خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا
١
قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً
٢
مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً
٣
وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً
٤
مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً
٥
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً
٦
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً
٧
وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً
٨
-الكهف

تأويلات أهل السنة

قوله تعالى: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ }:
تأويل الحمد هاهنا وفي أمثاله - والله أعلم - أي: حق الحمد للذي منه وصلت إلى كل أحد نعمة أي: أنها وصلت على أيدي من وصلت إلى كل من وصلت فإن حق الحمد والثناء له في تلك النعمة وإن حمد من دونه؛ إذ منه ذلك، لا من الذي وصلت على يده، وأن الذي وصلت على يديه كالمستعمل له؛ فحق الحمد والثناء له لا من دونه.
أو أن يكون قوله: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } أي: قولوا: له الحمد والثناء؛ لأنه في جميع ما ذكر الحمد له ألحق به شيئاً: إمّا قدرته وسلطانه، وإما نعمه التي أنعم على الخلق كقوله:
{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ... } الآية [الأنعام: 1].
و { ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ... } الآية [فاطر: 1] و { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً } [الإسراء: 111].
وقوله: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ } ونحوه.
ما ذكر الحمد لنفسه والثناء إلا ذكر على أثره ما قدرته وسلطانه.
وأما نعمه، فما كان المذكور على أثره النعمة فهو يستأدي به شكره وحمده.
وإن كان الملحق به القدرة والسلطان فيخرج القول منه مخرج الأمر بالتعظيم له والهيبة والإجلال، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّماً } أي: لم يجعله عوجاً، ويجوز زيادة اللام في مثله؛ كقوله:
{ رَدِفَ لَكُم } [النمل: 72]، وردفكم؛ هذا جائز في اللغة ثم قوله: { أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّماً } أي: لم يجعله عوجاً، وهو يخرج على وجهين:
أحدهما: على التقديم والتأخير على ما قاله أهل التأويل، أي: أنزل على عبده الكتاب قيماً ولم يجعله عوجاً.
والثاني: على زيادة (بل) كأنه قال: (أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً بل جعله قيماً)؛ على أحد هذين الوجهين يخرج والله أعلم.
ثم قوله: { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّماً } إذا لم يكن عوجاً كان قيماً، وإذا كان قيماً كان غير عوج، في كل واحد من الحرفين معنى الآخر، إلا أن من عادة العرب تكرار الكلام وإعادته على التأكيد، كقوله:
{ مُحْصَنَٰتٍ غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٍ } [النساء: 25] وإذا كن مسافحات لم يكن محصنات، حرفان مؤديان معنى واحداً، إلا أنه كرّر، لما ذكرنا [أن] من عادة العرب التكرار، وكذلك ما ذكر: { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً } البأس: هو الشديد، والشديد هو البأس، هما واحد، فعلى ذلك الأول.
ثم اختلف في قوله { قَيِّماً } قال بعضهم:
القيم: هو الشاهد، أي: القيم على الكتب المتقدمة، والشاهد عليها في الزيادة والنقصان، وفي التغيير والتحريف يبين ما زادوا فيها، وما نقصوا وما حرفوه، وما غيروه، كقوله:
{ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ... } الآية [البقرة: 79]. وقوله: { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } [النساء: 46]. وقوله: { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً... } الآية [آل عمران: 78] كانوا يحرفون نظمه ورصفه، ومنهم من كان يحرف أحكامه وشرائعه؛ فهذا القرآن شاهد، وقيم في بيان ما فعلوا.
وقال بعضهم قوله: { قَيِّماً } أي: ثابتاً قائماً أبداً لا يبدّل، ولا يغير، ولا ينسخ ولا يزداد، ولا ينقص، وهو على ما وصفه
{ لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ... } الآية [فصلت: 42]. وهو على ما وصف الحق بالثبات والقيام والباطل بالذهاب والتلاشي { كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ... } الآية [الرعد: 17] وما وصف الكلمة الطيبة بالثبات والقيام لها، والخبيثة بالزوال والتغيير والذهاب فعلى ذلك هذا القرآن، لأنه حق.
وقال بعضهم: { قَيِّماً }، أي: مستقيماً، وتأويل المستقيم: المستوي الموافق، أي: يصدق بعضه بعضاً، ويوافق أوله آخره، وآخره أوله، أي: لم يخرج مختلفاً، وهو على ما قال:
{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } [النساء: 82]، ولو كان من عند غير الله على ما قال أولئك الكفرة، لكان خرج مختلفاً متناقضاً، ينقض أوله آخره، وآخره أوله، فإذا لم يكن دل أنه من عند الله نزل، ولو كان على ما يقولون أصحاب العموم والظاهر أيضاً لم يكن قيماً ولا مستقيماً، بل يخرج مختلفاً متناقضاً؛ لأنهم يعتقدون على العموم والظاهر، ثم يخصّون بدليل، فهو مختلف، وأصله قيم بالحجج والبراهين على أي تأويل كان، وبالله التوفيق.
وقوله - عز وجل -: { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً }:
أي: أنزله على عبده، لينذركم بأساً شديداً، أي: لينذر ببأس شديد، والبأس: العذاب.
وقوله - عز وجل -: { مِّن لَّدُنْهُ }.
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أنزل على عبده الكتاب من لدنه، أي: من عنده.
والثاني: لينذركم الكفار بأساً شديداً ينزل من عنده، والله أعلم.
وقوله: - عز وجل - { وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ }.
فيه دلالة: أنه قد يكون المؤمنون يستحقون اسم الإيمان، وإن لم يعملوا الصالحات، حيث ذكر المؤمنين، ثم ذكر الأعمال الصالحات، خص المؤمنين بعمل الصالحات، لكن البشارة المطلقة إنما تكون للمؤمنين الذين عملوا الصالحات؛ لأنه لم يذكر البشارة المطلقة في جميع القرآن إلا للمؤمنين الذين عملوا الصالحات، ثم المؤمنون الذين عملوا غير الصالحات في مشيئة الله: إن شاء عفا عنهم، وإن شاء عذبهم بقدر عملهم الذي كانوا عملوا، وإن شاء قابل سيئاتهم بحسناتهم فإن فضلت حسناتهم على سيئاتهم، بدل سيئاتهم حسنات على ما أخبر:
{ فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ... } [الفرقان: 70] هم في مشيئة الله على ما ذكر، وليست لهم البشارة المطلقة التي للمؤمنين الذين عملوا الصالحات.
وقوله - عز وجل -: { أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً }:
لا سوء فيه ولا قبح.
وقوله: { أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً } دون قوله:
{ ...لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً } [الأحزاب: 44]، { كَبِيراً } [الإسراء: 9] في الذكر لكنه صار مثله بقوله: { مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً } لا يخرجون منه أبداً، وهم مقيمون فيه.
ثم يحتمل وجهين:
أحدهما: { مَّاكِثِينَ فِيهِ }، أي: لا تأخذهم سآمة ولا ملالة فيه؛ فيريدون التحول منه إلى غير؛ على ما يكون في الشاهد: أنه يسأم المرء ويمل من طعامٍ - وإن كان رفيعاً - ويرغب فيما دونه، وهو ما قال: { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً }.
والثاني: { مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً }؛ لأن خوف الخروج والزوال عن النعمة ينقص النعمة على صاحبها، وهو ما قال
{ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } [النساء: 57]؛ وقال: { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة: 62].
وقوله - عز وجل -: { وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً * مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ }: هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أي: يعلمون أنه لم يتخذ ولداً، ولكن يقولون ذلك على العلم منهم كذباً وزوراً؛ كقوله:
{ وَتَدْعُونَنِيۤ إِلَى ٱلنَّارِ * تَدْعُونَنِي لأَكْـفُرَ بِٱللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } [غافر: 41-42] أي: أشرك ما أعلم منه: ليس هو لشريك له، وكقوله: { قُلْ أَتُنَبِّئُونَ ٱللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ } [يونس: 18]، أي: أتنبئون الله بما لا يعلم أنه ليس على ما تقولون.
