خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَـٰذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ
٦٣
حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِٱلْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ
٦٤
لاَ تَجْأَرُواْ ٱلْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ
٦٥
قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ
٦٦
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ
٦٧
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ ٱلأَوَّلِينَ
٦٨
أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ
٦٩
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَآءَهُمْ بِٱلْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ
٧٠
وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ
٧١
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ
٧٢
-المؤمنون

تأويلات أهل السنة

قوله: { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَـٰذَا }.
قيل: في عماية وجهالة وغفلة، { مِّنْ هَـٰذَا }: من الكتاب الذي فيه أعمالهم، وأحصى عليهم. وقال قائلون في قوله: { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَـٰذَا }: أي: من هذا القرآن الذي ينطق بالحق، أي: قلوبهم في عماية وغفلة من هذا القرآن.
وجائز أن يكون قوله: { مِّنْ هَـٰذَا } من الأعمال التي ذكر للمؤمنين فيما تقدم: من ذلك قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ * وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ... } إلى آخر ما ذكر من أعمالهم، فأخبر أن قلوب أولئك الكفرة في غفلة وعماية من الأعمال التي عملها المؤمنون، والله أعلم.
وقوله: { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ }.
اختلف فيه: قال بعضهم: { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذٰلِكَ }، أي: من دون ما عمل أولئك الكفرة من الأعمال التي تقدم ذكرها: من قوله: { فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي ٱلْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ * إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ } على ما ذكر، ثم أخبر أن لهم أعمالا دون ما ذكر.
وقال قائلون: { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ }، يعني: المؤمنين الذين ذكر أعمالهم، أي: لهم أعمال دون الذي ذكر لهم دون تلك الأعمال.
وقوله: { حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِٱلْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ }.
قال أهل التأويل: ذلك في العذاب الذي أخذ أهل مكة في الدنيا من الجوع الذي نزل بهم حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة ونحوه.
لكن الأشبه أن يكون ذلك في عذاب الآخرة؛ ألا ترى أنه يقول: { إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ } أي: يتضرعون.
ويقول أيضاً: { قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ } فإنما يخبر: أن كنتم تفعلون كذا في الدنيا، ويذكر: { إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ }؛ فلا يحتمل أن يتضرعوا إليه في الدنيا، ثم لا يقبل منهم ذلك التضرع، أو ينهاهم عن التضرع بقوله: { لاَ تَجْأَرُواْ ٱلْيَوْمَ }؛ فدل ذلك أنه في الآخرة، وهو ما ذكر:
{ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا... } الآية [غافر: 84]؛ مثل هذا يكون في الآخرة، وفي الدنيا ما ذكر: { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِٱلْعَذَابِ فَمَا ٱسْتَكَانُواْ لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } [المؤمنون: 76]: ذكر في عذاب الدنيا أنهم لم يتضرعوا في الدنيا عند نزول العذاب بهم، [و] لا يقبل منهم التضرع والاستكانة؛ دل ذلك أنه ما ذكرنا؛ ألا ترى أنه قال:
{ لاَ تَجْأَرُواْ ٱلْيَوْمَ }.
نهاهم عن التضرع، ولا يحتمل النهي عن ذلك.
وقوله: { إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ }.
أي: لا تمنعون من عذابه.
وقوله: { قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ }.
قوله: { عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ } ترجعون على التمثيل، ليس على التحقيق؛ لأنهم إذا رجعوا على الأعقاب صار ما كان أمامهم وراءهم؛ فكأنهم نبذوا ذلك وراء ظهورهم.
أو أن يكون المنقلب على الأعقاب كالمكب على الوجه، والمكب على وجهه مذموم عند جميع من رآه وعاينه؛ لهذا شبه به وضرب مثله به، والله أعلم.
وقوله: { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ }.
قال عامة أهل التأويل: قوله: { بِهِ }، أي: بالبيت.
