خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً
٥٠
مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً
٥١
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً
٥٢
وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً
٥٣
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً
٥٤
-الكهف

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمََ }.
ذكر الله - عز وجل -: قصة آدم وإبليس في غير موضع من القرآن على الزيادة والنقصان؛ وإنما ذكر كذلك وكرّر لما كذلك كان في الكتب المتقدمة مكرراً معاداً؛ فذكر في القرآن على ما كان في تلك الكتب؛ ليكون ذلك آية لرسالة محمد حيث علموا أنه كان لا يعرف الكتب المتقدمة.
أو أن ما كرره لحاجات كانت لهم ولفوائد تكون في التكرار؛ ليكون لهم عظة وتنبيهاً في كل وقت وكل حال، وقد يكرّر الشيء ويعاد على التذكير والتنبيه، والله أعلم بذلك.
وقوله: { فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ }.
اختلف فيه: قال بعضهم: سمي من الجن؛ لأنه كان من الجان الذين يعملون في الجنان؛ فنسب إليهم.
وقال بعضهم: إن من الملائكة قبيلة يقال لها: الجن، فكان إبليس منها؛ فنسب إليها.
وقال الحسن: ما كان إبليس من الملائكة قط طرفة عين؛ ولكنه من الجنّ، كما قال الله فهو أصل الجن، وهو أول من عصى ربه من الجن، [و] إن آدم هو أصل الإنس، وهو أبوهم؛ فعلى ذلك إبليس أبو الجنّ.
وقال بعضهم: { كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ }، أي: صار من الجنّ، وكذلك قالوا:
{ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ } [البقرة: 34] أي: صار من الكافرين.
وقال بعضهم: { كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ }، أي: كان في علم الله في الأزل أنه يكون من الجنّ، وكان في علم الله في الأزل أنه يكون من الكافرين وقت عصيانه ربه وإبائه السجود لآدم. وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم.
وقوله - عز وجل -: { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ }.
قيل: عتا وعصى، وأصل الفسق: الخروج، أي: خرج عن أمر ربّه، وكذلك قال القتبي: ففسق، أي: خرج عن طاعته، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها.
وقوله - عز وجل -: { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي }.
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه أراد بقوله: { مِن دُونِي } نفسه؛ فكأنه قال: أفتتخذونه وذريته أربابا وآلهة من دوني وهم لكم [عدو]، وليسوا بآلهة ولا أرباب؛ فكيف يجوز أن يتخذ العدو ربا وإلها؟!
والثاني: أنه أراد بقوله: { أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي }، أي: من دون أوليائي؛ فكأنه قال: أفتتخذونه وذريته أولياء من دون أوليائي، وهم لكم عدو، أي: كيف تتخذون الأعداء أولياء، وتتركون من هم لكم أولياء ولا تتخذونهم أولياء؟! والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً }، أي: بئس ما استبدلوا بعبادة ربهم أن عبدوا إبليس وأطاعوه؛ فبئس ذلك لهم بدلا.
أو أن يكون قوله: { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً }، أي: ما اتخذوا أعداءهم أولياء بدلا عن أوليائه أو بدلا عن ألوهيته وربوبيته.
وقوله: { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ }.
قال بعضهم: قال هذا لمشركي العرب: حيث قالوا: الملائكة بنات الله، والأصنام التي عبدوها: إنها آلهة وإنها شركاؤه، فيقول: ما أشهدتهم خلق الملائكة وخلق الأرض ولا خلق أنفسهم، ولا كان لهم كتاب، ولا آمنوا برسول؛ فكيف عرفوا ما قالوا: الملائكة بنات الله، والأصنام آلهة وشركاؤه؟! وأسباب العلم والمعارف هذا: إما المشاهدة وإما الرسل، فإذا لم يكن لهم واحد مما ذكرنا؛ فكيف عرفوا ربهم؟! وبم علموا ما قالوا في الله من الولد والشركاء؟! وإلى هذا يذهب الحسن.
ومنهم من قال: لاتخاذهم إبليس وذريته أولياء وأربابا، وهو صلة ما قال: { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ... } الآية، وفيه وجوه من التأويل: يقول: { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ }، أي: ما استحضرتهم خلق أنفسهم؛ لأنهم لم يكونوا في ذلك الوقت، ولا خلق السماوات والأرض؛ لأنه خلقهما ولم يكونوا - أيضاً - شيئاً.
أو { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ } ما أعلمتهم تدبير خلق السماوات والأرض، ولا تدبير خلق أنفسهم؛ فكيف قالوا ما قالوا في الله من الدعاوى؟!
والثالث: { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ } أي: ما استعنت بهم في خلق السماوات والأرض، ولا في خلق أنفسهم؛ فكيف أشركوا في ألوهيتي وربوبيتي، وما استعنت بهم في ذلك. والله أعلم.
