خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ
٢٥٥
-البقرة

تأويلات أهل السنة

قوله: { ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ } قيل: هو الحي بذاته لا بحياة هي غيره كالخلق هم أحياء بحياة هي غيرهم حلت فيهم لا بد من الموت، والله عز وجل يتعالى عن أن يحل فيه الموت؛ لأنه حي بذاته وجميع الخلائق أحياء لا بذاتهم، تعال الله عز وجل عما يقول فيه الملحدون علوا كبيرا.
والأصل: أن كل من وصف في الشاهد بالحياة وصف ذلك للعظمة له والجلال والرفعة. ويقال: (فلان حي)، وكذلك الأرض سماها الله تعالى (حية)، إذا اهتزت وربت وأنبتت، لرفعتها على أعين الخلق. فعلى ذلك الله سبحانه وتعالى (حي) للعظمة. وكذلك الأرض سماها الله تعالى: (حية) للعظمة والرفعة ولكثرة ما يكون يذكر في المواطن كلها، كما سمى الشهداء (أحياء)؛ لأنهم مذكورون في الملأ من الخلق.
ويحتمل: أنه يسمي (حيّاً) لما لا يغفل عن شيء، ولا يسهو، ولا يذهب عنه شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وبالله العصمة.
وقوله: { ٱلْقَيُّومُ }، القائم على مصالح أعمال الخلق وأرزاقهم.
وقيل: { ٱلْقَيُّومُ }، هو القائم على كل شيء يحفظه ويعاهده، كما يقال: (فلان قائم على أمر فلان)، يعنون أنه يتحفظ أموره حتى لايذهب عنه شيء.
وقيل: { هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ }، أي لا يغفل عن أحوال الخلق.
وقوله تعالى: { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ }.
قيل: (السنة)، النعاس.
وقيل: (السنة)، هي بين النوم واليقظة، وسمي (وسنان).
وقيل: (السنة)، هي ريح تجيء من قبل الرأس، فتغشى العينين، فهو (وسنان) بين النائم واليقظان.
ويحتمل قوله: { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } على نفي الغفلة والسهو عنه؛ إذ لو أخذه، صار مغلوباً مقهوراً، فيزول عنه وصفه (حي، قيوم)، كقوله:
{ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ } [سبأ: 3]. على نفي الغفلة.
ويحتمل: أنه نفي عن نفسه ذلك؛ لأن الخلق إنما ينامون وينعسون طلباً للراحة والمنفعة - إما لدفع حزن أو وحشة - فأخبر أنه ليس بالذي يحتاج إلى راحة، وإلى دفع حزن أو وحشة.
وقيل: لا يفتر ولا ينام.
قال الشيخ -رحمه الله تعالى -: والنوم والسنة حالان تدلان على غفلة من حلاّ به، وعلى حاجته إلى ما فيه راحته، وعلى عجزه، إذ هما يغلبان ويقهران. فوصف الرب نفسه بما يعلو عن الذي دلا عليه من الوجوه.
وقوله تعالى: { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ }.
وهو العالي على ذلك، القاهر له، لا تأخذه سنة ولا وحشة، ولا معنى يدل على العجز والحاجة. ولا قوة إلا بالله.
وقوله: { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ }، أخبر أن ما في السماوات وما في الأرض، عبيده وإماؤه، ليس كما قالوا: (فلان ابن الله)، و(الملائكة بنات الله)، بل كلهم عبيده وإماؤه، والناس لا يتخذون ولدا من عبيدهم وإمائهم، فالله أحق ألا يتخذ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.
وقوله تعالى: { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ }، أي: لا أحد يجترئ على الشفاعة إلا بإذنه.
ثم اختلف في الشفاعة:
قالت المعتزلة: لا تكون الشفاعة إلا لأهل الخيرات خاصة الذين لا ذنب لهم، أو كان لهم ذنب فتابوا عنه. ذهبوا في ذلك إلى ما ذكر الله تعالى في قوله:
{ ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ } [غافر: 7]، أخبر أنهم يستغفرون للذين آمنوا وتابوا واتبعوا. فإذا كان الاستغفار في الدنيا إنما يكون للذين آمنوا وتابوا واتبعوا، فعلى ذلك الشفاعة إنما تكون في الآخرة لهؤلاء.
وأما عندنا: فإن الشفاعة تكون لأهل الذنوب؛ لأن من لا ذنب له لا حاجة له إلى الشفاعة. وقوله:
{ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ } [غافر: 7]، يكون لهم ذنوب في أحوال التوبة، فإنما يغفر لهم الذنوب التي كانت لهم، فقد ظهر الاستغفار لأهل الذنوب؛ فعلى ذلك الشفاعة.
فإن قيل: أرأيت رجلاً قال لعبده: إن عملت عملاً تستوجب به الشفاعة فأنت حر، فأي عمل يعمله ليستوجب به الشفاعة حتى يعتق عبده: الطاعة، أو المعصية؟ قيل: الطاعة، فعلى ذلك الشفاعة، لا تكون إلا لأهل الطاعة والخير لا لأهل المعصية.