ووجه هذا: أنهم لما رأوا أنفسهم آمنين بمقامهم عند البيت وفي حرم الله، وأهل سائر البقاع في خوف - ظنوا أن ذلك لهم؛ لفضل كرامتهم ومنزلتهم عند الله؛ فحملهم ذلك على الاستكبار على رسول الله ومن تابعه.
وقال بعضهم: { مُسْتَكْبِرِينَ }، أي: بالقرآن وتأويله، أي: استكبروا على الله ورسوله لما نزل القرآن، وإضافة الاستكبار إلى القرآن؛ لأنهم بنزوله تكبروا على الله؛ فأضاف استكبارهم إليه؛ لأنه كان سبب تكبرهم، وهو كقوله:
{ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ ... فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ ... } الآية [التوبة: 124-125]: أضاف زيادة رجسهم إلى السورة؛ لما بها يزداد رجسهم وكانت سبب رجسهم، وإن كانت لا تزيد رجساً في الحقيقة.
وقوله: { سَامِراً تَهْجُرُونَ }.
قال الزجاج: السامر: هو ظل القمر، فيه كانوا يهجرون، والسمر: هو حديث بالليل.
قوله: { تَهْجُرُونَ } قال قائلون: تهتدون.
وقال بعضهم: تهجرون القرآن، أي: كانوا لا يعملون به ولا يعبئون؛ فهو الهجر، وفيه لغة أخرى: تُهْجِرُون، وهو كلام الفحش والفساد.
وقوله: { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ }.
قيل: أي: في القرآن؛ يحتمل قوله: { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ } أي: فهلا دبروا ذلك القول الذي يقولون في الآخرة في الدنيا، وهو قولهم:
{ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } [الأعراف: 53]، وما ذكر من تضرعهم في الآخرة، وهو قوله: { إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ }.
وجائز أن يكون قوله: { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ }، أي: قد دبّروا القول، لكنهم تعاندوا وكابروا واستكبروا ولم يخضعوا له؛ أنفا واستكباراً؛ أو لا ترى أنه إذا قرع أسماعهم قوله:
{ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } [البقرة: 23]، وقوله: { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ... } الآية [الإسراء: 88] لا يحتمل ألا يدبروا فيه؛ دل أنهم قد تدبروا فيه وعرفوه، إلا أنهم تعاندوا وكابروا واستكبروا؛ أنفا منهم واستكبارا واستنكافا عن اتباعه والخضوع له.
قال أبو عوسجة: { إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ }، أي: يستغيثون، قال: وأصله من الصياح. وقال بعضهم: { يَجْأَرُونَ }: يصرخون.
وقيل: يصيحون.
وقيل: { سَامِراً تَهْجُرُونَ } ما ذكرنا من الحديث بالليل، { تَهْجُرُونَ }، أي: تهذون كما يهذي النائم والمريض الشديد المرض.
قال: وأهجر يهجر، من الهُجْر: وهو الفحش، وَهَجَّر يُهجِّر: إذا سار في الهاجرة، وهي شدة الحرّ.
وقوله: { تَنكِصُونَ }: قال بعضهم: ترجعون، وقال بعضهم: تستأخرون؛ كقوله:
{ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ } [الأنفال: 84]: ترجعون، وتستأخرون واحد.
وقوله: { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ }: قد ذكرنا أنه يخرج على وجهين:
أحدهما: على ترك التدبر فيه والتفكر، والإعراض عنه، أي: لم يدبّروا فيه، ولم يتفكروا.
والثاني: على إيجاب حقيقة التدبر فيه والتفكر، أي: قد تدبّروا فيه، وعرفوا أنه منزل من الله، لكنهم تركوا متابعته؛ عنادا وتمرداً [و] إشفاقاً على ذهاب رياستهم، وطمعاً في إبقائها ودوام مأكلتهم، فأي الوجهين كان، ففيه لزوم حجج الله وبراهينه على من جهلها ولم يعرفها؛ بالإعراض عنها وترك التدبر فيها، حيث استوجبوا عذاب الله ومقته لجهلهم بها: بترك التدبر فيها بعد أن كان لهم سبيل الوصول إلى معرفتها.
