خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ
٢٤٩
وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ
٢٥٠
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ
٢٥١
تِلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ
٢٥٢
-البقرة

تأويلات أهل السنة

قوله: { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ }.
أي: من المدينة.
قيل: هم سبعون ألفا.
وقيل: كانوا مائة ألف، سار بهم في حر شديد، فنزلوا في قفرة من الأرض، فأصابهم عطش شديد، فسألوا طالوت الماء، فقال لهم طالوت:
{ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ }.
قيل: نهر بين الأردن وفلسطين.
وقيل: هو نهر فلسطين.
[وقيل: إنما قال لهم: إن الله مبتليكم بنهر نبيهم.
وقوله: { فَمَن شَرِبَ } غرفة كفاه، ومن شرب أكثر منه لم يروه؛ لأنهم عصوه. وقيل]
{ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي }.
أي: ليس معي على عدوي، أي: لا يخرج معي.
ويجوز { فَلَيْسَ مِنِّي } من أتباعي وشيعتي.
وجائز أن يكون به ظهور النفاق والصدق { مِنِّي } في الدين.
{ وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ }.
يقول: { مِنِّي }، أي معي على عدوي.
فيه دليل أن يسمي الشراب باسم الطعام. والطعام باسمه.
{ إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ }.
استنثى (الغرفة)، كأنه قال: من شرب منه فليس مني إلا غرفة.
ففيه جواز الثنيا من الكلام المتقدم وإن كان دخل بين حرف الثنيا وحرف الأول شيء آخر. وهو يدل لأصحابنا، رحمهم الله تعالى، حيث قالوا: فيمن أقر، فقال: "لفلان على كُرُّ حنطة وكر شعير إلا نصف كر حنطة"، أنه يصدق ويلزمه من الحنظة نصف كر. ويحتمل أن يكون الثنيا على ما يليه قوله: { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً }.
وقيل: شرب شرب الدواب. و(الغرفة) هي شرب.
وقوله: { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ }.
قيل: (القليل) هم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً اغترفوا غرفة واحدة بأيديهم، وكانت الغرفة يشرب منها هو وخدمه ودوابه.
وقيل: إنما استثنى الغرفة باليد لئلا يكرعوا كراع الدواب، ففعل بعضهم ذلك، فرد طالوت العصاة منهم، فلم يقطعوا معه، وقطع معه الثلاثمائة والثلاثة عشر رجلاً وهو قوله تعالى:
{ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ }.
قيل: هو قول بعضهم لبعض: { لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ }؛ لأنهم أكثر منا، وكانوا مائة ألف، وهو ثلاثمائة وثلاثية عشر. والله أعلم بذلك العدد.
وقوله: { قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ }.
قيل: الذين يعلمون ويقرون بالبعث.
{ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ }.
أي: عددهم.
وقيل: { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ }، يعني يخشون أنهم يقتلون؛ لأنهم وطنوا أنفسهم على الموت، فطابت أنفسهم بالموت { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً }.
وقوله: { بِإِذْنِ ٱللَّهِ }.
قال بعضهم: { بِإِذْنِ ٱللَّهِ }، أي بأمر الله. لكنه لا يحتمل الغلبة بالأمر، ولكن { بِإِذْنِ ٱللَّهِ }، عندنا: بنصر الله.
وقوله: { وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ }.
بالنصر والمعونة لهم.
وقوله: { وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ }.
يعني لقتالهم.
وقوله: { قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ }.
يقول: اصبب. ويقال: أتمم علينا صبرا.
وهكذا الواجب على كل من لقي العدو أن يدعو بمثل هذا.
وعلى قول المعتزلة لا معنى لهذا الدعاء، لأنه قد كان فعل بهذا الأصلح.
فاستجاب الله دعاءهم، وهزم عدوهم؛ وهو قوله تعالى: { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ }.
قال بعضهم: { بِإِذْنِ ٱللَّهِ }، بأمر الله. لكن لا يحتمل؛ لأنهم كانوا يقاتلون بالأمر، ولا يهزمون بالأمر.
وقال آخرون: { بِإِذْنِ ٱللَّهِ }، يعلم الله، كان في علمه في الأزل أنهم يهزمونهم.
وقيل: { بِإِذْنِ ٱللَّهِ }، بنصر الله. وهو أقرب. والله أعلم.
