خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ ٱلْخَلْقِ غَافِلِينَ
١٧
وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّٰهُ فِي ٱلأَرْضِ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَٰدِرُونَ
١٨
فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
١٩
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ
٢٠
وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
٢١
وَعَلَيْهَا وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
٢٢
-المؤمنون

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ }.
قال بعضهم: سبع سماوات.
وقال بعضهم: سبعة أفلاك.
يذكر هذا - والله أعلم - أيهما كان السماوات أو الأفلاك التي جعل لأمر الخلق ولحوائجهم؛ لوجهين:
أحدهما: يخبر عن قدرته وسلطانه وغناه: أن من قدر على خلق ما ذكر وإنشائه بلا سبب، لقادر على إنشاء الخلق لا من شيء.
والثاني: أن من قدر على هذا يقدر على بعثهم وإحيائهم بعد الموت.
قال القتبي: سبع طرائق، أي سبع سماوات: كل سماء طريقة، ويقال عن الأفلاك: كل واحد طريق.
وإنما سمي طرائق؛ لأن بعضها فوق بعض، يقال: طارقت الشيء؛ إذا جعلت بعضه على بعض. ويقال: وبشر طرائق.
وغيره قال: طرائق أهواء مختلفة.
وقوله: { وَمَا كُنَّا عَنِ ٱلْخَلْقِ غَافِلِينَ }.
أي: لم نخلقهم على جهل منا بأحوالهم؛ ولكن على علم منا بذلك.
ولا يحتمل أن يكون خلقه إياهم على علم منه، ثم يخلقهم للفناء لا لعاقبة تتأمل؛ لأن من يفعل هذا في الشاهد إنما يفعل إما للجهل به أو لحاجة، والله يتعالى عن ذلك كله.
أو أن يكون قوله: { وَمَا كُنَّا عَنِ ٱلْخَلْقِ غَافِلِينَ }: خلق ما ذكر، أي: إذا عرفتم أن خلق هذه الأشياء لا لأنفسها، ولكن لأنفسكم ولمنافعكم، فلا يحتمل أن يكون خلقها لكم بلا محنة ولا ابتلاء، فإن ثبت المحنة فيكم ثبت الثواب والعقاب؛ فإن ثبت هذا ثبت البعث والحياة، والله أعلم.
وقوله: { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ }.
قال بعضهم: بقدر: بعلم منّا.
وقال بعضهم: ما يقع لهم الحاجة والكفاية.
وجائز أن يكون قوله: { بِقَدَرٍ }، أي: معلوم مقدر، لا يتقدم ولا يتأخر، ولا يزداد ولا ينتقص، ولكن على ما قدر، وكذلك جميع الأشياء.
وقوله: { فَأَسْكَنَّٰهُ فِي ٱلأَرْضِ }.
يذكر هذا ويخبر عن قدرته وسلطانه: أن من قدر على استنزال الماء من السماء يقدر على البعث وعلى خلق الشيء لا من شيء؛ إذ لا أحد من الخلائق يقدر على ذلك إلا بالحيل التي علّمه الله.
أو أن يكون يقول: إنه حيث جعل منافع الأرض متصلة بمنافع السماء، ومنافع السماء [متصلة] بمنافع الأرض؛ [على] بعد ما بينهما، دل اتصال منافع أحدهما بالآخر، [مع] بعد ما بينهما على أن منشئهما واحد، ومدبّرهما واحد عالم بذاته.
وقوله: { وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَٰدِرُونَ }.
كقوله:
{ أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً... } الآية [الكهف: 41].
وقوله: { فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ }.
أي: بالماء.
{ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ }.
أي: الكروم؛ يذكر نعمة الله [التي] أنعمها عليهم من الماء الذي به حياة الأبدان والأشياء جميعاً؛ ليتأدى به شكره وعبادته.
وقوله: { فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ }.
إن كان قوله: { لَّكُمْ فِيهَا }، أي: في الجنات؛ حيث ذكر أنه أنشأ لنا فواكه كثيرة؛ ففيه حجة لأبي حنيفة -رحمه الله - أن من حلف ألا يأكل فاكهة، فأكل عنبا - لم يحنث؛ حيث ذكر النخيل والأعناب، وذكر فيها الفواكه على حدة.
وإن كان يعني به النخيل والأعناب، فليس فيه حجة له.
وقوله: { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ }.
