خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً
٥٩
إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً
٦٠
جَنَّاتِ عَدْنٍ ٱلَّتِي وَعَدَ ٱلرَّحْمَـٰنُ عِبَادَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً
٦١
لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً
٦٢
تِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً
٦٣
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذٰلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً
٦٤
رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَٱعْبُدْهُ وَٱصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً
٦٥
-مريم

تأويلات أهل السنة

قال: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِ }، أي: خلف من بعد أولئك الذين وصفهم - عز وجل - بالصلاة لله، والخشوع لله فيها، والبكاء، { خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَٰوةَ }، أي: جعلوها لغير الله، وهي الأصنام التي كانوا يعبدونها، فإذا جعلوها وصرفوها إلى غير الذي يصلي [إليه] أولئك فقد أضاعوها؛ لأنهم كانوا يصلون للأصنام الصلاة التي كان يصلي أولئك لله.
ويحتمل أن يكون قوله: { أَضَاعُواْ ٱلصَّلَٰوةَ }؛ لأن الصلاة هي آخر ما يترك ويضيع؛ لأنه روي في الخبر أنه قال:
"سَيُنقَضُ عُرَى الإِسْلامِ عُرْوةً فَعُرْوَة، أوَّلُها الأمانة، وآخِرُها الصَّلاَة" .
وقال بعض أهل التأويل: { أَضَاعُواْ ٱلصَّلَٰوةَ }، إضاعتها: تأخيرها عن مواقيتها، لا أن تركوها أصلاً، فهذا في أهل الإسلام إن ثبت، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِ }، أي: آثروا الشهوات على العبادات، وجعلوا الشهوات هي المعتمدة دون العبادات.
وقوله - عز وجل -: { فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً }:
قال بعضهم: الغي: وادٍ في جهنم، لكن هذا لا يجوز أن يقال إلا بالخبر عن رسول الله أنه قال: واد في جهنم.
وقال بعضهم: الغي: العذاب.
وقال بعضهم: للغي: الشر.
وجائز أن يكون سمي جزاء أعمالهم التي عملوها في الدنيا بالغواية باسم أعمالهم: غياً، ويجوز تسمية الجزاء باسم سببه، كقوله:
{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى: 40] ونحوه.
ثم استثنى فقال: { إِلاَّ مَن تَابَ } عن الشرك، { وَآمَنَ } بالله { وَعَمِلَ صَالِحاً }.
وقوله - عز وجل -: { فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً }، يشبه أن يكون قوله: { وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً }، أي: لا ينقصون من حسناتهم التي عملوها في حال إيمانهم لمكان ما عملوا من الأعمال في حال كفرهم، بل يبدل سيئاتهم حسنات على ما أخبر تعالى:
{ فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [الفرقان: 70]، وقال في آية [أخرى]: { إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [الأنفال: 38] أخبر أنهم إذا آمنوا وانتهوا عن الشرك لا يؤاخذهم بما كان منهم في حال كفرهم، والله أعلم.
ثم بيّن أية جنة، فقال: { جَنَّاتِ عَدْنٍ ٱلَّتِي وَعَدَ ٱلرَّحْمَـٰنُ عِبَادَهُ بِٱلْغَيْبِ }، ثم يحتمل إيمانهم بالغيب، أي: بالله آمنوا به بالخبر وإن لم يروه، ويحتمل الغيب: الجنة، أي: صدقوا بها وإن لم يروها والنار والبعث بالغيب.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } أي: كان موعوده آتياً، ولكن ذكر { مَأْتِيّاً }؛ لأن كل من أتاك فقد أتيته، فسمّي لذلك { مَأْتِيّاً }.
وقوله - عز وجل -: { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً }، وقال في موضع آخر:
{ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً } [الواقعة: 25-26] أي: لا يسمعون باطلاً، ولا ما يكره بعضهم من بعض، ولا ما يأثم بعضهم بعضاً إلا سلاماً، والسلام كأنه اسم كل خير وبركة.
وقوله - عز وجل -: { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً }.
قال الحسن: إن أطيب العيش وأحبّه إلى العرب الغداء والعشاء، فأخبرهم الله - عز وجل - أن لهم في الجنة الغداء والعشاء، وأطيب العيش إلى العجم لباس الحرير واللؤلؤ، فأعلمهم أن لهم في الجنة ذلك بقوله:
{ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [الحج: 23].
ويقول أهل التأويل: ليس في الجنة بكرة ولا عشي، ولا ليل ولا نهار، ولكن يؤتون على ما يحبون من البكرة والعشي.
عن ابن عباس قال: على مقادير الليل والنهار.
