خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً
٥٥
وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ وَٱتَّخَذُوۤاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنْذِرُواْ هُزُواً
٥٦
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَٰتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ إِذاً أَبَداً
٥٧
وَرَبُّكَ ٱلْغَفُورُ ذُو ٱلرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً
٥٨
وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً
٥٩
-الكهف

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ }.
أي: لم يمنع الناس أن يؤمنوا إلا التعنت والعناد؛ لأنه قد أكثر عليهم من الحجج والآيات ما لم يعاندوا ولا كابروا؛ لالتزامهم الإيمان بها والتصديق، لكن الذي منعهم عن الإيمان ما ذكرنا من عنادهم وتعنتهم.
{ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ }.
وسنة الأولين: الاستئصال والإهلاك؛ فيقول: لا يؤمنون إلا في ذلك، والإيمان لا ينفعهم في ذلك الوقت؛ كقوله:
{ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [غافر: 85].
وقوله: { أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً }.
أي: عياناً وجهراً.
قال أبو عبيدة: { أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً }، أي: مقابلة، وقبلا: استئنافا.
وقال مجاهد: { قُبُلاً }: فجأة، وقال: قبيلا.
قال أبو عوسجة: { قُبُلاً }، أي: مواجهة، وكذلك قبيلا.
وقال القتبي: { قُبُلاً }، أي: مقابلة وعيانا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ }.
أي: لم نرسلهم إلا بما يوجب لهم البشارة والنذارة إنما أرسلوا للأمر والنهي ليأمروا الناس بالطاعة - طاعة الله - وينهوهم عن معاصيه؛ لهذا أرسلوا، فالبشارة لمن اتبع أمرهم وانتهى ما نهوا عنه، والنذارة لمن ارتكب ما نهوا عنه؛ فيكون البشارة للمتبعين لهم في أمرهم والنذارة للمرتكبين المنهي، والله أعلم.
وقوله: { وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَٰطِلِ }.
ويحتمل قوله: { وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَٰطِلِ }: ما نسبوه إلى السحر والكهانة والإفك وغيره، به يجادلونه؛ وهو باطل.
أو أن يكونوا عرفوا أن ما يجادلونهم به ويحاجونهم باطل، وأن ما يدعوهم [إليه] الرسول حق وصدق ونور، لكن يعاندونه ويجادلونه، وعندهم [أنهم] على باطل، كقوله:
{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ... } [الصف: 8] الآية: عرفوا أنه نور لكنهم عاندوه في المجادلة والمحاجة بالباطل، والله أعلم.
وقوله: { لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ }.
أي: ليبطلوا به الحق.
وقوله: { وَٱتَّخَذُوۤاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنْذِرُواْ هُزُواً }.
قال بعضهم: آياته: الشمس والقمر وغيره، { وَمَآ أُنْذِرُواْ }: ما أنذر به الرسل، هو القرآن. وقال بعضهم: قوله: { وَٱتَّخَذُوۤاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنْذِرُواْ هُزُواً }: القرآن والحجج التي أقامها وما أمروا به غير القرآن، هي المواعيد - هزوا.
وقال [أصحاب] هذا التأويل: تأويل الأول باطل لا يصح؛ لأنه قال على أثره: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَٰتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا }، يقول: هذا يدل أنه أراد بالآيات ما ذكرنا من الحجج والبراهين، لا ما ذكر.
وجائز أنهم إذا لم يعملوا بآياته ولم يستعملوها نسبهم إلى الهزء بها والسخرية، وإن لم يهزءوا بها، وهو ما سماهم: عميا وبكما وصما؛ لما لم ينتفعوا بهذه الحواس، ولم يستعملوها فيما جعلت له، وإن لم يكونوا في الحقيقة كذلك؛ فإذا كان فعلى ذلك هذا، والله أعلم.
ثم يحتمل مجادلتهم إياهم: ما قالوا: هذا سحر، وكهانة، وإنه إفك، وشعر، ونحوه.
أو أن يكون مجادلتهم قولهم:
{ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً } [الإسراء: 94]، وقولهم: { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } [إبراهيم: 10]، وأشباه ذلك من المجادلات التي كانت بينهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَٰتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا }.
يحتمل قوله: { ذُكِّرَ بِآيَٰتِ رَبِّهِ }، أي: وعظ بالآيات التي نزلت بمكة بمكذبي الرسل من الأمم الماضية؛ فيكون تأويله، أي: لا أحد أظلم على نفسه ممن وعظ بآيات ربّه فأعرض عنها ما لو اتعظ بما وعظ كان به نجاته.
أو أن يكون تذكيره بآيات ربه، وهو ما أقام من حججه وبراهينه على توحيده ورسالة الرسول، فلم يقبلها ولم يصدقها، أي: لا أحد أظلم على نفسه ممن لم يتعظ بما ذكر من الآيات والحجج ولم يقبلها، والله أعلم.
وقوله: { فَأَعْرَضَ عَنْهَا }: يحتمل الإعراض في الآية، أي: لم يقبلها، ولم يكترث إليها، ولم ينظر فيها، أو أعرض عنها بعد ما عرفها أنها آيات وحجج؛ تعنتاً وعناداً.
وقوله: { وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ }.