وظاهر قوله: { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ } استفهام، إلا أنه في الحقيقة: إيجاب لها؛ لا يجوز أن يستفهم الله أحداً؛ فهو على الإيجاب لأنه علام الغيوب.
وقوله: { أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ ٱلأَوَّلِينَ } أي: قد جاءهم ما جاء آباءهم الأولين من الرسل، ثم [لم] يأت هؤلاء شيء إلا ما أتى آباءهم، لم يخصوا هم بالرسول؛ فكيف أنكروه؟! ألا ترى أنهم قالوا:
{ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى ٱلأُمَمِ } [فاطر: 42]: قد أقرّوا أن في الأمم المتقدمة رسولا؛ حيث قالوا: { لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى ٱلأُمَمِ } [فاطر: 42].
وعلى ذلك يخرج قوله:
{ أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ }.
أي: قد عرفوا رسولهم، لكنهم أنكروه وتركوا اتباعه؛ لما ذكرنا في القرآن من أحد الوجهين؛ عناداً وتكبرا؛ إشفاقاً على رياستهم لكي تبقى؛ ألا ترى أنه قال:
{ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ... } الآية [البقرة: 146].
وعلى هذا، { أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ }.
أي: قد عرفوا أنه ليس به جنة.
وجائز أن يكون قوله: { أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ ٱلأَوَّلِينَ }: جاء هؤلاء ما لم يأت آباءهم، وخصّ هؤلاء ما لم يخص آباءهم. وكذلك قال ابن عباس: لعمري لقد جاءهم ما لم يأت آباءهم الأوّلين.
وجائز أن يكون قوله: { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ }: إلى ما ذكر من قوله: { أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ }؛ لأنه يخرج على الأمر بالتدبر فيه، ومعرفة الرسول أنه ليس كما يصفونه من الجنون وغيره؛ كقوله:
{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ } [الروم: 8]، أي: تفكروا فيه؛ فإنه ليس به جنة على ما يصفونه، أو على ما ذكرنا: أنهم تفكروا وعرفوا: أنه ليس به جنون، ولا شيء مما وصفوا به؛ لكنهم أرادوا أن يلبسوا أمره على أتباعهم وسفلتهم؛ إشفاقاً على إبقاء ما ذكرنا.
وقال بعضهم: قوله: { أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ ٱلأَوَّلِينَ }: من البراءة من العذاب.
وقوله: { بَلْ جَآءَهُمْ بِٱلْحَقِّ }.
بالرسالة والقرآن من عند الله، وجعل العبادة [له] من دون الأصنام التي عبدوها.
[وقوله:] { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ }.
كرهوا الحق؛ لما ظنوا أن في اتباعه ذهاب الرئاسة والأسباب التي كانت لهم على أتباعهم، بعد معرفتهم أنه حق، أو كرهوا؛ لما لم يعرفوا في الحقيقة أنه حق، وإلا [لا] أحد ممن يوصف بصحة العقل وسلامته يكره الحق ويترك اتباعه؛ إلا للوجهين اللذين ذكرناهما، والله أعلم.
وقوله: { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ }.
قال عامة أهل التأويل: الحق - هاهنا - هو الله، أي: لو تبع الله أهواءهم في كفرهم وشركهم { لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ }، وتأويل هذا أن الكفر والشرك مما لا عاقبة له، وكل شيء لا عاقبة له فهو في الحكمة والعقل فاسد باطل غير مستحسن.
وقال بعضهم: الحق - هاهنا - كتاب الله، وهو القرآن على ما يهوون هم؛ ليفسد ما ذكر؛ لأنه يكون خارجاً عن الحكمة.
