خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٠٦
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
١٠٧
أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ
١٠٨
وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٠٩
وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
١١٠
-البقرة

تأويلات أهل السنة

قوله: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا }.
قال بعض أهل الكلام: { مَا نَنسَخْ } من اللوح المحفوظ { أَوْ نُنسِهَا }: نَدعُها في اللوح.
وقيل: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } أي نرفع بآيةٍ أُخرى أو نتركها في الآخرى.
وقيل: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } فنرفع حكمها، والعملَ بها، { أَوْ نُنسِهَا } أَي: نترك قراءتها وتلاوتها.
فيجوز رفع عينها، ويجوز رفع حكمها وإبقاء عينها؛ لأَوجه:
أَحدها: ظهور المنسخ؛ فبطل قول من أَنْكر النسخ؛ إذ وجد. ومن أَنكر ذلك فإنما أَنكر لجهل بالمنسوخ؛ لأَن النسخ بيان الحكم إلى وقت، ليس على البداءِ، على ما قالت اليهود.
والثاني: أَن للتلاوة فيها فضلاً - كما للعمل - فيجوز رفع فضل العمل، وبقاءُ فضل التلاوة.
والثالث: على جعل الأَول في حالة الاضطرار، والثاني في وقت السعة، كقوله:
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ } [المائدة: 3].
ثم يجوز أَن يرفع عينُها فيُنْسى ذكرُها، كما رُوي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال:
"كنا نعدل سورة الأَحزاب بسورة البقرة، حتى رفع منها آيات، منها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة" .
وأَما قوله: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا }.
فاختلف فيه: قيل: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } أي: أخفَّ وأَهونَ على الأَبدان؛ كقوله:
{ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } [البقرة: 184]، إن الأمر بالصوم كان لوقت دون وقت؛ إذ رجع الحكم عند الطاقة إلى غَيره. وكذا ما كان من الحكم في تحريم الأَكل عند النوم والجماع، وكذا تحريم الميتة: لو لم يرد فيهما الإباحة والحل عند الضرورة لكُنَّا نعرفه بالحرمة، وذلك أَخف وأَهون، والله أعلم.
وقيل: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } في الثواب في العاقبة.
وقيل: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } في المنفعة { أَوْ مِثْلِهَا } في المنفعة.
وقيل: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } وهو أَن يظهر لكم به الخير في حق الاتباع. والمثلُ: في حق الأَمر؛ فيشترك أَصحاب المنكرين للنسخ في حق الائتمار بالمثل، ويفضلونهم بظهور الأَخير.
وهو كالصلاة إلى بيت المقدس؛ كان لهم مثلُ ما لليهود في حق الائتمار ما كان ظهر لهم الأَخير في وقت ظهور الأَمر، وأَبهم الخير. وظهر عنده فيمن أَبى: أَن اتباعه لم يكن لأَجل حق المتابعة، بل لما كان عنده الحجة.
فأَما من جعله خيراً على البدل فاستدل بها الآخر رخصة وإباحة، والإباحة ورودها للتخفيف.
ومن استدل على أَن النسخ - أَبداً - يَرِدُ على ما هو أَغلظ، عورض بقوله:
{ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي ٱلْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ ٱلْمَوْتُ } [النساء: 15]، فأبدل بعقوبة أَشد من الأَول - وهو الرجم - بقوله: "خذوا عني، خذوا عني".
ويحتمل قوله: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } وجهاً آخر: وهو آيةٌ والآيات هي الحجج؛ فيكون معناه: ما نرفع من حجة فننفيها عن الأَبصار، إلا نأْت بخير منها يعني أقوى منها في إلزام الحجة، أَو مثلها.
ولا شك أن ما يعترض هو أقوى حالة الاعتراض في لزوم الحجة على ما غاب عن الأَبصار؛ فيكون قوله: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } على هذا الوزن، أي: نأْت بحجة هي أقوى وأكثر من الأُولى، أَو مثلها في القوة.
