خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ٱلَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلْعَاكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
٢٥
وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ
٢٦
وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ
٢٧
لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ
٢٨
ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ
٢٩
-الحج

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } قوله: { كَفَرُواْ } هو خبر ماض، وقوله: { وَيَصُدُّونَ } خبر مستقبل، فنسق المستقبل على الماضي.
قال الزجاج: إن الكافرين والصادين عن سبيل الله { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ }.
وعندنا تأويله: أنّ الذين كفروا قبل أن يبعث محمدّ ويصدون الناس عن سبيل الله إذا بعث محمد.
ثم يحتمل قوله: { وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } أي: كانوا يمنعون المسلمين عن دخول المسجد الحرام للإسلام والسؤال عنه، والثاني: إخراجهم منه، كقوله:
{ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ } [البقرة: 217].
وقوله: { ٱلَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلْعَاكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ } ظاهر هذا أن يكون الذي جعل فيه العاكف والبادي سواء هو المسجد الحرام؛ لأنه قال: { جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً }، لكن أهل التأويل صرفوا ذلك إلى مكة، وقالوا: { سَوَآءً ٱلْعَاكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ } في النزول في المنازل، وظاهره ما ذكرنا.
ثم يحتمل أن يكون المسجد الحرام مخصوصاً بهذا ليس كسائر المساجد التي لها أهل: أن أهلها أحق بها من غيرهم، وأمّا المسجد الحرام فإن الناس شَرَعٌ، سواء العاكف فيه والبادي.
ويحتمل أنه [خص] المسجد الحرام بأن الناس [سواء] فيه؛ ليعلموا أن الحكم في سائر المساجد كذلك: أن الناس فيها سواء أهلها وغير أهلها، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } قال بعضهم: الإلحاد فيه: هو الشرك والكفر.
وقال [بعضهم]: الإلحاد: هو كل المعاصي، وأصل الإلحاد: هو العدول والميل عن الطريق. وتأويله: ومن يلحد فيه إلحاد ظلم نذقه كذا.
قال بعضهم: من هَمَّ فيه بإلحاد بظلم نذقه كذا.
ثم يحتمل تخصيص ذلك المكان بما ذكر وجوهاً:
أحدها: ليعلموا أن كثرة الخيرات وتضاعفها مما لا يعمل في إسقاط المساوئ فيه وهدمها؛ لما روي:
"أن صلاة واحدة بمكة تعدل كذا وكذا صلاة في غيرها من الأماكن" ، وكذلك حسنة فيها.
والثاني: خصت بالذكر فيه على التغليظ والتشديد، على ما خصّت تلك البقعة بتضاعف الحسنات.
والثالث: أن أولئك ادّعوا أنهم أولى بالله من غيرهم؛ لنزولهم ذلك المكان، فأخبر أن من يرد فيه بكذا نذقه، ليس تخصيص ذلك المكان بما ذكر، والعفو في غيره، ولكن بما ذكرنا.
وقال بعضهم: معناه: من يرد فيه إلحادا بظلم، والباء زائدة، ومثله قوله:
"تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ" [المؤمنون: 20] معناه: تنبت الدهن. روي بالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "احْتكارُ الطعام بمكةَ إلحْاد" ، وكذلك روي عن عمر وابن عمر.
وجائز أن يكون ما ذكرنا من التغليظ والتشديد وتضاعف العقوبة؛ ولذلك كره قوم الجوار بمكة لما يتضاعف عليهم العقوبة إذا ارتكب فيه مأثماً وألحد فيه، وجائز ما ذكرنا.
وقد كره قوم بيع رباع مكة وإجارتها بقوله: { سَوَآءً ٱلْعَاكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ }، وعلى ذلك رويت الأخبار بالنهي عن ذلك، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"مكة مناخ، لا يباع رباعها، ولا يؤاجر بيوتها" .
[و] عن عمر - رضي الله عنه -: "يا أهل مكة، لا تتخذوا لدوركم أبواباً؛ ليرد البادي حيث شاء" ونهاهم أن يغلقوا أبواب دورهم.