والثاني: يحتمل قوله: { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ }، أي: عن جهلهم يقولون ما يقولون من الولد والشريك لا عن علم؛ تقليداً لآبائهم؛ لأنهم ليسوا بأهل كتاب يعرفون به، ولا كانوا يؤمنون بالرسل، وأسباب العلم هذان: الكتاب والرسل، فما قالوا إنما قالوا عن جهل لا عن علم، وكذلك آباؤهم، فإن كان على هذا، ففيه دلالة أن من قال شيئاً عن جهل فإنه يؤاخذ به حيث قال: { وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ... } الآية.
وقوله - عز وجل -: { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ }.
أي: كبرت وعظمت تلك الكلمة التي قالوها على من عرف الله حق المعرفة حتى كادت السماوات والأرض أن تنشق؛ لعظم ما قالوا في الله كقوله:
{ تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ... } الآية [مريم: 90].
وقوله: { إِن يَقُولُونَ }:
أي: ما يقولون إلا كذباً، ثم تكلم أهل الأدب في نصب { كَلِمَةً }.
قال بعضهم: انتصب على المصدر، أي: كبرت كلمتهم التي قالوها كلمة؛ كقوله:
{ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } [النساء: 164].
وقال قطرب: هو على الوصف؛ كما يقال: بئس رجلاً، ونعم رجلاً؛ على الوصف به، وذلك جائز في اللغة فعلى ذلك هذا.
وقال الخليل: إنما انتصب، لأنها نعت لاسم مضمر معرفة، وهو بمنزلة قوله:
{ سَآءَ مَثَلاً } [الأعراف: 177] وإنما كان نعتاً لاسم مضمر؛ لأنه قال: { وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً }، فهذا القول هو فرية، فتأويله: كبرت الفرية كلمة.
وقد قيل: كبرت المقالة كلمة، وهو ما ذكرنا، والله أعلم.
وقوله: - عز وجل - { تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ }:
أي: كبرت [كلمة]: تكلموا بها.
أو يقول: كبرت كلمة تتكلمونها.
وقوله - عز وجل -: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ }.
وقال في آية أخرى:
{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 3]، أخبر أنه فاعل ما ذكر، ولم يقل له، افعل أو لا تفعل في هذا، فيشبه أن يكون النهي ما ذكر في آية أخرى، وهو قوله: { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [فاطر: 8]؛ ولهذا قال بعض الناس: إن في قوله: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ }. نهيا عن الحزن عليهم.
وعندنا: ليس يخرج على النهي، ولكن على التسلي والسلوة.
ثم اختلف في قوله: { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً }: في الأسف.
قال بعضهم: الأسف: هو النهاية في الغضب؛ كقوله:
{ فَلَمَّآ آسَفُونَا ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ } [الزخرف: 55] قال أهل التأويل: { آسَفُونَا } أغضبونا.
وقال بعضهم: الأسف: هو النهاية في الحزن، كقوله:
{ يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ } [يوسف: 84]، أي: يا حزني.
ويحتمل أن يكون منه الحزن؛ إشفاقاً عليهم أن تتلف أنفسهم في النار بتركهم الإيمان، أو كانت نفسه تغضب عليهم؛ بتركهم الإجابة، والقول في الله سبحانه على ما قالوا فيه، وكلاهما يجوزان، إذا كان ذلك لله كادت نفسه أن تتلف حزناً عليهم؛ إشفاقاً منهم، أو كادت تتلف غضباً عليهم، وفيه دلالة أنه لم يكن يقاتل الكفرة، للقتل والتلف، ولكن كان يقاتلهم؛ ليسلموا حيث كادت نفسه تتلف؛ إشفاقاً عليهم منه؛ فلا يحتمل أن يكون يقاتلهم للقتل وفي القتل ترك الشفقة، ولكن كان يقاتلهم، ليضطرهم القتال إلى الإسلام، فيسلموا فلا يهلكوا، وفيه تذكير للمسلمين وتنبيه لهم من وجهين:
أحدهما: ما أخبر عن عظيم محل الذنوب في قلبه، فلعل ذلك يؤذيه، فيلحقهم اللعن؛ كقوله:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ... } الآية [الأحزاب: 57] وفي ذلك زجر عن ارتكاب ما يسوءه، ويؤذيه.