فإن قيل: ما الحكمة في النسخ؟ وما وجهُه؟
قيل: محنة يمتحن بها الخلق، ولله أَن يمتحن خلقه بما يشاءُ، في أَي وقت شاء: يأْمر بأَمرٍ في وقت، ثم ينهى عن ذلك، ويأْمر بآخر.
وليس في ذلك خروج عن الحكمة، ولا كان ذلك منه لبداءٍ يبدو له، بل لم يزل عالما بما كان ويكون، حكيماً يحكم بالحق والعدل؛ فنعوذ بالله من السرف في القول.
وقوله: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
يحتمل: أن يكون الخطاب له - عليه السلام - والمرادُ بالخطابِ الذين سبق ذكْرُهم في قوله:
{ مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ... } [البقرة: 105].
إنه قادر على إنزال الخير على من يشاء، واختصاصِ بعضٍ على بعض، وتفضِيلِ بعضهم على بعض.
ويحتمل: أَن يكون المراد في الخطاب له - عليه الصلاة والسلام - على حقيقة العلم على التذكير والتنبيه، أي: تعلم أنت أَن الله على كل شىء قدير، وهو كقوله:
{ فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ } [محمد: 19]. على حقيقة العلم له.
ويحتمل: على الإعلام والإخبار لقومه، وقد ذكرنا.
وعلى ذلك يخرج قوله:
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ }.
أي: من كان يملك ملك السماوات والأرض، يملك تخصيص بعض على بعض، وتفضيلهم فيها، ويحكم فيها بما يشاء، ويُحْدِث من الأَمر ما أَراد، والله أعلم.
ويحتمل: نزوله على أَثر نوازلَ لم تذكر فيه، وذلك في القرآن كثير، وإنما يقال هذا الحرف عند ضيق القلب؛ تسكيناً له.
ومعنى تخصيص السَّماوات والأرض بالملك له؛ لمنتهى علم الخلق بهما، وإن كان له ملك الدنيا والآخرة، وبالله التوفيق.
وقوله: { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }.
يدل هذا على أَنه خرج على أَثر نوازل وإن لم تذكر.
وقوله: { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ }.
سؤالَ تعنت: لن نؤمن لك - تعنتاً - حتى نرى الله جهرة.
وقيل: إنهم سأَلوا ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سأَل قوم موسى موسى.
وقيل: سأَلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أَن يجعل الصفا - لهم - ذهباً إن كان ما يقوله حقّاً.
وقيل: سؤالهم:
{ لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا } [الفرقان: 21]، وكانوا يسأَلون سؤال تعنت، لا سؤال استرشاد واهتداء.
وقوله: { وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ }.
قيل: اختار الكفر بالإيمان.
وقيل: ومن يختر شدة الآخرة على رخائها وسعتها.
وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه -: "ومن يشتر الكفر بالإيمان" وذلك كله واحد.
وقوله: { فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ }.
قيل: عدل عن الطريق.
وقيل: عدل عن قصد الطريق.
وقيل: أَخطأَ قصد طريق الهدى، وكله واحد.
وقوله: { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً }.
إنهم كانوا يجهدون كل جهدهم حتى يصرفوا ويردوا أَصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن دين الله - الإسلام - إلى ما هم عليه؛ كقوله تعالى:
{ وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ } [آل عمران: 69]، وكقوله: { إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ } [آل عمران: 100]، وكقوله: { يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ... } الآية [آل عمران: 149].
وذلك - والله أعلم - لخوفِ فوت رياستهم التي كانت لهم، وذهاب منافعهم التي ينالون من الأَتباع والسفلة، فودُّوا ردَّهم وصرفهم إلى دينهم.
ثم احتجت المعتزلة علينا بظاهر قوله تعالى: { حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ }، قالوا: دلت الآية على أَن الحسد ليس من عند الله بما نفاه - عز وجل - عنه، وأَضافه إلى أَنفسهم بقوله: { حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ }.