وليس في ظاهر الآية ذكر مكة؛ إن في الآية ذكر المسجد، حيث قال: { وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ٱلَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلْعَاكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ }، وإنما ذكر ذلك في المسجد الحرام خاصّة.
وقال أبو حنيفة -رحمه الله -: أكره إجازة بيوت مكة في الموسم من الحاج والمعتمر، فأما المقيم والمجاور فلا نرى بأخذ ذلك منهم بأساً. وهو قول محمد.
وقوله - عز وجل -: { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ } قال بعضهم: { بَوَّأْنَا }، أي: هيأنا { مَكَانَ ٱلْبَيْتِ }؛ لينزل فيه، والبيتوتة: الإنزال، كأنه قال: { بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ }، أي: أنزلناه مكان البيت؛ ليتخذ فيه بيتاً، وقلنا له: لا تشرك بي شيئاً، وهكذا بعث الأنبياء جميعاً، بعثوا ألا يشركوا بالله، وأمروا أن يدعو الناس إلى ترك الإشراك بالله تعالى.
وقوله - عز وجل -: { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ } وادع الناس أيضاً إلى ألا يشركوا بالله شيئاً.
ثم يحتمل قوله: { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ } ومن ذكر، أي: طهره من الأصنام والأوثان التي فيه لئلا يعبد غيره.
وجائز أن يكون قوله: { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } عن جميع الخبائث، وعن كل أنواع الأذى من الخصومات، والبياعات، وغيرها، وذلك للمسجد الحرام ولغيره من المساجد يطهر ويجنب جميع أنواع الأذى والخبث والفحش.
وقوله - عز وجل -: { لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } قال أهل التأويل: { لِلطَّآئِفِينَ } هم القادمون من البلدان { وَٱلْقَآئِمِينَ }: المقيمين هناك { وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ }: المصلين.
ويحتمل قوله: { لِلطَّآئِفِينَ }: لكل طائف به، { وَٱلْقَآئِمِينَ }،
{ وَٱلْعَاكِفِينَ } [البقرة: 125]: لكل عاكف نحوه، والعكوف هو المقام للعبادة، { وَٱلْقَآئِمِينَ }: لكل قائم عاكف نحوه، { وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } وساجد نحوه، أي: لكل مصلٍّ، وهذا أشبه، والله أعلم.
وقوله: { وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ } يحتمل وجهين:
أحدهما: على الإعلام: أن أعلم الناس: أن لله عليهم الحج بالبيت، كقوله:
{ وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ... } الآية [آل عمران: 97].
والثاني: { وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ } أي: ادع الناس ونادهم أن يحجوا البيت.
قال أهل التأويل: لما أمر الله إبراهيم ينادي في الناس بالحج، فنادى، فأسمع الله صوته ما بين المشرق والمغرب، حتى أسمع صوته ونداءه من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فقالوا: (لبيك)، ومن حج بيته فهو الذي أجاب إبراهيم لما ناداهم بالحج.
لكن لا يعلم ذلك إلا بالخبر عن رسول الله أنه كان ما ذكروا، وإلا السكوت عنه وعن مثله أولى.
وقالوا: إن قوله: { وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ } موصول بقوله: { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ... } الآية.
وجائز أن يكون قوله: { وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ } لرسول الله، أو لكل رسول بعث الأمر بذلك في كل زمان، والله أعلم بذلك.
وقوله: { يَأْتُوكَ رِجَالاً } أي: على الأرجل مشاة { وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ }، أي: يضمر ويذهب سمنه؛ لبعد المضرب، وهو ما ذكر: { يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ } أي: من كل بعيد.
ثم قوله: { وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ } على الدعاء والأمر، فيكون في قوله: { يَأْتُوكَ رِجَالاً } دلالة لزوم الحج على المشاة، كأنه قال: مرهم يحجّون مشاة على الأرجل وركبانا، وإن كان على الإعلام فهو على الوعد والجزاء: أنهم يأتونك على الأرجل مشاة وعلى الدّواب.
وقوله - عز وجل -: { يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ } أضاف الإتيان إلى الدّواب؛ لأنه بالدواب يأتون، فأضاف إليها ذلك، والله أعلم.