أي: أنشأنا لكم - أيضاً - شجرة في طور سيناء، ثم الشجرة التي تكون في الجبال لا صنع للخلق في إنباتها، وما يكون في الجنان والبساتين إنما يكون بإنبات الخلق، ثم أضاف كليهما: ما يكون للخلق فيه صنع وما لا يكون؛ دل إضافة ذلك إليه كله على أن لله في فعل العباد صنعا، وأن جميع ما يكون إنما يكون بصنع منه ولطف، ويذكرهم نعمه التي أنعمها عليهم: من إنشاء الجنان لهم، والنخيل والأعناب والفواكه التي ذكر ليتأدى بذلك شكره.
وفيه دلالة قدرته وسلطانه؛ حيث أنشأ الشجرة، وأخرجها من الجبل، وهو أشد الأشياء وأصلبها، [وجعل] في تلك الشجرة الدهن، وهو ألين الأشياء وألطفها؛ فيخبر أن من قدر على إخراج ألين الأشياء من أشدها وأصلبها لا يعجزه شيء.
وفيه أن لا بأس بقران شيء إلى شيء، فهو كان جميعاً وضم بعضهم بعضه إلى بعض، ويجمع في الأكل حيث قال: { تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ } هو الإدام.
ثم اختلف في قوله: { طُورِ سَيْنَآءَ }:
قال بعضهم: الطور: الجبل، بالسريانية، والسيناء: الحسن، بالحبشية.
وقال بعضهم: الطور: الجبل وما ذكر، والسيناء: الشجرة الحسناء.
وقال بعضهم: الطور: هو الجبل الذي كلم الله موسى وأوحى إليه، والشجرة: هي شجرة الزيتونة.
وقال بعضهم: السيناء: الحجارة. وقال بعضهم: الطور: السيناء المبارك بما أوحى على موسى.
وقال بعضهم: الطور: الجبل، والسيناء: شجر حوله.
وفي حرف ابن مسعود وحفصة: (وشجرة تخرج من طور سيناء تخرج الدهنَ وصِبْغَ الآكلين).
قال بعضهم: تخرج الثمر.
قال أبو معاذ: أنبت النبات ونبت: لغتان؛ كقولك: أسرى وسرى.
وقال زهير: حتى إذا أنبت البقل.
قال الكسائي: تقول: خرجت بزيد وأخرجت زيداً، ولا تقول: أخرجت بزيد، إلا أن تقول: أخرجت بزيد عمرا.
وقال القتبي: { وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ } مثل الصباغ كما يقال: دبغ دباغاً، ولبس لباساً.
وقال أبو عوسجة: { وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ }، أي: الصباغ، وهو ما اصطبغت به من شيء، أي: غمرته فيه.
وقوله: { وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا }.
في سورة النحل
{ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [النحل: 66] قال بعضهم: إنما ذكره على الفرد والوحدان، وفيما ذكره على التأنيث على الجمع.
وقال بعضهم: فيما ذكره بالتذكير أراد به جنساً من الأنعام مما في بطونه، وهذا أشبه، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.
ثم قوله: { وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً } وجه العبرة فيها من وجوه:
أحدها: ما قال ابن عباس، وهو ما ذكر - عز وجل -:
{ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ... } الآية [النحل: 66]؛ ففي ذلك عبرة ودلالة على وحدانيته وربوبيته وعلمه وقدرته وتدبيره ولطفه؛ إذ ليس شيء منها إلا وفيها دلالة وحدانيته وربوبيته، ودلالة علمه وقدرته وتدبيره.
وفيه أنه لم ينشئ هذه الأنعام لأنفسها، ولكن أنشأها للبشر؛ حيث أخبر أنه سخرها لهم؛ ليمتحنهم بها.
ثم اختلف في الأنعام:
قال مقاتل: الأنعام: كل شيء يؤكل لحمه ويشرب لبنه، وما لا يؤكل لحمه ولا يشرب لبنه - فليس من الأنعام.
وقال أبو معاذ: إن من الأنعام ما لا يؤكل لحمه ولا يشرب لبنه.
وقال بعضهم: الأنعام: كل بهيمة حتى الوحش.
والأشبه أن تكون الأنعام هي الإبل، ولكنا لا نعلم حقيقته؛ إنما هو اللسان، فهو على ما يسميه أهل اللسان.
وقوله: { وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ }.
قيل: من الحمولة وغيرها، وقد ذكرنا هذا في سورة النحل.
وقوله: { وَعَلَيْهَا وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ }.
يذكرهم نعمه فيما سخر لهم من الأنعام والسّفن؛ ليتأدى به شكره.