وجائز أن يوصل قوله: { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ } الحق الذي سبق ذكره، وهو قوله: { بَلْ جَآءَهُمْ بِٱلْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ }، أي: لو اتبع ذلك الحق أهواءهم وجاء على ما هوته أنفسهم واشتهت من عبادة غير الله، وتسميتهم إياها آلهة، وإنكارهم البعث والتوحيد، وغير ذلك من الأفعال التي كانوا اختاروها وعملوها - لفسدت السماوات والأرض وما ذكر؛ لأنه يكون خلقهم وخلق ما ذكر من السماوات والأرض وما فيهن - لا لما توجبه الحكمة والعقل؛ إذ خلقهم وخلق ما ذكر لأفعالهم التي يفعلون؛ فإذا خرج أفعالهم على غير ما توجبه الحكمة والعقل، بل على السفه والجهل - خرج الذي لها خلق، [و] من أجلها أنشئ، كذلك؛ إذ خلق الشيء وفعله لا لعاقبة تقصد - خارج عن الحكمة، والله أعلم بذلك.
وجائز أن يكون الحق هو رسول الله، أي: رسول الله لو اتبع أهواءهم لفسد ما ذكر.
وقوله: { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ }.
قال أهل التأويل: لشرفهم وذكرهم؛ كقوله:
{ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [الزخرف: 44].
[وقوله:]
{ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ } [الأنبياء: 42].
أي: عن شرفهم معرضون.
وجائز أن يكون الذكر هو الحق الذي تقدم ذكره، أي: لو قبلوا ذلك الحق الذي [جاءهم] وأقبلوا نحوه يكون في ذلك ذكرهم من بعد هلاكهم؛ كما يُذكر أصحاب رسول الله من بعد ما ماتوا؛ ألا ترى أولادهم بذكر آباءهم يتعيشون يقولون: أنا من بني فلان؛ فيبرّهم الناس بذلك ويكرمونهم، وأما أولئك فإنهم لا يذكرون بشيء من ذلك؛ فذلك يدل على ما ذكرنا.
ويحتمل قوله: { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ } الثناء عليهم أن لو آمنوا؛ كقوله:
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ... } الآية [آل عمران: 110]، وقوله: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [البقرة: 143]، وقوله: { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ... } الآية [التوبة: 100]، ونحو ذلك مما أثنى الله على من آمن منهم؛ فهم لو آمنوا استوجبوا بذلك الثناء.
وجائز أن يكون قوله: { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ }، أي: يُدعى لهم، وهو ما دعا الملائكة والرسل للمؤمنين، كقوله:
{ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ... } الآية [غافر: 7]، وقوله: { وَٱسْتَغْفِـرْ لِذَنبِكَ } [غافر: 55]، وقول نوح: { رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ... } الآية [نوح: 28]، وقول إبراهيم ودعائه لهم: لو آمنوا استوجبوا دعاء هؤلاء الملائكة والرسل جميعاً، أو أن يكون ما ذكرنا من إبقاء ذكرهم إلى يوم القيامة؛ كما بقي ذكر أولئك الذين آمنوا به وصدقوه؛ فيكون في ذلك كله شرفهم وقدرهم؛ على ما قاله أهل التأويل، والله أعلم.
وقوله: { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ }.
جائز أن يكون هذا صلة ما تقدم من قوله: { أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ ٱلأَوَّلِينَ }، أي: قد عرفوا رسلهم، { أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ }، أي: ليس به جنة، أي: ليس به شيء يمنعهم عن الإجابة والإيمان به بما يعذرونهم في ترك الإيمان به؛ فعلى ذلك قوله: { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً }، أي: لم تسألهم أجراً على ما تدعوهم إليه حتى يمنعهم ثقل ذلك الأجر عن إجابته وتصديقه؛ كقوله - أيضاً -:
{ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } [الطور: 40] يقطع ما ذكر جميع أعذارهم وحجاجهم، وإن لم يكن عذر ولا حجة في ترك الإجابة له.
وقال بعضهم: الخراج: الرزق، أي: لا تسألهم رزقاً، ثم أخبر: { فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ }.