خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ
٣٠
وَجَعَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
٣١
وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ
٣٢
وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ
٣٣
-الأنبياء

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا }.
قوله: { أَوَلَمْ يَرَ } يخرج على وجوه:
أحدها: أنِ اعْلَمُوا ورُوا: أن السماوات والأرض كانت كذا.
والثاني: لو تفكروا وتأملوا لعلموا أنهما كذا.
والثالث: على التنبيه: أن قد رأوا وعلموا أنهما كانتا كذا، كذلك هذا في كل ما ذكر من قوله:
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى ... } [الشعراء: 7] كذا، و { أَلَمْ تَرَ إِلَى... } [البقرة: 246] كذا، فهو كله يخرج على هذه الوجوه.
ثم يكون قوله: { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً } و { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } كل هذا كان في قوله: { أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } كأنه يقول: أولم يروا كذا ما جعلناهم من أنواع ما ذكر، ثم ذكر هذا لهم يكون لوجوه:
أحدها: أن يذكر نعمه عليهم حيث أخبر أن السماء والأرض كانتا رتقا ففتق منهما أرزاقهم، وذكرهم أنه جعل بالماء حياتهم، وجعل لهم الأرض بحيث تقر بأهلها وتسكن بهم، وجعلها مهاداً لهم وفراشاً بالجبال حتى قدروا على المقام بها والقرار، ثم قال: إنه جعل فيها فجاجاً وسبلا، ليصلوا إلى حوائجهم وشهواتهم ومنافعهم التي جعلت لهم في البلاد النائية، وذكرهم نعمه أيضاً في حفظ السماء عن أن تسقط عليهم على ما أخبر أنه يمسكها هو بقوله:
{ إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ } [فاطر: 41]، وذكرهم أيضاً نعمه فيما جعل لهم من الليل والنهار وفي الشمس والقمر من المنافع؛ يستأدى بذلك كله الشكر على ما أنعم عليهم.
أو أن يذكرهم بهذا قدرته وسلطانه: أن من قدر على فتق السماء من الأرض، وجعل حياة كل شيء من الماء، وإمساك السماء وحفظها عن أن تسقط بلا عمد، وما ذكر من خلق الليل والنهار، وقطع الشمس والقمر بيوم واحد مسيرة خمسمائة عام - أن من قدر على كل ما ذكر لقادر على بعثهم وإحيائهم بعد الموت وبعد ما صاروا تراباً.
أو أن يذكرهم غناه بذاته وملكه: أن من كان هذا سبيله فأنى تقع له الحاجة إلى اتخاذ الولد أو الشريك أو الصاحبة ردّاً على ما قالوا:
{ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } [البقرة: 116] و { أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً } [الأنبياء: 24] ونحوه، فبين فساد ذلك كله وبطلانه حيث قال: { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء: 22].
وقوله:
{ أَمِ ٱتَّخَذُوۤاْ آلِهَةً مِّنَ ٱلأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ } [الأنبياء: 21] ونحوه، يبين بهذا كله فساد ما ادعوا على الله أنه اتخذ كذا.
ثم اختلف في قوله: { كَانَتَا رَتْقاً }: قال بعضهم: فتق السماء بالمطر، والأرض بالنبات: فتق السماء، وهي أشد الأشياء وأصلبها بألين شيء وهو الماء، وكذلك الأرض فتقها بألين شيء وهو النبات مع شدتها وصلابتها، وهو ما ذكرنا من لطفه وقدرته.
وقال بعضهم: { كَانَتَا رَتْقاً } ملتزقتين، ففتقهما أي: جعل بينهما هواء مكانا لتخلق.
وقال بعضهم: كانت السماء واحدة والأرض كذلك، فجعل من السماء سبعاً ومن الأرض كذلك سبعاً، فكذلك فتقه إياهما، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ }.
قال بعضهم: الماء نطفة الرجال منه يخلق الخلائق.
وقال بعضهم: { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ } الذي خلق في الأرض، أو أنزل من السماء حياة كل شيء، يعلم حياة خلائق الأرض بهذا الماء، ولكن لا يعلم حياة أهل السماء بماذا؟ والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَجَعَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ }.