[قيل: إن الشفاعة التي يستوجبها أهل الذنوب إنما يستوجبون بالطاعات التي كانت لهم حالة الشفاعة؛ لأن أهل الإيمان وإن ارتكبوا مآثم ومعاصي فإن لهم طاعات، فبتلك الطاعات يستوجبون الشفاعة، كقوله:
{ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً } [التوبة: 102]، فالشفاعة في شره بخيره].
وقالوا: لا شفاعة في الشاهد لأحد في الآخرة؛ لأن الشفاعة هي أن يذكر عن مناقب أحد عند أحد وخيراته، ليس سوءاً، وكذا في الآخرة.
والجواب لهم من وجهين:
أحدهما: أنه إنما يذكر في الدنيا خيرات المشفع له لجهالة هذا بأحواله، فيذكر خيراته ليعرفه بها، فيشفع فيه. والله تعالى عارف لا يتعرف.
والثاني: أن ذكر خيراته لحاجة تقع للمذكور له تكون في مثلها، لا تكون في الآخرة خاصة، والله - تعالى - يتعالى عن الحاجة عما بالعباد؛ لذلك اختلفا. والله أعلم.
فإن قال لنا قائل: إن جميع ما ذكر في هذه الآية - من أولها إلى آخرها - كلها دعوى، فما الدليل على تلك الدعوى؟
قيل: يحتمل أن يكون دليله ما تقدم ذكره من قوله تعالى:
{ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ... } الآية [البقرة: 164].
والثاني: من أنكر الصانع فيتكلم أولا معه في حدث العالم، وحاجته إلى محدث، فإذا ثبت حدث العالم، فحينئذ يتكلم في إثبات الصانع ووحدانيته. وبالله التوفيق.
وفي قوله تعالى: (واحد)، ليس من حيث العدد؛ لأن كل ذي عدد يحتمل الزيادة والنقصان، ويحتمل الطول والعرض، ويتحمل القصر والكسر، ولكن يقال: ذلك (واحد) من حيث العظمة والجلال والرفعة، كما يقال: فلان واحد زمانه، وواحد قومه، يعنون به رفعته وجلالته في قومه وسلطانه عليهم، جائز القول، فهم لا يعنون من جهة العدد؛ لأن مثله كثير فيهم من حيث العدد. والله أعلم.
وقوله: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ }.
هذا على المعتزلة؛ لأنهم لا يصفونه بالعلم، وقد أخبر أن له العلم.
ثم احتمل: { عِلْمِهِ }، علم الغيب.
وقال آخرون: علم الأشياء كلها. لا يعلمون إلا ما يعلمهم الله من ذلك، كقول الملائكة:
{ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ } [البقرة: 32].
ومن قال: علم الغيب، فهو الذي قال:
{ عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ } [الجن: 26-27].
وقوله تعالى: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ }.
قال بعضهم: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ }، وسع علمه. وهو قول ابن عباس، رضي الله تعالى عنه.
وقال آخرون: { كُرْسِيُّهُ }، قدرته، وهو وصف بالقدرة والعظمة.
وقيل: { كُرْسِيُّهُ }، والكرسي هو أصل الشيء، يقال: كرسي كذا، والمراد منه أنه المعتمد والمفزع للخلق. وذلك وصف بالعظمة والقوة.
ويقال: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ }، وهو خلق من خلقه.
وقيل: إن الكرسي هو الكرسي، لكنه خلقه ليكرم به من يشاء من خلقه.
[ثم لا يجوز أن يفهم من إضافته إليه ما يفهم من الخلق، كما لم يفهم من قوله: { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ }، و"نور الله"، و"بيت الله" ونحوه ما يفهم من إضافته إلى خلقه].
فعلى ذلك لا يفهم من قوله: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ }، وغيره من الآيات ما يفهم من الخلق بقوله تعالى:
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11].
وقوله تعالى: { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا }.
قيل: { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا }، لا يشق عليه حفظهما. وهو قول ابن عباس، رضي الله تعالى عنه، وروي عنه أيضاً أنه قال: لا يثقل عليه.
وقيل: { وَلاَ يَؤُودُهُ }، لا يجهده.
وقيل: لا يعالج بحفظ شيء مثال الخلق.
وقوله تعالى: { وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ }.
{ ٱلْعَلِيُّ } عن كل موهوم يحتاج إلى عرش أو كرسي، { ٱلْعَظِيمُ } عن أن يحاط به.
وقال ابن عباس - رضي الله تعالى عنه -: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ }، قال: علمه، ألا ترى إلى قوله: { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا }، كل شيء في علمه، لا يئوده حفظ شيء، والله أعلم.
قال الشيخ:-رحمه الله تعالى - { ٱلْعَلِيُّ }، عن جميع أحوال الخلق وشبههم، و{ ٱلْعَظِيمُ } القاهر والغالب.