قيل: صدقتم في زعمكم بأَن الحسد ليس من عند الله، وكذلك نقول، ولا نجيز إضافة الحسد إليه بحال ولكن نقول: خلق فعل الحسد من الخلق، وكذلك يقال في الأَنجاس، والأَقذار، والحيَّات والعقارب ونحوها: إِنه لا يجوز أن تضاف إلى الله تعالى فيقال: يا خالق الأَنجاس والحيات والعقارب، وإن كان ذلك كله خلقه، وهو خالق كل شيء.
فعلى ذلك، نقول بخلق فعل الحسد، وفعل الكفر من العبد، ولا نجوِّز أن يضاف إلى الله تعالى.
ثم يقولون في الطاعات والخيرات كلها: إنها من عند الله، غير مخلوقة، فلئن كانت العلة في الذي لا يكون مخلوقاً، أنه ليس هو من عنده لوجب القول بخلقه ما هو من عنده، ثم لم يقولوا به؛ فَبان أَن ما يقولون فاسد، باطل، ليس بشيء.
ثم جهة الحسد ما ذكرنا أنهم أَحبوا أَن تكون الرسالةُ فيهم، أَو أَن يكون من عنده سعَةٌ؛ كقوله:
{ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ } [هود: 12] وكقوله: { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31]؛ فبهذين الوجهين يخرج حسدهم.
قوله: { مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ }.
أى: من قِبَلِها، لا أَن الله - تعالى - أَمرهم. وليس يضاف إلى الله - تعالى - بأَنه من عنده بما يخلق، ولكن بما يأمر أو يلزم.
أَلاَ ترى أَن الأَنجاس كلها، والخبائث، والشياطين، كلهم مخلوقة وإن لم يجز نسبتها إلى الله - تعالى - بمعنى أنه مِن عنده؟ كذلك ما ذكر من الحسد.
على أَنه معلوم أَنهم لم يكونوا يدعون مِن دون الله خَلْقاً فبذلك الوجه ينكر عليهم، بل كانوا يدعون الأَمر في كل ما نُسب إلى الله تعالى؛ فعلى ذلك ورد العقاب، والله أعلم.
وقوله: { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ }.
أي: بين لهم في التوراة أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي، وأَن دينه الإسلام؛ كقوله:
{ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [البقرة: 146، الأنعام: 20].
وقوله: { فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ }.
يحتمل: النهي عن مكافأَة ما يؤذونه في الدُّنيا، ثم لم ينسخ.
وقيل: فيه نهي عن قتالهم، حتى يأْتي أَمر الله في ذلك، ثم جاءَ بقوله:
{ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ... } الآية [التوبة: 29].
وقيل: حتى يأتي الله بأمره، أي: بعذابه، والله أعلم.
وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
من التعذيب والانتقام، وبكل شيء. ولم ينسخ هذا.
وقوله: { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ }.
كرر الله - عز وجل - الأَمر بإقامة الصلاة، وإيتاءِ الزكاة، في القرآن تكراراً كثيراً، حتى كانت لا تخلو سورة إلا وذكرهما فيها - في غير موضع - وذلك لعظم شأْنهما، وأَمرهما، وعلو منزلتهما عند الله، وفضل قدرهما.
وعلى ذلك جعلهما شريعة في الرسل السالفة، صلوات الله عليهم.
أَلا ترى إلى قول إبراهيم - عليه السلام -:
{ رَبِّ ٱجْعَلْنِي مُقِيمَ ٱلصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَتِي } [إبراهيم: 40].
وقوله لموسى وهارون:
{ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً } إلى قوله: { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ } [يونس: 87]. وقول عيسى: { وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً } [مريم: 31]، وقوله: { وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَاةَ } [المائدة: 12].
وذلك - والله أعلم - أَن الصلاة قُربة فيما بين العبد وبين ربه، تجمع جميع أفعال الخير، وفيها غاية منتهى الخضوع له، والطاعة: من القيام بين يديه، والمناجاة فيه، والركوع له، والسجود على الأَرض، وتعفير الوجه فيها حتى لو أَن أَحداً ممن خلص دينه لله لو أُعطى ما في الدنيا على أَن يعفِّر وجهه في الأَرض لأَحد من الخلق ما فعل، وبالله التوفيق.