وقال أبو عوسجة:
{ يُحَلَّوْنَ فِيهَا } [الحج: 23] من الحلي من الذهب والفضة، تقول: حليت المرأة، أي: اتخذت حليا، ويقال: حلي الشيء يحلى حلًى؛ إذا حسن، ويقال: بعينه إذا حسن في عينه، ويقال: حلى الشيء يحلو حلاوة فهو حلو، ويقال: تحليت، إن شئت جعلته أكلت حلاوته، وإن شئت جعلته من الحلي، ويقال: حلأت الإبل عن الماء، أي: منعت، ويقال: حليت الشيء وأحليته، أي: جعلته حلواً.
وقال القتبي: { سَوَآءً ٱلْعَاكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ } أي: المقيم، والبادي - وهو الطارئ من البدو - سواء فيه ليس المقيم فيه بأولى من النازح إليه.
{ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ } أي: من يرد فيه إلحادا، وهو الظلم والميل عن الحق، فزيدت الباء، كما يقال:
{ تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ } [المؤمنون: 20]، وهو ما ذكرنا.
وقوله: { وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ }، أي ركبانا على ضمر من طول السفر { مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ } أي: بعيد غامض.
وقال أبو عوسجة: { ٱلْعَاكِفُ }: المقيم، { وَٱلْبَادِ }: من كان في البادية، والإلحاد: الميل عن الحق، ومنه اشتق اللحد، لحد القبر.
{ وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ }، أي: على كل بعير ضامر، أي: خميص البطن.
{ يَأْتُوكَ رِجَالاً } تقول: رجل الرجل يرجل رجلة، فهو راجل، والفج: الطريق، [و] العميق: البعيد، يقال: عمق، أي: بعد، يعمق عمقا، فهو عميق.
وقوله - عز وجل -: { لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ }، قال الحسن: يشهدون مشاهد فيه، فيذكرون الله فيها ويكتسبون أشياء تنفع لهم في الآخرة، فذلك منافع لهم التي يشهدونها.
وقال غيره من أهل التأويل: { مَنَافِعَ لَهُمْ }: التجارات والمنافع التي كانوا يكتسبونها إذا خرجوا للحج.
وقال بعضهم: التجارة في الدّنيا، والأجر في الآخرة، وهو مثل الأوّل.
وجائز أن يكون قوله: { لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ }: الأرزاق التي جعلت لهم في البلدان النائية البعيدة ما لو لم يشهدوها لم يسق الله ذلك إليهم؛ لأن من الأرزاق التي جعلت لهم في البلدان ما يساق إلى أهلها وهم في مقامهم وأمكنتهم، [و] من الأرزاق ما يساق أهلها إليها ما لو لم يأتوها لم يسق ذلك إليهم، فجائز ما ذكر من المنافع: هو ما غاب عنهم من المنافع والأرزاق التي جعلت لهم في البلدان النائية البعيدة إذا خرجوا للحج نالوها، وإذا لم يخرجوا له لم ينالوا.
وقال بعضهم: { لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ } أي: متاجرهم وقضاء مناسكهم.
وقوله: { وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ } اختلف فيه:
قال الحسن: هو يوم النحر خاصّة. وجائز إضافة الواحد إلى الجماعة، كقوله:
{ وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً } [نوح: 16] وإنما جعل في السماء الدنيا، وكما يقال: (توارى فلان في دور بني تميم)، وإنما توارى في دار من دورهم، ومثل هذا كثير، وذلك جائز في اللسان.
وقال بعضهم: الأيام المعلومات: هو يوم النحر ويومان بعده.
وقال بعضهم: المعلومات والمعدودات هي أيام التشريق جميعاً.
وقال بعضهم: الأيام المعلومات: هي أيام العشر؛ لأنها هي أيام الذكر فيها.
وجائز أن يكون قوله: { وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ } كناية عن الذبح، وأيام الذبح ثلاثة: يوم النحر ويومان بعده؛ ألا ترى أنه قال: { عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا } ذكر الأكل ولم يذكر الذبح، فذلك يدل على أن قوله: { وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ } كناية عن الذبح، وإنما كان كناية عنه؛ لأنه بالذكر يقدم الذبائح ولا يخلو منه دونه، والله أعلم.
