خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
٤٥
إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ
٤٦
فَقَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ
٤٧
فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ ٱلْمُهْلَكِينَ
٤٨
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
٤٩
وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ
٥٠
يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
٥١
وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱتَّقُونِ
٥٢
فَتَقَطَّعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ
٥٣
-المؤمنون

تأويلات أهل السنة

[قوله:] { ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ }.
قد ذكرناه.
{ فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ }.
كقوله:
{ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي ٱلأَرْضِ } [القصص: 4].
وقال بعضهم: متكبرين ومتجبرين.
قال أبو عوسجة: هو من العلوّ، ليس من التعالي، والتعالي لا يوصف به الخلق.
قال القتبي: { تَتْرَا }، أي: تتابع بفترة بين كل رسولين، وهو من التواتر، والأصل: (وترى)، فقلبت الواو تاء؛ كما قلبوها في (التقوى) و (التخمة) و (التكلان).
وقال أبو عوسجة: { تَتْرَا } بعضهم على أثر بعضهم، وهو من المتابعة.
وفي قوله: { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا } دلالة أن أهل الفترة، ومن كان فيما بين بعث الرسل - لا عذر لهم في شيء؛ لإبقاء الحجج والبراهين قبل أن يبعث آخر وحسن آثارهم وأعلامهم - أعني: آثار الرسل وأعلامهم - أخبر أنه أرسل الرسل تباعاً: بعضاً على [إثر] بعض، وإن كان بين بعثهم فترة؛ لما أبقى الحجج والبراهين وآثار الرسل وأعمالهم، والله أعلم.
وقوله: { فَقَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ }.
قال بعضهم: تعجب: نرفعهم بعد ما كنا غالبين عليهم؟!! نجعلهم غالبين علينا وكانوا لنا عابدين؟! أي: نرفعهم فوقنا ونكون تحتهم، ونحن اليوم فوقهم وهم تحتنا، كيف نصنع ذلك؟! وذلك - والله أعلم - حين أتوهما بالرسالة.
{ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ ٱلْمُهْلَكِينَ }:
صاروا من المهلكين بالتكذيب.
وقوله: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ }.
يشبه أن يكون حرف (لعل) لموسى، أي: آتينا موسى الكتاب؛ لعلهم يهتدون عنده، و (لعل) حرف رجاء وترج؛ لكن يستعمل مرة: على الإيجاب والإلزام، ومرة: على النهي؛ كقوله:
{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ } [الشعراء: 3]، أي: لا تبخع نفسك، وقوله: { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ } [هود: 12] أي: لا تترك بعض ما يوحى إليك، وذلك جار في اللغة؛ يقول الرجل لآخر: لعلك تفعل كذا، أي: لا تفعل، ونحوه، [و] (لعل) من الله يحتمل الإيجاب والإلزام والنهي، ومن الخلق: [يحمل] على النهي والترجي، والله أعلم.
وقوله: { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً }.
خص - عز وجل - عيسى وأمه بأن جعلهما آية، وجميع البشر في معنى الآية واحد؛ إذ خلقوا جميعاً من نطفة، ثم حولت النطفة علقة، والعلقة مضغة، إلى آخر ما ينتهي إليه؛ فيصير إنساناً؛ فالآية والأعجوبة في خلق الإنسان من النطفة ومما ذكرنا إن لم تكن أكثر وأعظم لم تكن دون خلقه بلا أب ولا زوج وما ذكر، لكنه خصّهما بذكر الآية فيهما؛ لخروجهما عن الأمر المعتاد في الخلق، والعادة الظاهرة فيهم أن يخلقوا من النطفة والأب والتزاوج [والأسباب التي] جعلت للتوالد والتناسل الذي تجري فيما بينهم والأسباب التي جعل للتوالد في الخلق؛ لخروجهما عن الأمر المعتاد والعادة الظاهرة خصّهما بذكر الآية والأعجوبة في خلق البشر من النطفة، وما ذكر إن لم يكن أكثر وأعظم لم يكن دونه، وهو كما خصّ بني إسرائيل بالخطاب بالشكر؛ لما أنعم عليهم من المن والسلوى، ولما أنجاهم من آل فرعون بقوله:
{ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } [إبراهيم: 6]، وقال: { يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِي ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ } [البقرة: 47]، وقد كان عليهم من النعم ما هو أعظم وأكثر مما ذكر من المنّ والسلوى ونجاتهم من فرعون وآله، لكنه خصّهم بذكر المنّ والسلوى واستأدى منهم الشكر بذلك من بين سائر النعم؛ لأنها خرجت عن المعتاد من النعم المعروفة، وهم كانوا مخصوصين بهذا من بين غيرهم؛ فعلى ذلك عيسى وأمه: كانا خارجين عن الأمر المعتاد ومخصوصين بذلك؛ لذلك خصّهما بذكر الآية، والآية ما ذكر بعض أهل التأويل أنه خلق من غير أب، ولدته أمه من غير فعل أمثالها.
