويه إلا لهذين: هارب من شر، أو طالب شر على آخر؛ على ما ذكرنا: أن من أقام في مهاب ومكان مخوف يهاب منه ويخاف.
أو أن يكونوا بحيث يهابون ويخاف منهم لئلا يدنو منهم أحد، ولا يقرب، فلا يوقظهم أحد، ليبقوا إلى المدة التي أراد الله أن يبقوا فيه؛ ولذلك يحتمل هذا المعنى في تقليب اليمين والشمال؛ فجائز أن يكون قوله: { لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } ذلك الخوف وتلك الهيبة: هيبة الدين، على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"نصرت بالرعب مسيرة شهرين" ، وذلك لدينه ولحقيقة أمره؛ فعلى ذلك جائز أن يكون ما ذكر من هيبة أحوالهم لدينهم الذي اختاروا من بين قومهم وفارقوهم؛ ليسلم دينهم إلى مكان لا طعام فيه ولا شراب؛ وذلك لحقيقة ما اختاروا من الدين، كان ذلك لمعنى لم يطلع الله رسوله على ذلك؛ فلا نفسر، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ } أي: كما أنبأكم من أنبائهم وقصصهم أو كما ضرب على آذانهم وأنامهم سنين كذلك يبعثهم.
وقوله: { وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ } بعثهم؛ لما علم ما يكون منهم، وهو التساؤل، وهكذا جميع ما يخلق وينشئ، إنما يخلق وينشئ؛ لما يعلم أنه يكون منهم؛ كقوله:
{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً... } الآية [الأعراف: 179] ذرأهم؛ لما علم أنه يكون منهم، وهو عمل أهل جهنم، وكذلك قوله: { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56] من علم أنه يعبده ويعمل له عمل أهل الجنة خلقه لذلك، هكذا كل ما يخلق، لما يعلم أنه يكون منه؛ إذ يخرج الفعل لذلك مخرج العجز والجهل بالعواقب، فإذا كان الله عالماً بما كان ويكون، ويتعالى عن أن يكون فعله عبثا - لم يجز أن يخلق شيئاً لغير ما علم أنه يكون، وهكذا في الشاهد من عمل عملا أو فعل فعلا لغير ما علم أنه يكون - فهو عابث أو جاهل بعواقبه، وبالله العصمة.
وقوله - عز وجل -: { قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ }.
وتأويله ما ذكر: { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً }.
وقوله: { لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } قالوا ذلك، لما لم يروا في أنفسهم آثاراً وأعلاما تدل على طول المكث والمقام فيه، ثم لما تذكروا أحوالهم، وما يرى النائم في نومه من العجائب وأشياء كثيرة، عرفوا أن ذلك القدر من الأشياء ومثل ذلك من العجائب التي رأوا لا يحتمل أن يكون في يوم أو بعض يوم، فعند ذلك وكلوا الأمر إلى الله، فقالوا: { رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ }.
وأما الذي أماته مائة عام لما بعثه قطع القول في ذلك، ولم يكل الأمر إلى الله حيث قال:
{ { قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } [البقرة: 259]؛ لأنه كان ميتا، والميت لا يرى شيئا، ولم يكن في نفسه آثار تدل على ذلك، فقطع القول فيه، ولم يكل الأمر إلى الله.
وأما النائم فإنه يرى في نومه أشياء فيعرف أنه لا يكون في وقت قصير؛ لذلك وكلوا الأمر إلى الله تعالى.
وقوله - عز وجل -: { فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ }.
فيه أنهم لما فارقوا ومعهم زاد وهو الورق، أمر بعضهم بعضا: أن يبعث بالورق، ليأتيهم بالطعام، وفيه أنه أضاف الورق إليهم، ولا شك أنه كان له فيه نصيب حيث قال: { بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ }، وفيه دلالة جواز المناهدة في الأسفار وغيرها؛ إذ كان ذلك الورق بينهم، وفيه دلالة جواز الوكالة، وأنها ليست بمبدعة، ولكن كانت في القرون الماضية وهي متوارثة.
وقوله - عز وجل -: { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً }.
اختلف فيه: قال بعضهم: قوله: { أَزْكَىٰ طَعَاماً } أي: أحل طعاما؛ لأن بعض أهل تلك المدينة يذبحون للأصنام وباسم الأوثان التي كانوا يعبدونها، فأمروا بأن يأتيهم بحلال يحل لهم أكله والتناول منه.