وقد استدل كثير من المتكلمين بهذه الآية على أن خلق الشيء هو غير ذلك الشيء لأنه قال: { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ }، وقد شهدوا السماوات والأرض، وشهدوا أنفسهم حتى قال لهم:
{ وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [الذاريات: 21] ثم أخبر أنه لم يشهدهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم؛ دل أن خلق السماوات والأرض وخلق أنفسهم - غير السماوات والأرض وغير أنفسهم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً }.
قال بعضهم: { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ }: عن الإيمان والهدى أعوانا لديني.
والثاني: وما كنت متخذ المضلين عبادي بنصر ديني، أو بعون أوليائي.
وقال بعضهم: { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ } الذين أضلوا بني آدم عونا فيما خلقت من خلق السماوات والأرض وخلق أنفسهم، وهو إبليس وذريته.
أو { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ }: أولياء، إنما اتخذتهم أعداء، وما كنت لأولي المضلين عضدا على أوليائي؛ كقوله:
{ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } [البقرة: 124] ونحوه، وكله قريب بعضه من بعض.
وقوله - عز وجل -: { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ }.
قال { شُرَكَآئِيَ }؛ على زعمهم، وإلا: لم يكن لله شركاء.
{ فَدَعَوْهُمْ }.
يعني: دعوا الأصنام التي عبدوها.
{ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ }.
قال أبو بكر الأصم: لم يجيبوهم في وقت، وقد أجابوهم في وقت آخر، وهو ما قالوا:
{ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ } [يونس: 29]، ولكن قوله: { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ }؛ لما كانوا يعبدونها في الدنيا، وإنما كانوا يعبدونها طمعا أن يكونوا لهم شفعاء وأنصارا؛ كقولهم { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [يونس: 18] و { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3] وقوله: { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً * كَلاَّ } [مريم: 81-82] فيكون قوله: { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ }: ما طمعوا هم بعبادتهم الأصنام: من الشفاعة، والنصرة، ودفع ما حل بهم عنهم، والمنع عن عذاب الله، والله أعلم.
وقوله: { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً }.
أي: بين أولئك وبين الأصنام، { مَّوْبِقاً }، قال بعضهم: مهلكا.
وقال بعضهم: الموبق: الذي يفرق بينهم وبين آلهتهم في جهنم.
وقال بعضهم: نهر فيها.
وقال بعضهم: جعلنا وصلهم في الدنيا الذي كان بين المشركين وبين الأصنام موبقاً، أي: مهلكا.
وقوله - عز وجل -: { فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا }.
أي: علموا وأيقنوا أنهم داخلوها.
{ وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً }.
أي: لم تقدر الأصنام التي عبدوها أن تصرف النار عنهم: قال أبو عبيدة: { وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً }، أي: معدلا.
وقوله - عز وجل -: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ }.
{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } قد ذكرناه وبيّناه في غير موضع، وقوله: { مِن كُلِّ مَثَلٍ } يحتمل وجهين:
أحدهما: { مِن كُلِّ مَثَلٍ }، أي: من كل صفة؛ كقوله:
{ وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ } [الروم: 27]، أي: الصفات العليا.
والثاني: المثل: هو الشبيه؛ كقوله:
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11].
فإن كان التأويل: الشبيه؛ فكأنه يقول - والله أعلم - { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا }، أي: بينا { فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } من كل ما بهم حاجة إلى معرفة ما غاب عنهم؛ جعل لهم شبيها مما شاهدوا أو عرفوا ليعرفوا به ما غاب عنهم.
وإن كان تأويل المثل: الصفة، فكأنه يقول - والله أعلم -: ولقد بيّنا في هذا القرآن من كل ما يؤتى وما يتقى صفة: يعرفون بها ما لهم وما عليهم، [و] ما يأتون وما يتقون، والله أعلم.
وقوله: { وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً }.
قال أهل التأويل: { وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ } يعني: الكافر { أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً }، أي: جدالا؛ كقوله: { وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَٰطِلِ }.
ويشبه أن يكون قوله: { وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً }، أي: وكان جوهر الإنسان أكثر جدلا من غيرهم من الجواهر؛ لأن الجن لما عرض عليهم القرآن والآيات قبلوها على غير مجادلة ذكرت؛ حيث قالوا:
{ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً... } الآية [الجن: 1]، وكذلك الملائكة لم يذكر منهم الجدال ولا المحاجة في ذلك.
وقد ظهر [في] جوهر الإنسان المجادلات والمحاجات في الآيات والحجج، من ذلك قوله:
{ هٰأَنْتُمْ هَؤُلاۤءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ... } الآية [آل عمران: 66]، وقوله: { وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل: 125]، وقوله: { وَلاَ تُجَادِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [العنكبوت: 46]، وقوله: { وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَٰطِلِ } [الكهف: 56]، وأمثال هذا؛ لذا احتيج إلى إنزال كثرة الآيات والحجج؛ لكثرة ما ظهرت منهم المجادلة.
وفيه الإذن بالمجادلة والمحاجة في الدين على الوصف الذي ذكر، والله أعلم.