والزكاةُ فيما بين العبد وبين الخلق؛ لتآلف القلوب واجتماعها، وفيها إظهار الشفقة لهم والرحمة.
لذلك عظَّم الله شَأْنهما، وشرف أَمرهما، وأَعلى منزلتهما؛ وعلى ذلك قرنهما بالإيمان في المواضع كلها، وأَثبت بين الخلق الأُخوّة بهما بقوله:
{ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِي ٱلدِّينِ } [التوبة: 11].
ثم هما تكرمان بالعقل؛ لأَن الصلاة تجمع جميع أَنواع خيرات الأَفعال، وفيها غايةُ الخضوع له، والخشوع - على ما ذكرنا - وذلك مما يوجبه العقل، وإن لم يرد فيه السمع.
وكذلك الزكاة: فيها تزكية الأَنفس وتطهيرها، وذلك مما في العقل واجب.
فإن قيل: ما الحكمة في وجوبها؟
قيل: إظهار ما أَنعم الله [على العبد]، من الأَموال والسَّعة فيها، وما أَعطاهم من سلامة الجوارح عن جميع الآفات، يخرج مخرج الأَمر بأَداءِ شكر ما أَنعم عليهم عز وجل.
فإن قيل: ما الحكمة في وجوبها فيما أُعْطي منهما، يعني من النفس، والمال دون غيره؟
قيل: لأَن الوُجوب من غيره يخرج مخرج المعاوضة والمبادلة، لا مخرج أَداءِ الشكر، والله أعلم.
ثم الحكمة في: إيجاب الصلاة والزكاة، وغيرهما من العبادات أَن الله - تعالى - إذ عمهم بنعمه فيما فضلهم بالجوهر، وسخر لهم جميعَ ما في الأرض، وبسط عليهم النعم، حتى صار كل منهم لا يُبصر غير نعمه، من استحقاق منهم شيئاً من ذلك - لزمهم الشكر عليها.
ثم كانت الصلاة تجمع استعمال جميع الجوارح فيما لله فيها القيام بها شكراً له، مع ما فيها توقف أَحوال نفسه بالاختيار بما هي عليه بالاضطراب والخلقة والقلب بالنية، والخوف والرجاء، وإحضار الذهن والعقل بالتعظيم والتبجيل؛ فيكون كل شيء منه في شكره؛ لما له فيه من سبوغ النعمة، والله أعلم.
وكذلك بالأموال فضلوا - في هذه الدنيا - واستمتعوا بلذيذ العيش؛ فأمروا بالإِخراج لله، مع ما إذ سخرت هذه الأَرض - بما فيها - لجميع البشر، ألزم من ذلك صلةَ من لم يملك، ليستووا في الاستمتاع بالتسخير لهم، من الوجه الذي عَلِم الله لهم فى ذلك صلاح الدارين، ولا قوة إلا بالله.
وقوله: { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ }.
الآية تخرج على خلاف قول المتعزلة؛ لأَنهم يقولون: إن من ارتكب كبيرة ثم أَقام الصلاة وآتى الزكاة، وجاهد في سبيل الله، وحج بيت الله الحرام، فقدم خيراتٍ كثيرةً - فإنه لا يجد مما قدم شيئاً، ولكن يجد ما قدم من شر.
وذلك ليس من فعل الكريم والجواد، ولا كذلك وصف الله نفسه، بل وصف نفسه على خلاف ما وَصفوا هم، فقال:
{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ } [الأحقاف: 16].
وهم يقولون: لا يتقبل عنهم ما قدموا من الخيرات، ولا يتجاوز عن سيئاتهم، وذلك سرف في القول؛ فنعوذ بالله من السرف في القول، والحكم على الله، وبالله العصمة والتوفيق.
وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }.
بما قدمتم من الخير والشر؛ تنبيه منه عز وجل ليكونوا على حَذرٍ من الشر، وترغيب منه لهم بالخيرات. والله أعلم.