والثاني: تعليم منه لأمته: أن كيف يعامل الكفرة وأهل المناكير منهم، يقاتلون في الظاهر، ويضمرون الشفقة لهم في القلب على ما فعل بهم رسول الله، وعاملهم.
وقوله: { بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ } سمى القرآن: حديثاً، وهو ما قال:
{ ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ... } [الزمر: 23] سماه بأسامٍ: قصصاً، وحديثاً، وذكراً، وروحاً، وأمثاله.
والنهاية في الحزن والغضب للأنبياء، أنفسهم تقوم لهذين، وأما غيرهم من الخلائق، فلا تحتمل أنفسهم إلا لأحدهما إذا كان الحزن؛ ذهب الغضب وإذا جاء الغضب ذهب الحزن؛ فالأنبياء هم المخصوصون بهذا.
وقوله: - عز وجل - { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا }:
اختلف فيما أخبر أنه جعل للأرض زينة:
قال بعضهم: كل ما على وجه الأرض من النبات والشجر والإنسان وغيره هو زينة لها { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً }، فإن كان التأويل على هذا فيكون قوله: { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } القيامة، يعني: جميع ما على وجه الأرض فتبقى قاعاً صفصفاً، وذلك إخبار عن القيامة.
وقال بعضهم: { زِينَةً لَّهَا }: هو النبات الذي عليها، وما جعل لهم من الرزق؛ ليبلوهم بما جعل لهم من الأرزاق بالأمر والنهي والعبادات وغيره، لم يجعل ذلك النبات عليها وتلك الأرزاق مجاناً، ولكن ليختبرهم ويبتليهم بأنواع الامتحان، فإذا كان كذلك ففيه دلالة: أن ليس لأحد أن يتناول مما عليها إلا بإذن، ولا يقدم على شيء منها إلا بأمر من أربابها.
وقال أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان: زينة لها: أهلها، جعل ذلك، ليبلوهم، ذكر هاهنا: أنه جعل ما على الأرض؛ ليبلوهم أيهم أحسن عملاً.
وقال في آية أخرى:
{ { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [الملك: 2] ثم من الناس من يجمع بين الآيتين، فيقول: جعل الحياة للابتلاء والموت للجزاء؛ فيستدل على ذلك بقوله: { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً }.
أخبر: أنه يبلوهم بالزينة والحياة لا بالضيق والموات.
ومنهم من يقول: امتحنهم بهما جميعاً بالحياة؛ ليتزودا فيها لما بعد الموت؛ كما يتزود في حال السعة والرخاء لحال الضيق والشدة فمن لم يتزود في حال السعة فلا زاد له في حال الضيق؛ فعلى ذلك من لم يتزود في الحياة فلا زاد له بعد الموت.
وقوله - عز وجل -: { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً }:
أي: نبتليهم ونختبرهم أيضاً بذهاب النبات والأنزال وتأويله: أن يبتليهم بالرخاء والسعة وبالضيق والشدة، كقوله:
{ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } [الأنبياء: 35]، وقوله: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ... } الآية [البقرة: 155]. وقوله: { وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ } [الأعراف: 168] ونحوه، فعلى ذلك قوله: { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } والله أعلم.
أي: نبتليهم بالسعة والرخاء والضيق والشدة.
وقال القتبي: { بَاخِعٌ نَّفْسَكَ }، أي: مهلك نفسك.
وقال أبو عوسجة: { بَاخِعٌ }: بخع نفسه، أي: أخرجها.
وقالا جميعاً: الأسف: الحزن.
وقال غيرهما: الأسف: الغضب أيضاً، دليله قوله:
{ فَلَمَّآ آسَفُونَا ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ } [الزخرف: 55] أي: أغضبونا.
وقال القتبي: الصعيد: المستوي، ويقال: وجه الأرض، ومنه قيل للتراب: صعيد؛ لأنه وجه الأرض، والجرز: الأرض التي لا تنبت شيئاً، يقال: أرض جرز، وأرضون أجراز، وكذلك قال أبو عوسجة: والجرز: التي لا نبت فيها، والصعيد: التراب.