خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ
٣٥
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ
٣٦
رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَـاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَارُ
٣٧
لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
٣٨
-النور

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } قال بعضهم: الله هادي السماوات والأرض، ثم انقطع الكلام فأخذ في نعت محمد صلى الله عليه وسلم وما ضرب له من الأمثال، فقال: { مَثَلُ نُورِهِ }، يقول: نور محمد إذ كان في صلب أبيه { كَمِشْكَاةٍ } أي: كوة - بلغة الحبش - غير نافذة { فِيهَا مِصْبَاحٌ } أي: سراج المصباح.
يقول - والله أعلم -: ذلك السراج المضيء ضوؤه { فِي زُجَاجَةٍ }، الزجاجة نعتها الصافية التامة الصفاء، والمشكاة: صلب أبيه عبد الله، والزجاجة وصفاؤها: محمد رسول الله، وطهره من الأدناس والمعاصي، والمصباح: نوره، وصفاؤه: قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما فيه من الإيمان، والحكمة، والنبوة، { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } أي: محمد صلى الله عليه وسلم ذكره مع أسماء الأنبياء، والرسل في اللوح المحفوظ عند الله في الفضيلة على تلك الأنبياء والرسل عليهم السلام كفضل الكوكب الدري - أي: المضيء، وهي الزهرة - على سائر الكواكب.
وقوله - عز وجل -: { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ } يقول - والله أعلم -: استنار نور محمد من نور إبراهيم؛ لأن محمدا على دين إبراهيم وعلى سنته ومنهاجه، فمثل إبراهيم مثل الشجرة المباركة، وأصل محمد من نسل إبراهيم، صلوات الله عليهم.
وقوله - عز وجل -: { زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } والزيتونة: المحاسن وطاعة إبراهيم لربه؛ فنفعه الله بحسن طاعته يوم القيامة، وفي غيره من المواطن، كما تنفع الزيتونة أهلها في الدنيا، فهي فاكهة وطعام، وهي إدام وهو الصباغ والدهن والدباغة يعني: زيتونة { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } يقول: إن إبراهيم صلوات الله عليه لم يكن نصرانيّاً لقول النصارى: هو نصراني يصلي قبلة النصارى من قبل المشرق، ولا يهوديّاً لقول اليهود: إنه كان على ديننا يصلي قبل المغرب ببيت المقدس، يقول الله تعالى: لم يكن كما قال هؤلاء، ولكن كان حنيفاً مسلماً مصليّاً إلى الكعبة، وهي قبلته وإليها حج.
وقوله: { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } يقول - والله أعلم -: لو أن إبراهيم لم يكن نبيّاً لأصاب بحسن طاعة الله في الدنيا الفضل مع الأنبياء والرسل في الدنيا والدرجات العلا في الآخرة.
وقوله: { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ }؛ لأن محمدا وما جاء به من الدين والكتاب أصل نوره من قبل إبراهيم؛ لأنه على دينه وسنته وكتابه ومنهاجه.
ثم قال: { يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } الذي جاء [به] محمد صلى الله عليه وسلم، وهو النور، وهو القرآن [يهدي إليه] من يشاء ممن سبق [له] في علمه السعادة، ويضل عنه من يشاء ممن سبق له في علمه الشقاء.
ثم قال: { ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ } يعني: ويصف الله الأمثال للناس؛ ليؤمنوا بالله ويوحدوه ويعرفوا نور نبيه من صنيعه، ويصدقوا بإبراهيم ومحمد - عليهما أفضل الصلوات - أنهما رسولا الرب، وهو تأويل مقاتل.
وقال أهل الكلام: قوله: { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي: أنار الله لأهل السماوات والأرض، مثل نوره الذي به أنار ما ذكر مثل المشكاة التي ذكر إلى آخره.
وجائز أن يكون قوله: { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي: بالله نور أهل السماوات وأهل الأرض؛ ألا ترى أنه قال: { مَثَلُ نُورِهِ } كذا، ولم يقل: مثله، ولو كان النور هو الله على ما قاله قوم وفهموه، لقال: "الله نور السماوات والأرض مثله كذا"، ولم يقل: { مَثَلُ نُورِهِ } فدل قوله: { مَثَلُ نُورِهِ } كذا أنه لم يرد بالنور نفسه، ولكن ما ذكرنا أنه به نور أهل السماوات وأهل الأرض؛ ألا ترى أنه قال في آخره: { يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } أنه لم يرد بالنور ما فهموا، { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } دل أنه ليس على ما فهموه به: أنه نور كسائر الأنوار التي عاينوها ويشاهدوها وهم المشبهة، على هذا يخرج تأويل ابن عباس حيث قال: الله هادي أهل السماوات والأرض.