وقيل في القصة: إن داود، عليه السلام، كان راعياً، وكان له سبعة إخوة مع طالوت خرجوا معه للقتال: ولما أبطأ خبر إخوته على أبيهم أرسل داود إليهم لينظر ما أمرهم ويأتيه بخبرهم. قال: فأتاهم وهم في الصفوف. فبرز جالوت، فلم يخرج إليه أحد. فقال: (يا بني إسرائيل) لو كنتم على حق لخرج إلي بعضكم. فقال داود لإخوته: أما فيكم أحد يخرج إلى هذا الأقلف؟ قال: فقالوا: اسكت. قال: فذهب داود إلى طالوت، فقال: أيها الملك، إني أراكم تعظمون شأن هذا العدو. ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف؟ قال طالوت: أنكحه ابنتي، وأجعل له نصف ملكي. فقال داود لطالوت: فأنا أخرج إليه. فلما قال داود: (أنا أخرج إليه)، قال له طالوت: من أنت؟ قال: أنا داود بن فلان. فعرفه طالوت، ورأى أنه أجلد إخوته. قال: فأعطاه طالوت درعه وسيفه. قال: فلما خرج داود في الدرع جرها في الأرض؛ لأن طالوت كان أطول منه. قال: فأخذ داود العصا ثم خرج إلى جالوت. فمر بثلاثة أحجار، فقلن: يا داود خذنا معك، ففينا ميتة جالوت. فأخذها ثم مضى نحوه. وعلى جالوت بيضة هي ثلاثمائة رطل. فقال له جالوت: إما أن ترميني، وإما أن أرميك؟ فقال له داود: بل أنا أرميك. فرماه بها، فأصابه في آخرها، فوقعت في صدره، فنفذته وقتلته، وقتل الحجر بعد ما نفذ جنوداً كثيرة، وهزم الله جنوده. وهو قوله: { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ }، والقصة طويلة فلا ندري كيف كانت القصة وليس لنا إلى معرفتها حاجة.
وقوله: { وَآتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ وَٱلْحِكْمَةَ }.
فالملك يحتمل: علم الحرب، وسياسة القتال؛ إذ لم يكونوا يقاتلون إلا تحت أيدي الملوك، وهو كقوله:
{ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحِكْمَةَ وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ } [ص: 20].
ويحتمل: { ٱلْمُلْكَ }، بما عقد له من الخلافة؛ كقوله:
{ يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ص: 26].
وذكر: { وَآتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ وَٱلْحِكْمَةَ } الأمرين لما كان من قرب زمانه على ما عليه ابتداء الآية أن الملك يكون غير نبي، فجمعا جميعاً له فيكون على ذلك تأويل الحكمة أنها النبوة.
{ وَٱلْحِكْمَةَ }، قيل: هي الفقه.
وقيل: هي النبوة. وقد تقدم ذكره.
وقوله: { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ }.
قيل: صعنة الدروع، كقوله:
{ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ } [الأنبياء: 80].
وقيل: كلام الطير، وتسبيح الجبال، كقوله:
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ } [سبأ: 10]. وذلك مما خص به داود دون غيره من الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام.
ويحتمل: { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ }، أشياء أخر.
وقوله: { وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ }.
اختلف فيه:
قال بعضهم: دفع بالكفار بعضهم ببعض شرهم عن المسلمين، لما شغل بعضهم ببعض، وجعل بعضهم لبعض أعداء إلى أن لم يتفرغوا عن أنفسهم للمسلمين، وإلا كان في ذلك فساد الأرض.
وقال آخرون: دفع بالرسل والأنبياء شرهم عن المسلمين، وكفاهم بهم.
وقال غيرهم: دفع بالمؤمنين بعضهم عن بعض - دفع بالمجاهدين في سبيل الله عن القاعدين عن الجهاد، وإلا لغلب المشركون على الأرض.
وقيل: بدفع بالمصلي عمن لا يصلي، وبالمزكي عمن لا يزكي، وبالحاج عمن لا يحج، وبالصائم عمن لا يصوم.
ثم اختلف في قوله: { لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ }.
قيل: لو لم يدفع بعضهم ببعض لقتل بعضهم بعضاً، وأهلك فريق فريقاً، وفي ذلك تفانيهم وفسادهم، وفي ذلك فساد الأرض.
وقال آخرون: لو لم يدفع لفسدت الأرض، أراد بفساد الأرض فساد أهلها؛ لأنه لو لم يدفع لغلب المشركون على أراضي الإسلام وأهلها. فإذا غلبوا فسد أهلها.
وقال: { لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ }، إذا غاب المشركون عليها هدمت المساجد والصوامع، ففيه فساد الأرض. والله أعلم.
وقوله: { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ }.
وعلى قول المعتزلة: ليس هو بذي فضل على أحد؛ لأن عليه أن يفعل ذلك، وأن يدفع ذلك كله عن المسلمين على قولهم، فإذا كان عليه ذلك لا يصير هو بما يدفع مفضلاً ولا ممتنّاً. فنعوذ بالله من السرف في القول.
وقوله: { تِلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ }.
يحتمل قوله: { آيَاتُ ٱللَّهِ }، ما ذكره من قتل داود جالوت بالأحجار.
ذكر في القصة مع ضعف داود وقوة جالوت، على ما قيل: إن قامته كانت قدر ميل، وإن بيضته كانت ثلاثمائة رطل.
ويحتمل: ما ذكر من قيام القليل للكثير؛ لأنه قيل: إن جنود جالوت مائة ألف، وجنود طالوت ثلاثمائة وثلاثة عشر. وذلك من الآيات.
ويحتمل: جميع ما قص الله عليه في القرآن من خبر الأمم السالفة. والله أعلم.
وفي قتل داود جالوت، وقتل القليل الكثير، دليل: أنهم لم يقتلوا لقوة أنفسهم، ولكنهم بالله وبنصره إياهم.
قال الشيخ -رحمه الله -: من آيات وحدانيته: قتل داود جالوت مع ضعف داود وقوة عدوه.