ويشبه أن يكون قوله: { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } ليس على تخصيص وقت دون وقت، ولكن الأوقات كلها في كل وقت يحبون ويشتهون، كقوله:
{ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ } [الزخرف: 71]، { وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ } [الواقعة: 20].
ويخرج ذكر البكرة والعشي: أن زمان الجنة يكون مشبهاً البكرة من وقت طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ومثل الوقت الذي يكون بعد غروب الشمس إلى أن يظلم؛ لأنه أخبر أن ظله ممدود بقوله:
{ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } [الواقعة: 30].
ثم أخبر أن تلك الجنة التي ذكر أن فيها كذا هي { ٱلَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } يحتمل أن يكون وعد الجنة للبشر كلهم بشرائط شرط عليهم، إن وفوا بها فلهم الجنة جميعاً، وإن لم يفوا بها فلا، فمن وفى بشرائطه التي شرط يجعل الذي كان وعد للذي لم يف - إذا وفى - للذي وفي بذلك، فهو الميراث الذي ذكر، وعلى ذلك يخرج قوله:
{ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ * ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ... } الآية [المؤمنون: 10-11]، والوارث هو الباقي من المورث والخلف عن الميت.
وقوله: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ }:
قال بعضهم: الخلف - بالجزم - يستعمل في موضع الذم، والخلف بالتحريك والنصب في موضع الحمد.
وقال بعضهم: هما سواء، ويستعملان جميعاً في موضع واحد.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ }.
هذا الكلام منه لا يكون إلا عن سؤال كان منه، كأنه قد كان استبطأ نزول جبريل عليه، فعند ذلك قال له: إنا لا نتنزل إلا بأمر ربك.
ثم فيه أنه لم يقل ذلك له إلا بأمر الله؛ لأن الله أخبر أنهم:
{ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [الأنبياء: 27]: فلا يحتمل أن يقول له ذلك من تلقاء نفسه؛ فيجعل ذلك آية في كتاب الله تتلى.
قوله - عز وجل -: { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذٰلِكَ }.
كأن هذا الكلام موصول بقوله: { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ }؛ لأنهما جميعاً كانا يعلمان أن له ما بين أيديهم وما خلفهم وما بين ذلك؛ فدل ذلك أنه موصول بالأوّل، وجهة الصلة بالأوّل هو أن يقال: { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ }، لا نتقدم إلا بأمره، ولا نتأخر ولا نعمل شيئاً إلاّ بأمره، وهو كقوله:
{ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } [الحجرات: 1].
وأمّا غيره من أهل التأويل اختلفوا فيه:
[قال بعضهم]: قوله: { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا }: هو الآخرة، { وَمَا خَلْفَنَا }: ما مضى من الدنيا، { وَمَا بَيْنَ ذٰلِكَ }: الحال التي نحن فيها.
وقال بعضهم: قوله: { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا }: الدنيا، { وَمَا خَلْفَنَا }: الآخرة، { وَمَا بَيْنَ ذٰلِكَ }: ما بين النفختين، وأمثال هذا، لكن الذي ذكرنا بدءاً أولى وأشبه؛ إذ هو على الصلة بالأوّل؛ إذ لا يتقدم ولا يتأخر ولا يعمل شيئاً إلا بأمره، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً }.
هذا يخرج على وجوه ثلاثة:
أحدها: ما قال بعض أهل التأويل: إن جبريل قد كان احتبس عنه زماناً، فقال أهل مكة: قد ودعه ربّه وقلاه؛ فنزل:
{ وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ } [الضحى: 1-3] على ما قال المشركون، فيخرج على هذا قوله: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } على الترك، أي: ما كان ربك تركك لما قال أولئك من التوديع والقلى.
ويحتمل: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } كملوك الأرض يطلب خدمهم وخولهم وقت سهوهم وحالة غفلتهم، فيقضون حوائجهم وحوائج من يطلب منهم القيام بها، أي: ما كان ربك بالذي يسهو ويغفل كملوك الأرض.
والثالث: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } بتأخير نزوله عن وقت النزول، بل أنزل عليك في الوقت الذي هو وقت النزول.
فهذان الوجهان يخرجان على السهو والغفلة، والأول على الترك.
وقوله - عز وجل -: { رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَٱعْبُدْهُ وَٱصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ }.
أي: اصبر نفسك عليها وعلى طاعته.
وقوله - عزّ وجلّ -: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً }، أي: ما تعلم له شريكاً تشتغل بعبادته عن عبادة الله، إنما هو إله واحد، لا راحة لك عن عبادته ولا ما يشغلك عنه.
وقال بعض أهل التأويل: هل تعلم أحداً اسمه: (الله) سواه؟!
وقال بعضهم: هل تعلم له مثلاً وشبيهاً؟!