وقوله: { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } جائز أن يكون قوله: { مَثَلُ نُورِهِ } أي: مثل نور المؤمن الذي في قلبه مثل مشكاة فيها مصباح؛ لأن المشكاة هي الكوة التي لا منفذ لها يدخل فيها الأنوار، فتكون مظلمة، فإذا جعل فيها المصباح أضاء ذلك كله وأناره حتى لا يبقى فيها ناحية إلا وقد أصابها الضياء والنور، فعلى ذلك القلب، وهو مظلم إذ ليس له منفذ يدخل فيه النور من الخارج، فإذا أنار الله قلبه بإيمانه ظهر ذلك النور وأثره في جميع نواحيه وجوارحه، وهو ما قال: "أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه"، أخبر أن من شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه، فهذا يدل أن قوله: { مَثَلُ نُورِهِ } إنما هو مثل نور المؤمن، وعلى ذلك روي في حرف أبي بن كعب أنه قرأ: (مثل نور المؤمن كمشكاة)، وفي حرف ابن مسعود: (مثل نوره في قلب المؤمن).
وقال الحسن: { مَثَلُ نُورِهِ } قال: مثل القرآن في قلب المؤمن { كَمِشْكَاةٍ } كوة { فِيهَا مِصْبَاحٌ }، أو أن يكون قوله: { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي: به تنجلي الظلمات، وتنكشف الحجب والسواتر؛ إذ النور إنما سمي: نورا؛ لما به تنجلي الظلمات، وتنكشف السواتر، والحجب، لا أنه نور، ألا ترى أنه سمى القرآن: نوراً، والرسول: نورا؛ لما به تنجلي الشبهة والظلمات، وبه ترتفع السواتر والحجب وإن كانا في أنفسهما ليسا بنور سميا: نورا؛ لما ذكرنا من تجلي الأشياء بهما وارتفاع السواتر، فعلى ذلك جائز أن يسمى الله: نورا؛ لما به يكون تجلي الظلمات والشبه، وانكشاف السواتر، وارتفاع الحجب، لا أنه نور.
وقوله: { مَثَلُ نُورِهِ } قال بعضهم: مثل نور المؤمن على ما ذكرنا فيما تقدم.
وقال بعضهم: { مَثَلُ نُورِهِ } في صدر المؤمن.
وقال بعضهم: مثل نور محمد على ما ذكر مقاتل وغيره.
وقال بعضهم: مثل نور القرآن.
وقوله: { كَمِشْكَاةٍ } قال: الكوة التي لا منفذ لها للنور على ما ذكرنا.
وقال بعضهم: موضع الفتيلة من القنديل.
وقال بعضهم: الحدايد التي تعلق بها القنديل.
وقوله: { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } قال: بعضهم: هي شجرة مصحرة تطلع عليها الشمس إذا طلعت وتغرب عليها إذا غربت، وهو أجود الزيت.
وقال بعضهم: هي شجرة في كنّ لا تطلع عليها الشمس إذا طلعت، ولا تغرب عليها إذا غربت.
وقال بعضهم: ليست شرقية: لا غرب لها، ولا غربية: لا شرق لها، ولكنها شرقية غربية.
فكيفما كان فإنما ذكر الزيت لصفائه وخلوصه؛ فيجب أن يسأل أهله فيقال: أي الزيت أجود وأصفى الذي تصيبه الشمس أو الذي لا تصيبه، أو الذي تصيبه في وقت ولا تصيبه في وقت؟
وقال بعضهم: { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } هو الله سبحانه هادي أهل السماوات وأهل الأرض، كما هداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء؛ قالوا: هو زيت كلما مسته النار ازداد ضوءاً على ضوء، كذلك يكون قلب المؤمن يعمل الهدى قبل أن يأتيه العلم [فإذا أتاه العلم] ازداد هدى على هدى ونوراً على نور، وعن أبيّ بن كعب قال في قوله: { مَثَلُ نُورِهِ }: يقول: مثل نور المؤمن، وكذلك يقرؤها: (مثل نور المؤمن) على ما ذكرنا من قبل. قال: فهو عبد قد جعل القرآن والإيمان في صدره.