يحتمل؛ أي: نسي من الخيانة والشرك.
أو أن يكون قوله: { وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } موصولا بالأول، أي: لا أحد أظلم على نفسه ممّن وعظ، وجعل له سبيل للتخلص والنجاة مما قدمت يداه، فلم يتعظ به؛ والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً }.
إن الكفر مظلم إذا أتى به إنسان يستر على نور القلب وعلى نور كل جارحة منه، والإيمان منير ينير القلب، وينير كل جارحة منه وعضو، وهو ما ذكرنا في غير موضع: أن الإنسان إنما يبصر بنورين ظاهرين: بنور نفسه، وبنور ذلك الشيء، فإذا ذهب أحدهما، ذهب الانتفاع بالآخر، والإيمان ما ذكرنا: أنه منير، وفي القلب نور، فإذا اجتمع النوران معاً - فعند ذلك انتفع به، فجعل يفقه ويعقل الشيء بنور القلب وبنور الإيمان، وكذلك كل جارحة منه، الأذن والبصر واللسان، جعل يبصر الحق به، ويعتبر به، ويستمع الحق والصواب.
والكفر مظلم يمنع ويستر على نور الجوارح؛ فجعل لا يبصر، ولا يعتبر، ولا يستمع، ولا يتكلم بالحق، وهو ما ذكرنا: أن الإنسان إنما يبصر الشيء بنور العين وبنور الهواء؛ فإذا ذهب أحدهما صار لا يبصر شيئاً؛ فعلى ذلك ما ذكرنا.
وفي الآية دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنه لا يخلو الكفر من أن يكون مظلماً قبيحاً ذميماً بنفسه أو بالله تعالى.
فإن قيل: صار كذلك.
قيل: لئن جاز ذا جاز حدوث الأشياء بنفسها؛ إذ لا فرق بين أن يكون الشيء مظلماً قبيحاً ذميماً بنفسه وبين أن تكون الأشياء بأنفسها على ما كانت، فإن بطل [كونه] بنفسه مظلماً قبيحاً ثبت أن الله هو الذي جعله مظلماً قبيحاً، وهو ما نقول نحن: إن الله خلق فعل الكفر من الكافر مظلماً قبيحاً، وخلق فعل الإيمان من المؤمن منيراً حسناً، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ إِذاً أَبَداً }.
هذا في قوم مخصوصين علم الله أنهم لا يؤمنون أبداً، وإلا لا يحتمل في جميع الكفار؛ إذ من الكفار من قد آمن.
وقال الحسن: هو في القوم الذين جعل على قلوبهم الغطاء والطبع، إذ من قوله: إن للكفر حدا إذا بلغ الكافر ذلك الحد طبع على قلبه؛ فلا يؤمن أبداً.
وقال بعضهم: هو في قوم عادتهم العناد والمكابرة وتكذيب الآيات والحجج؛ فأخبر أنهم لا يؤمنون أبداً؛ لعنادهم، وأصله ما ذكرنا، والله أعلم.
وقوله: { وَرَبُّكَ ٱلْغَفُورُ ذُو ٱلرَّحْمَةِ }.
يحتمل على وجهين:
أحدهما: { ٱلْغَفُورُ } حيث ستر عليهم ولم يعاقبهم وقت عصيانهم، و { ذُو ٱلرَّحْمَةِ } يقبل توبتهم إذا تابوا.
والثاني: { ٱلْغَفُورُ } إذا استغفروا أو تابوا، و { ذُو ٱلرَّحْمَةِ } يرحمهم ويتجاوز عنهم ما سبق لهم من الذنوب.
وقوله - عز وجل -: { لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَابَ } في الدنيا.
{ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ }:
قال الحسن: جعل الله لكل أمة يهلكون - لهلاكهم - موعداً وأجلا [كقوله]:
{ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ } [هود: 81]، وقال في آية أخرى: { تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [هود: 65]، وجعل موعد هذه الأمة الساعة؛ وهو قوله: { بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ } [القمر: 46].
قال بعض أهل العلم: أهلك الله كل أمة كذبت رسولها؛ لتتعظ الأمة التي تأتي بعدها، وجعل هلاك أمة محمد بالساعة؛ لأنه ليس بعدها أمة تتعظ به.
وقوله: { لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً }.
قيل: ملجأ.
وقال القتبي: لا وئلت نفسك، أي: لا نجت، ويقال: وأل فلان إلى كذا، أي: لجأ.
وقوله: { وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً }.
فيه دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنهم يجعلون المهلك هالكاً قبل أجله، وقد أخبر لمهلكهم موعداً لا يتقدم ولا يتأخر طرفة عين.
وفي قوله: { قَدَّمَتْ يَدَاهُ }: ذكر تقديم اليد، وإن لم يكن لليد صنع في ذلك؛ لما في العرف الظاهر: أنه إنما يقدم ويؤخر باليد، وكذلك ما ذكر من الكسب:
{ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [الشورى: 30]؛ لأنه في الشاهد إنما يكتسب باليد ونحوه، فهو يرد على أصحاب الظواهر: أن الخطاب على مخرج الظاهر؛ حيث لم يفهم من ذكر اليد هاهنا اليد نفسها؛ ولكن فهم غير اليد.