وقوله: { فَكُلُواْ مِنْهَا }:
قال بعضهم: من الأضاحي؛ لأن التناول من الأضاحي كان لا يحل فخرج ذلك مخرج رخصة التناول منها والحل، لكن الأضاحي لا يحتمل؛ لأن الوقت ليس هو وقت الأضاحي ولا أماكنها، إنما هو وقت دم المتعة والقران ودم التطوع. وفيه إباحة التناول من دم المتعة والقران.
وقوله - عز وجل -: { وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ }: قال بعضهم: البائس: من البؤس، وهو ما اشتد به من الحاجة والشدة.
وقال بعضهم: البائس: الذي سألك، والفقير: المتعفف الذي لا شيء له.
وقال بعضهم: البائس: هو الذي به زمانة، والفقير: الصحيح الذي لا شيء له، وهو مثل الاوّل.
وقوله: { ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ }: قال بعض أهل الأدب: التفث: لا يعرف في لسان العرب ما يراد به.
وقال الحسن: التفث: هو التقشف، وهو ترك الزينة، يدل على ذلك ما روي أنه سئل عن الحاج، فقال: "كُل أشْعَث تفِل".
وقال أبو عوسجة: التفث في الأصل: الوسخ، يقال: امرأة تفثة: إذا كانت خبيثة الريح، وهو قريب مما قال الحسن: إنه ترك الزينة.
وأهل التأويل يقولون: التفث: هو حلق الرأس، وقصّ الأظفار والشارب، والرمي، والذبح، ونحوه.
وقال بعضهم: { ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ }: المناسك كلها.
وروي في الخبر:
"من وقف من عرفة بليل، وصلى معنا الجمع، فقد تم حجّه وقضى تفثه" ، ظاهر "قضى تفثه"، أي: نسكه.
وجائز أن يكون قوله: "قضى تفثه" أي: جاء وقت الزينة، وهو وقت الحلق واللباس، والله أعلم.
وقوله: { وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ }، أي: ليوفوا ذبح ما أوجبوا ذبحه، ذكر فيما ساق من الهدي لمتعته ولحجته الأكل منه؛ لقوله: { فَكُلُواْ مِنْهَا }، ولم يذكر الأكل ممّا أوجب بالنذر؛ فلذلك يقول أصحابنا: إنه يجوز له التناول من هدي المتعة والقران، ولا يجوز التناول مما كان وجوبه بالنذر والكفارة، بل عليه أن يتصدق بالكل، وهو ما قال:
{ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [البقرة: 196]، والله أعلم.
{ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } هو طواف الزيارة، وهو طواف يوم النحر، وهو الفرض عندنا، ولا يحتمل ما قال بعض الناس: إنه طواف الصدر؛ لأن الله تعالى قال:
{ وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } [آل عمران: 97] وحج البيت هو الطواف بالبيت لا غير، وطواف الدخول وطواف الصدر ليس على أهل مكة ذلك الطوافان، وعليهم الحج كما كان على غيرهم من النّاس؛ فدل ما ذكرنا على أن قوله: { وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } هو طواف الزيارة، وهو حج البيت الذي قال الله: { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } [آل عمران: 97].
وقوله: { بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } قال بعضهم: سماه: عتيقاً؛ لأنه أعتقه عن الجبابرة عن أن يتجبروا عليه، وكم من جبار قد صار إليه ليهدمه فمنعه الله عن ذلك.
وقال بعضهم: سماه: عتيقاً؛ لأنه يرفع إلى السماء الرابعة، فذلك المرفوع هو البيت العتيق. والبيت العتيق - عندنا - هو الذي بناه إبراهيم - صلوات الله عليه - وأسسه، ويكون قوله: { وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } الذي أسّسه إبراهيم، لا بالبيت الحادث الذي أحدثه النّاس؛ ألا ترى أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال لعائشة:
"لولا أنَّ قومك حَديثُو عَهْد بالإسْلام لرددت البيت على أساس إبراهيم، وجَعَلتُ لَهُ بابين: باباً يدخل فيه، وباباً يخرج منه" ، وروي في بعض الأخبار يرويه عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه لم يظهر عليه جبّار" فإن ثبت هذا فهو هو.