قال: { كَمِشْكَاةٍ } قال: المشكاة: صدره { فِيهَا مِصْبَاحٌ }: قال: المصباح: القرآن والإيمان الذي جعل في صدره.
قال: { ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } فالزجاجة: قلبه.
قال: { ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } يقول: كوكب مضيء.
{ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ } قال: الشجرة المباركة أصله، فالمبارك: الإخلاص لله وحده لا يشرك به.
قال: { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } قال: فمثله كمثل شجرة، جعله كالشجرة فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أيّ حال كانت: لا إذا طلعت، ولا إذا غربت، وكذلك هذا المؤمن قد أجير عن أن يصيبه شيء من الفتن وقد ابتلي بها، فثبته الله فيها، فهو بين أربع خلال: إن ابتلي صبر، وإن أعطي شكر، وإن قال صدق، وإن حكم عدل؛ فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات.
قال: { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } قال: فهو يتقلب في خمسة من النور: كلامه نور، وعلمه نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره النور إلى يوم القيامة إلى الجنة.
قال: ثم ضرب مثل الكافر فقال: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } وهو يحسبه عند الله خيراً فلا يجده، فيدخله الله النار، وقال في آية أخرى له مثلا فقال:
{ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ } [النور: 40] فهو يتقلب في ظلمات.
وقال بعضهم: في قوله: { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي: بنوره يهتدي من في السماوات ومن في الأرض على ما ذكرناه { مَثَلُ نُورِهِ } في قلب المؤمن { كَمِشْكَاةٍ } وهي الكوة غير النافذة على ما ذكرنا { فِيهَا مِصْبَاحٌ } أي: سراج { كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ }: مضيء، أي: منسوب إلى الدرّ؛ وهو قول القتبي.
وقال أبو عوسجة: { كَمِشْكَاةٍ }: الكوة التي تكون في الحائظ؛ ومثال جماعته: الكوة، و { كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ }: مثل لسانه وصدره وقلبه { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ } قال: يكاد محمد يبين للناس وإن لم ينطق.
وعن الضحاك بن مزاحم { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } قال: خلقت الكواكب من نار يقال لها: دري؛ فمن ثمة قال: { كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ }.
وقد ذكرنا قولهم في المشكاة:
قال بعضهم: الكوة: التي لا منفذ لها.
وقال بعضهم: الفتيلة.
وقال بعضهم: الفتيلة التي في جوف القنديل نفسه.
وقال بعضهم: القائم في وسط القنديل، وهو موضع الفتيلة.
وقال بعضهم: هي الحدايد التي يعلق بها القنديل.
وأما الزجاجة فهي القنديل.
ثم إن كان قوله: { مَثَلُ نُورِهِ } أي: نور المؤمن، فليس ذلك وصف كل مؤمن ونعته، ولكن وصف المؤمن الذي يجتمع فيه جميع شرائط الإيمان وجميع الأخلاق الحسنة والآداب؛ لأنه وصفه بطهارة نفسه وجسده وقلبه وجميع أعماله وأفعاله؛ لأنه قال: { كَمِشْكَاةٍ }، وهي قلبه { فِيهَا مِصْبَاحٌ } وهو صدره الذي في قلبه المصباح والزجاجة وهو الإيمان الذي في صدره، ثم نعت الزجاجة فقال: { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } أي: مضيء.
وقال بعضهم: من الدر، فوصف الكل بالضياء والنور وطهارة الداخل منه والخارج ونقاوته، فهو المؤمن الذي يجتمع فيه جميع الشرائط والخصال المحمودة، وأما كل مؤمن فلا يحتمل، وهذا أشبه؛ ألا ترى أنه ذكر نعت الكافر من بعد وخبثه حيث قال: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ }.
وإن كان وصف محمد، ففيه جميع ما ذكر ونعته، وإن كان القرآن فهو كذلك أيضاً.
وقوله: { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } الذي ذكرنا يحتمل المؤمن ويحتمل محمدا ويحتمل إبراهيم في كلهم { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ }، وقوله: { يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } يحتمل: يهدي الله لنور محمد، ويحتمل: القرآن، ويحتمل: الإيمان والهدى.
وقال بعضهم: { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } قال: فالزيت نور، والمصباح نور، والقنديل نور، وقال: المؤمن نور، وعمله نور، وكلامه نور.
ويحتمل: قوله: { يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } أي: بنوره.
وقال بعضهم: { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } يقول: بنوره أضاء السماوات والأرض على ما ذكرنا: { مَثَلُ نُورِهِ } يقول: في قلب المؤمن، وهو في حرف ابن مسعود - رضي الله عنه -: (في قلب المؤمن)، وهذا مثل ضربه للإيمان والقرآن، والقلب حين يدخله الإيمان والقرآن { كَمِشْكَاةٍ } يعني: الكوة، { فِيهَا مِصْبَاحٌ } يعني: الإيمان، والقرآن { فِي زُجَاجَةٍ } يعني: القلب، والمشكاة: الصدر، فكما دخل هذا المصباح في الزجاجة فأضاء؛ فكذلك أضاء القلب، ثم خرج من الزجاجة، فأضاءت المشكاة، فكذلك أضاء الصدر، ثم نزل الضوء من الكوة، فأضاء البيت، فكذلك نزل النور من الصدر فأضاء الجوف كله؛ فلم يدخله حرام، والله أعلم بذلك.
وقوله: { وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ } يحتمل ضرب الأمثال لهم وجهين:
أحدهما: ضرب لأفعالهم وأقوالهم مثلا؛ ليعرفوا مقاديرها في الحسن والجمال؛ ليعلموا قدرها من الجزاء والثواب، أو ضرب الأمثال لهم للأنفس المكرمين المعظمين المستوجبين كل خير؛ ليرغبوا في مثل ذلك فيستوجبوا ما استوجب أولئك، وكان ضرب مثل الإيمان أو القرآن أو محمداً وما كان على اختلاف ما قالوا بالأنوار التي ضربها - والله أعلم - لما أنه قد أقام الحجج والبراهين على الإيمان والقرآن ومحمد حتى صاروا كالأنوار التي شبههم بها من الحسن والجمال والضياء إليها حتى يعرف حسن هذه الأنوار وبهاءها كل أحد؛ فعلى ذلك المضروب به المثل صار في الحسن والبهاء والضياء بالحجج والبراهين كالأنوار التي لا يخفى حسنها وبهاؤها على أحد، ولا ينكرها إلا معاند ومكابر، وكان مثل الكفر والعناد من القبح والفساد والبطلان كالظلمات التي ذكر بعضها فوق بعض وكالسراب والزبد الذي ذكر حيث قال: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ }، وكالظلمات التي ذكر حيث قال:
{ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ... } الآية [النور: 40] { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ }.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } قال: الأنجم الخمسة دري: زهرة، وعطارد، والمشتري، وبهرام، والزحل.
قال قتادة: الدري: الضخم المنير.
قال الكسائي: من همز "دريء" فهو حسنه وظهوره وارتفاعه، تقول: درأ النجم، وهو فاش ظاهر في كلام العرب، ومن رفع الدال ومن لم يهمز فهو ينسبه إلى الدر، ومنهم من يرفع الدال ويهمز وأظنها لغة.
وقال أبو عمرو بن العلاء: الدري: النجم الذي تراه يتلألأ كأنه يجيء ويذهب.
وقد روي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الرجل من أهل عليين ليشرف على أهل الجنة؛ فتضيء الجنة بوجهه كأنه كوكب دري" ، [و] روي أن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - لمنهم، وأنعم.
وأيضاً روي دري بالرفع.
وفي خبر آخر عنه:
"إن أول زمرة تدخل الجنة وجوههم على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أضوأ كوكب دري في السماء، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان آدميتان يري مخ سوقهما من وراء اللحم، والذي نفس محمد بيده ما فيها غرب" .
وقوله: { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ } اختلف في قراءته:
قرأه بعضهم: { يُوقَدُ } بالياء ورفعها ونصب القاف، يقول: المصباح يوقد.
ومن قرأها بالتاء ورفع الدال ونصب التاء رده على الزجاجة أراد تتوقد، ثم طرح إحدى التاءين.
ومن قرأ بالتاء ورفعها يعني: الزجاجة التي توقد.
و [قرأ] أهل مكة: (تَوقّد) بنصب التاء وتشديد القاف، يعني: المصباح توقد؛ فلذلك انتصب.
ومن قرأ: { يُوقَدُ } يعني: الكوكب أو المصباح.
وقوله: { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } قد ذكرنا بعض أقاويلهم فيما تقدم، لكنا نزيد فيها شيئاً.
قال قائل: هي شجرة ضاحية من حين تطلع الشمس إلى أن تغرب، ليس لها ظل شرقي ولا غربي، وزيتها أصفى الزيت وأعذبه وأطيبه.