وقال بعضهم: { أَزْكَىٰ }: أرخص وأكثر؛ لأنهم في مكان لا يدرون متى يخرجون منه، فطلبوا الأكثر؛ لشدة حاجتهم إليه ويكفي لوقت مقامهم ونحوه.
وقال بعضهم: { أَزْكَىٰ طَعَاماً } أي: أطيب وأجود؛ لأن الطيب أزيد للعقول وأصلح للأنفس وأنفع؛ ولذلك جعل الله أرزاق البشر ما هو أطيب وألين؛ لما يزيد ذلك في العقول والفهم، وجعل لغيرهم من الدواب كل خشن خبيث، لما ليس لهم عقول يحتاج إلى ما يزيد لها فيها، وأصل الزكاء: النماء والزيادة.
وقوله - عز وجل -: { وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً }.
يحتمل قوله: { وَلْيَتَلَطَّفْ } أي: ليرفق بهم؛ لئلا يشعروا أنه من أولئك الذين فارقوهم لدينهم.
أو أمره بالتلطف، أي: بالسماحة والسهولة في الشراء؛ لما جاء في الخبر:
"رحم الله سهل البيع سمح الشراء" .
{ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً } أنه فلان بن فلان وأنه من قوم كذا فيعرفون أنه من أصحاب الكهف.
أو لا يشعرن بمكانكم أحدا، من الناس.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ }.
يحتمل: يقتلوكم أو ما أرادوا بكم.
{ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ }، أي: في دينهم الكفر.
وقوله - عز وجل -: { وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً }.
أي: ما دمتم في ملتهم ودينهم، هذا كأنهم لم يعرفوا التقية، وإلا لو أعطوهم بلسانهم ولم يعطوهم بقلوبهم، لكانوا قد أفلحوا.
أو عرفوا التقية إلا أنه لم يكن للقرون الماضية التقية، ولم يؤذن لهم فيها.
أو هي رخصة رخص لهم، والأفضل ألا يعطي ذلك ولا يظهر، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَكَذٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ }.
اختلف في قوله: { وَكَذٰلِكَ }؛ قال بعضهم: كما أخرج المبعوث بشراء الطعام من الكهف مع الورق المتقدم ضربها، فكان ذلك بسبب إعلام أهل المدينة عن الفتية { وَكَذٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ }، أي: أطلعنا عليهم.
وقال بعضهم: كما أعلم عن أنباء الفتية وأصحاب الكهف وقصصهم من أولها إلى آخرها، { وَكَذٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } أي: أطلعنا عليهم، والله أعلم.
وجائز أن يكون قوله: { وَكَذٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } أي: كما ضرب على آذانهم ليعلموا أن ما وعد لهم الرسل عن الله حق.
ثم اختلف في إطلاعهم عليهم:
قال بعضهم: أطلع الله الملك الذي هربوا منه وأهل المدينة بعدما أنامهم، لكن حيل بينهم وبين أولئك.
وقال بعضهم: أطلعهم قبل أن ينيمهم، فحيل بينهم وبينهم، فسدو باب الكهف، فبقوا هنالك، ثم أنامهم بعد ذلك ما ذكر، فهلك ذلك الملك، وانقرض تلك القرون، ثم ولي ملك آخر مسلم صالح، ثم أطلع ذلك الملك عليهم، وأمثال ذلك قد قالوا، فلا ندري كيف كانت القصة؟ وفي ظاهر الآية أنه أطلع عليهم بعدما أنامهم وبعثهم، وليس فيه بيان أنه من أطلع عليهم الملك الأول أو الثاني أو القوم أو غيرهم؟ ولا يجوز أن يقطع القول فيه أنه فلان؛ لأن هذه الأنباء ذكرت في القرآن حجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو قطع القول على شيء أو زيد أو نقص عما كان في كتبهم، خرجت عن أن تكون حجة له.
وقوله - عز وجل -: { لِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ }.
يشبه أن يكون الرسل من قبل كانوا يخبرون قومهم أن نفراً يهربون من ملكهم؛ إشفاقاً على دينهم، ويلتجئون إلى الكهف فينامون كذا وكذا سنة، ثم يبعثون، فأكذبهم قومهم بما أخبروا قومهم من أنبائهم، فقال: { أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوۤاْ } أن ما وعد الرسل وأخبروهم من نبأ أصحاب الكهف حق.