هذا يدل أن الأرض لم يكن من طبعها في الأصل التسفل والتسرب في الماء على ما قاله بعض الناس؛ لأنه لو كان طبعها التسفل والتسرب لكان الجبال تزيد التسفل في الماء والتسرب، فإذا لم يكن دل أن طبعها كان الاضطراب والزوال والتحرك والميد فأصلها: ليس التسفل والتسرب ولكن على ما ذكرنا فأثبتها بالجبال، وإن كنا نشاهد بعض أجزائها أنها تسفل وتسرب، وهذا كما نقول: إن بعض العالم متعلق ببعض وأنه لا يخلو عن مكان، وكل العالم لا تعلق له به ولا الأمكنة آخذة لها، فعلى ذلك الأرض.
أو أن كان طبعها التسفل والتسرب جعلها بحيث تقر وتسكن بشيء طبعه التسفل أيضاً باللطف.
وقوله - عز وجل -: { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً }.
قال بعضهم: الفجاج والسبل واحد، وهي الطرق التي جعلها في الجبال.
وقال بعضهم: الفجاج: السعة والفسحة، والسبل: الطرق.
وقال بعضهم: الفجاج: هي الطرق التي في الجبال، والسبل: هي التي في المفاوز.
وقوله - عز وجل -: { وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً }.
قال بعضهم: { مَّحْفُوظاً }، أي: محبوساً عن أن يسقط عليهم.
وقال بعضهم: محفوظاً من الشياطين، أي: صار محفوظاً منهم؛ حتى لا يستمعوا كلام الملائكة بعد ما كانوا يستمعون من قبل، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }.
قال بعضهم: الفلك: السماء.
وقال بعضهم: استدارة السماء.
وقيل: الفلك: المجرى والسرعة.
وقيل: الفلك: فلكة كفلكة المغزل وهو دورانه، وكذلك فلكة الطاحونة: هو ما يدور به الطاحونة، وهي الحديدة التي تدور بها الطاحونة، وقالوا: إن الفلك استدارة وكل شيء دار فهو فلك وهو ما ذكرنا.
وقوله - عز وجل -: { يَسْبَحُونَ }، قال بعضهم: يجرون.
وقال بعضهم: يسبحون: يعلمون، وكذلك روي في حرف عبد الله: (كل في فلك يعلمون).
وظاهر الآية: أن يكون هنالك بحر ونهر فيه يجري الشمس والقمر وفيه يغربان ومنه يطلعان؛ لأنه قال: { فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }، والسباحة هي المعروفة عند الناس، وهو ما يسبح المرء في بحر أو نهر، هذا ظاهر الآية، وعلى ذلك جاءت الأخبار؛ روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"خلق الله بحرا دون سماء الدنيا مقدار ثلاث فراسخ، فهو موج مكفوف قائم في الهواء بأمر الله تعالى، لا يقطر منه قطرة والبحور كلها ساكنة، وذلك البحر جار في سرعة السهم، ثم انطباقه في الهواء مستو كأنه حبل ممدود ما بين المشرق والمغرب، فتجري الشمس والقمر والخنس في ذلك البحر" ؛ فذلك قوله: { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } والخنس: هي التي تخنس بالنهار وتجري بالليل، والفلك: دوران العجلة، في لجة: غمرة ذلك البحر، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لو بدت الشمس من ذلك البحر، لحرقت كل شيء في الأرض حتى الصخور، ولو بدا القمر من ذلك البحر لافتتن به أهل الأرض كلها يعبدونه من دون الله إلا من عصمه الله" .
وفي بعض الأخبار: (الفلك: ماء مكفوف يجري فيه الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار)، ويقال: الشمس والقمر والليل والنهار كله دون السماء يدور به الفلك، ومثل هذا قد قيل فيه، والله أعلم.
وظاهر الآية في الخبر ما ذكرنا: أن الشمس والقمر هما اللذان يجريان ويسبحان في ذلك الماء.
وعلى تأويل بعضهم أنهما على حالهما لا يجريان، لكن الفلك هو يجري فيظهران ويبدوان في وقت ويختفيان في وقت آخر، ولو كانا هما اللذان يجريان لكانا على حالة واحدة ويظهران في الأحوال كلها، لكنا لا نعلم ذلك إلا بالخبر عن الله أنه كذلك، والله أعلم.