وقال قائل: ليست بشرقية يحوزها المشرق دون المغرب، وليست بغربية يحوزها المغرب دون المشرق، ولكنها بارزة في صحراء أو في رأس جبل تصيبها الشمس النهار كله، وهو مثل الأول.
وقال الكسائي: ليست بشرقية وحدها، ولا بغربية وحدها ولكنها شرقية وغربية؛ كما تقول: لا آتيك ولا آتي فلاناً، له معنيان: إن شئت كان معناه: لا تأتي واحدا منهما، وإن شئت كان معناه: أنك [لا] تأتيهما معا، ومثله: والله لا آكل ولا يأكل زيد معنيان، وكان يقال: رجل لا يرجو الجنة ولا يخاف النار ويحب الفتنة: إنه رجل صالح: أما الفتنة فالمال والولد، قال الله تعالى:
{ إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } [التغابن: 15] وهو يرجو الجنة ويخاف النار على ما فسرنا.
وقال بعضهم: { لاَّ شَرْقِيَّةٍ } يقول: لا تضحى للشمس من أول النهار إلى آخره، ولا غربية عليها ظل من أوّل النهار إلى آخره، ولكنها شرقية وغربية يصيبها الشمس والظل، والعرب تقول: لا خير في شجرة في مضآة، ولا خير في شجرة في مضحاة.
وقائل يقول: لا تطلع الشمس ولا تغرب.
وقائل يقول: هي شجرة بالشام ليست بالمشرق وليست بالمغرب.
والحسن يقول: والله لو كانت هذه الزيتونة في الأرض، لكانت شرقية أو غربية، والله ما هي في الأرض، ولكن هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لنوره وهو هذا القرآن.
وأما قوله: { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } قال بعضهم: إيمان المؤمن نور، وعلمه نور، فهو نور على نور.
قال بعضهم: نور النار على نور الزيت، فذلك نور على نور، وهو بجودته يعني: الزيت.
وقال بعضهم: نور النار ونور الزيت حين اجتمعا أضاءا، ولا يضيء واحد بغير صاحبه، كذلك نور القرآن ونور الإيمان إذا اجتمعا لا يكون أحدهما مضيئاً إلا بصاحبه.
وقال بعضهم: ما ذكرنا من نور الإيمان والعلم.
ثم معنى تشبيه ما ذكر بالزيت؛ لأن الزيت أصفى شيء وأطهر وأطيب شيء وأضوأ للسراج، وكل المنافع من الإدام والدواء وغيره [منه]، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ } اختلف فيه:
قال بعضهم: قوله: { أَن تُرْفَعَ } أي: تعظم، ويرفع قدرها - وهي المساجد - على غيرها من البيوت المسكونة بذكر اسم الله فيها، والتسبيح والتنزيه من الأقذار، والأنجاس، ومن الأمور الدنيوية.
وقال بعضهم: قوله: { أَن تُرْفَعَ } أي: تبنى وتتخذ.
فإن كان التأويل هذا، ففيه الأمر ببناء المساجد واتخاذها.
وإن كان الأول، ففيه الأمر بتعظيم المساجد ورفع قدرها بما ذكر من ذكر الله والتسبيح فيها.
ثم الإذن في هذا الأمر لوجهين:
أحدهما: بحق إقامة الجماعات فيها في هذه الصلوات المعروفة؛ إذ الأرض كلها في الأصل جعلت مسجداً؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" . فهي من حق جواز الصلاة مسجد، فيخرج الأمر به مخرج الأمر ببنائها لإقامة الجماعات.
والثاني: أمر بها خصوصاً للمساجد؛ إذ غيرها من البيوت المسكونة إنما اتخذت وبنيت بالإذن والإباحة، فخص المساجد بالإذن ببنائها خصوصاً لها؛ إذ لو كان إذناً على ظاهر ما ذكر، لكان المساجد وغيرها من البيوت سواء، والله أعلم.
وقوله: { وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ } فإن كان تأويل قوله: { أَن تُرْفَعَ } أي: تعظم ويرفع قدرها؛ فيكون قوله: { وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ } تفسيرا لذلك التعظيم والقدر الذي أمر، أي: أمر أن تعظم، ويرفع قدرها بذكر اسم الله فيها، وما ذكر من التسبيح.
وإن كان التأويل هو الأمر بالبناء يكون قوله: { وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا } كذا على الابتداء، أي: أمر أن نبني سويا مساجد، وأمر أن يذكر فيها اسمه، ويسبح له فيها بالغدو والآصال.
ثم اختلف في تلاوة قوله: { يُسَبِّحُ لَهُ }:
قرأ بعضهم { يُسَبِّحُ } بنصب الباء.