وقال بعضهم: الآية في عيسى: بأن كلم الناس في المهد صبيّاً، ونحوه: من إبراء الأكمه، والأبرص، وإحياء الموتى، ومثله.
وقوله: { وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ }.
ذكر أنه آواهما إلى ربوة كما يؤوي الأب والأم الولد إلى مكان يتعيش به؛ إذ الربوة هي مكان التعيش فيه؛ ألا ترى أنه ذكر { ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } هو المكان الذي يستقر فيه ويتعيش.
وقوله: { وَمَعِينٍ }، المعين: هو الماء الجاري الظاهر الذي تأخذه العيون، وتقع عليه الأبصار.
وقوله: { يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً }.
قال عامة أهل التأويل: إنما خاطب بهذا محمداً خاصّة، على ما يخاطب هو، والمراد منه: جميع أمته في ذلك.
ولكن جائز أن يقال: خاطب به جميع الرسل؛ لأنهم جميعاً مخاطبون بهذا كله: من أكل الطيبات، والعمل الصالح، هذا الخطاب فيه وفي غيرهم؛ إذ عمهم جميعاً بهذا.
ثم الطيبات يحتمل أن يراد بها الحلالات؛ كأنه قال: كلوا حلالا غير حرام؛ ألا ترى أنه قال: { وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً }، أي: اعملوا صالحاً، ولا تعملوا سيئاً؛ فعلى ذلك قوله: { كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَاتِ }، أي: كلوا حلالا ولا تأكلوا حراماً: ما خبث.
وفيه أنهم يمتحنون كما يمتحن غيرهم بالأمر والنهي.
ويحتمل - أيضاً - قوله: { كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَاتِ }: ما طابت به أنفسكم وتلذذت، فإن كان على هذا فهو يخرج على الإباحة والرخصة، ليس على الأمر، معناه: لكم أن تأكلوا ما تطيب به أنفسكم، ولكم أن تؤثروا غيركم به على أنفسكم.
وإن كان على الأمر فهو على الأمر يخرج والنهي، والله أعلم.
وقوله: { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }.
ظاهر، وهو وعيد.
وقوله: { وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً }.
جائز أن يكون قوله: { وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً }: في الكتب المتقدمة، وعلى لسان الرسل السالفة؛ كقوله:
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران: 110]، أي: كنتم خير أمة في الكتب المتقدمة وفي الأمم الماضية؛ فعلى ذلك هذا.
وقال بعضهم: قوله: { وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً }، أي: دينكم دين واحد، وملتكم ملة واحدة، وهي الإسلام.
وقال بعضهم: لسانكم لسان واحد.
وجائز أن يكون قوله: { أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً }: لا تختلفون في رسولكم إلى يوم القيامة، كما اختلف الأمم الذين من قبلكم في رسلهم؛ بل تجعلوا رسولكم رسولا على ما هو عليه، وأما سائر الأمم فإنهم قد فرطوا فيهم؛ حتى كان فيهم [من] جعل الرسول ابناً له؛ كقوله:
{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ } [التوبة: 30]، والنصارى، وأما هؤلاء فإنهم لا يزالون على أمر واحد، والله أعلم.
وقوله: { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱتَّقُونِ }، وقال في آية أخرى:
{ فَٱعْبُدُونِ } [الأنبياء: 25]: جائز أن يكونا واحداً، وجائز أن يكون قوله: { فَٱتَّقُونِ } أي: مخالفتي، { فَٱعْبُدُونِ }، أي: اعبدوني وأطيعوني.
وقوله: { فَتَقَطَّعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً }.
قال بعضهم: { فَتَقَطَّعُوۤاْ أَمْرَهُمْ } و (قطعوا) واحد، وهما لغتان؛ [نحو]: تفرقوا وفرقوا.
{ زُبُراً }: برفع الباء، وزبرا بنصب الباء، قال أبو معاذ: من قرأ بالنصب: { زُبُراً }؛ فمعناه: قطعا؛ كقوله:
{ آتُونِي زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ } [الكهف: 96]، و { زُبُراً } بالرفع، أي: كتبا؛ كقوله: { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ } [الأنعام: 91]، وقوله: { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ } [البقرة: 79]، ونحوه.
وقال في حرف ابن مسعود وأبي: (وقطعوا الزبور بينهم).
قال أبو معاذ: (قطعوا) و (تقطعوا): لغتان؛ كَقيلِك: علقت الشيء وتعلقته، وحولت وتحولت، ووليت وتوليت، ونحوه كثير.
[وقوله:] { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }.
راضون أو مسرورون بما لديهم من الدين، أو ما ذكرنا.