والثاني: يحتمل أن يكونوا ينكرون البعث والساعة، والرسل يخبرون أنهم يبعثون، فأطلع على أولئك؛ ليعلموا أن البعث والقيامة حق؛ لأن الأعجوبة في إبقاء أنفس أصحاب الكهف في نومهم ثلاثمائة سنة أو أكثر بلا غذاء يغتذون، ولا طعام يطعمون، ولا شيء تقوم به الأنفس - إن لم تكن أكثر وأعظم من إحياء الموتى وجمع العظام الناخرة البالية لا تكون دونه؛ لما لم يروا الأنفس لا تبقى أياما بلا غذاء فضلا أن تبقى سنين كثيرة ثلاثمائة أو أكثر، فبعث هؤلاء؛ ليعلم من أنكر البعث [أن] من قدر على إبقاء الأنفس مدة مديدة طويلة بلا غذاء تغتذي [به] لقادر على إحياء الموتى وبعثهم بعد الموت.
أو أن يكون ما ذكرنا بدءاً: أن الرسل السالفة كأنهم أخبروا قومهم عن قصة أصحاب الكهف فكذبوهم، فأطلع الله نبأهم وخبرهم؛ ليعلم أولئك أن الذي أخبرهم الرسل حق وصدق، والله أعلم.
ثم إن هذه الأنباء والقصص المتقدمة ذكرت في القرآن حجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودلالة في إثبات رسالته، فلا يجوز أن يقطع القول في شيء لم يبين فيه ولم يوضح ولم يفسر؛ لما يخاف فيه الكذب على الله، ولا الزيادة فيها والنقصان على ما ذكر فيه؛ لما لعلها تخرج مخالفة لما ذكر في كتبهم؛ فلا يكون له فيها حجة ولا دلالة.
فإن قيل: كيف علموا أن ما أخبرهم الرسل حق إذا كانوا لا ينكرون أن وعد الله حق، ولكن يظنون أن ما وعدهم الرسل ويخبرونهم إنما هو اختراع منهم لا وعد من الله وخبر عن الله؟
قيل: علموا أن ذلك حق بوجوه:
أحدها: ما رأوا من الدراهم التي كانت في يدي المبعوث بشراء الطعام من الضرب المتقدم، وإن كان يجوز أن تكون تلك الدراهم من كنز أصاب ذلك الرجل لا من دراهم أصحاب الكهف، فإذا صدقوا ذلك الرجل فيما أخبر أنها من دراهم أصحاب الكهف، فتصديق الرسل أولى وخبرهم أحق أن يصدق.
والثاني: علموا لما رأوا أنه أنامهم مدة طويلة خارجة عن العادة، وحفظهم من كل ضرر وأذى وفساد، وأبقاهم من غير طعام ولا شراب، على علم منهم أن الأنفس لا تبقى ولا تقوم بغير طعام ولا شراب بدون تلك المدة بكثير، فضلا أن تبقى إلى مثل تلك المدة؛ فعلموا أن من قدر على حفظ ما ذكرنا وإبقائهم، لقادر على البعث والإحياء ولا يعجز عن شيء يريد كونه، وأنه فعال لما يريد.
والثالث: علموا أن ذلك حق؛ لما رأوا أنه أنامهم وقتاً طويلا، وحفظهم عن جميع الآفات، ثم بعثهم وأحياهم - أنه لم ينمهم ولم يبعثهم إلا لعاقبة تتأمل وحكمة تقصد؛ فعلى ذلك إحياء الخلق وإماتتهم ليس إلا لعاقبة تتأمل وحكمة تقصد، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ }:
لسنا ندري في ماذا تنازعوا في أمرهم فيما بينهم:
أقوله - عز وجل -: { فَقَالُواْ ٱبْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً }، أو تنازعوا في السبب الذي به التجئوا إلى الكهف؟
ويشبه أن يكون تنازعهم في البناء الذي ذكر في المسجد وغيره، ويحتمل في عددهم ونحوه، ولكن لا نقطع القول فيه؛ إذ وكل أمرهم إلى الله حيث قال: { رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ }.
وقوله - عز وجل -: { قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً }، ثم قوله: { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً } يحتمل بناء المسجد عليهم إكراماً لهم وإعظاماً؛ ليذكروهم في ذلك المكان على قرب منهم، على ما ظهر عندهم من إكرام الله إياهم.
أو يتخذون مسجداً لعبادة أنفسهم، ليعبدوا الله على قرب منهم؛ ليسألوا من بركتهم ونحوه، والله أعلم.