وقرأ بعضهم { يُسَبِّحُ } بخفض الباء.
فمن قرأها بالنصب صيره على الأول { وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ }، ثم ابتدأ فقال: { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ }.
ومن قرأها بالخفض - أعني: خفض الباء - صيره مقطوعاً من الأول مبتدأ به، أي: يسبح له فيها رجال بالغدو والآصال، ثم ابتدأ من قوله: { لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ } ثم قوله: { وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ } جائز أن يراد بذكر اسمه: الصلاة، وكذلك التسبيح.
ويحتمل أن يريد بذكر اسمه: جميع أنواع الأذكار من الخير.
ويراد بالتسبيح بالغدو والآصال: الصلاة المفروضة.
ثم قال بعضهم: الغدو: صلاة الغداة، والآصال: صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ فيجعل الأصيل عبارة عن هذه الصلوات في أوقاتها.
وقال بعضهم: الآصال: صلاة العصر خاصة، وأما غيرها من الصلوات فإنما عرف لا بهذا ولكن بشيء آخر، والغدو هو صلاة الفجر، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ }، أي: لا تشغلهم تجارة ولا بيع، ذكر التجارة والبيع، والبيع تجارة، ولكن كان اسم التجارة يجمع كل أنواع التقلب، واسم البيع يقع على خاص، وكذك يقال للذي يجمع أنواع التقلب: تاجر، وللذي يبيع شيئاً خاصّاً: بائع.
أخر أنه لا يشغلهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.
ثم جاز أن يكون قوله: { لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } أي: لا يشتغلون بالتجارة والبيع، ولكن فرغوا أنفسهم لذكر الله، وإقامة الصلاة، وما ذكر.
وجائز أن يكون يتجرون ويبيعون لكن تجارتهم وبيعهم لا تشغلهم، ولا تمنعهم عن ذكر الله، يكونون أبداً في ذكر الله.
ثم قوله: { عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } يحتمل الصلاة.
وقوله: { وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ } أي: تمام الصلاة بركوعها، وسجودها، وقراءتها، وجميع أسبابها، وشرائطها.
وجائز أن يكون قوله: { عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } جميع أنواع الأذكار { وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ } وإقامة الصلاة بنفسها وإيتاء الزكاة.
وقال بعضهم: جائز أن يكون قوله: { عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } الخطبة
{ وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ صلاة الجمعة؛ لأنه قال: وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً... } الآية [الجمعة: 11]، وقال: { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ } [الجمعة: 9] وهي الخطبة. [وهذا القول] غير مسموع من أهل التأويل، ولكنه يحتمل، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَارُ } وهو يوم القيامة يخبر عن شدة هول ذلك اليوم وخوفه إذ لا تثبت القلوب والأبصار فزعاً منه وخوفاً، كقوله: { مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ... } الآية [إبراهيم: 43]، وكقوله: { إِذِ ٱلْقُلُوبُ لَدَى ٱلْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ } [غافر: 18].
وجائز أن يكون قوله: { يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَارُ } يعرفون مرة، ويجهلون تارة، ويعتبرون يومئذ بما لم يعتبروا في الدنيا، ويقرون بما لم يقروا.
وقال بعضهم: { يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ }، حين زالت عن أماكنها من الصدور، فنشبت في حلوقهم عند الحناجر، ثم قال: { وَٱلأَبْصَارُ } أي: تتقلب أبصارهم فيكونون رزقا، وهو قول مقاتل.
وقوله: { لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } يحتمل قوله: { لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } أي: يجزيهم الله جزاء إحسانهم، ويكفر عنهم مساويهم، ولا يجزيهم بها كقوله:
{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ... } الآية [الأحقاف: 16]، وكقوله: { وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ٱلَّذِي كَـانُواْ يَعْمَلُونَ } [الزمر: 35].
وقوله - عز وجل -: { وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ } على قدر حسناتهم، { وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } قال بعضهم: ليس فوقه ملك يحاسبه فهو لذلك يرزق من يشاء بغير حساب لا يخاف من أحد يحاسبه كقوله { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [الأنبياء: 23].
ويحتمل قوله: { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي: يعطيهم بلا حساب يحاسبهم، ويدخلهم الجنة بلا محاسبة.
وجائز أن يكون { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي: يعطيهم بلا حساب أضعافاً مضاعفة ما لا يحصى لا على قدر أعمالهم، والله أعلم.