خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا ٱلسَّبِيلَ
١٧
قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَـٰكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً
١٨
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً
١٩
وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي ٱلأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً
٢٠
-الفرقان

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا ٱلسَّبِيلَ } اختلف [فيه]:
قال بعضهم: نحشر أولئك الذين عبدوا دون الله والمعبودين وهم الملائكة؛ لأن من العرب من قد عبدوا الملائكة؛ كقوله في آية أخرى:
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـٰؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ... } الآية [سبأ: 41-42].
وقال بعضهم: هو عيسى يحشر بينه وبين من عبدوه؛ لأنه قد عبد دون الله فيقول له ما ذكر؛ كقوله:
{ وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ... } الآية [المائدة: 116].
وقال بعضهم: يحشر الأصنام ومن عبدها، ثم يأذن لها في الكلام فيقول: { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا ٱلسَّبِيلَ }؛ كقوله:
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } [يونس: 28] إلى قوله: { إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ } [يونس: 29]، ولو كان عيسى - عليه السلام - أو الملائكة لكانوا عالمين بعبادتهم إياهم غير غافلين؛ دل ذلك أنها الأصنام التي عبدوها دون الله وإياها يسألون.
وكل ذلك محتمل؛ إذ قد كان منهم ذلك كله، والله أعلم.
وقوله: { فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا ٱلسَّبِيلَ }: والله - عز وجل - كان عالماً لما كان منهم، لكن السؤال إياهم - والله أعلم - يخرج مخرج توبيخ أولئك الكفرة وتعييرهم؛ لأنهم يعبدون من ذكر من دون الله، ويقولون: هم أمروهم بذلك، وكانوا مقبولي القول عندهم صادقين فيما يخبرون ويقولون، فأراد أن يظهر كذبهم عند الخلائق؛ لذلك سألهم، والله أعلم بالكائن منهم من أنفسهم، لكنه يخرج على ما ذكرنا.
ثم نزهوه عن جميع ما لا يليق به، وبرءوا أنفسهم عن أن يكون منهم أمر أو شيء مما نسبه أولئك إليهم، وهو أعلم بهم فقالوا: { سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ } قال أهل التأويل: { أَوْلِيَآءَ } أي: أرباباً، وهم لم يتخذوا أربابا من دونه، لكنه عندنا يخرج على وجهين:
أحدهما: ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونه أولياء هم المؤمنون.
الثاني: أو أن يكون: ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دون ولايتك ولاية سواك.
وفي بعض القراءات: { أن نتخذ من دونك أولياء } برفع النون، لكن أهل الأدب يقولون: هو خطأ.
وقوله: { وَلَـٰكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكْرَ }: هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن آباءهم قد أمهلوا ومتعوا في هذه الدنيا، حتى ماتوا على ذلك من غير أن أصابهم شيء مما أوعدوا في كتابهم، ومما أوعدهم الرسل من العذاب والهلاك على ما اختاروا من الدين وصنيعهم، فظنوا أنهم على حق من ذلك؛ حيث لم يصبهم من المواعيد المذكورة في كتابهم، أو ما أوعدهم رسلهم بشيء؛ فعلى هذا التأويل الذكر: الذي نسوه هو كتابهم، أو ما أوعدهم رسلهم، والله أعلم.
فإن كان على هذا فالآية في أهل الكتاب منهم.
ويحتمل أن تكون الآية في الفراعنة، والقادة من هؤلاء الكفرة متعوا في هذه الدنيا بأحوال ورياسة، ووسع عليهم المعيشة، حتى دعوا الناس وأتباعهم إلى ما هم عليه من التكذيب برسوله وما أنزل عليه، فأجيبوا بالأموال عندهم، فنسوا ما في القرآن من الوعيد.
{ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً } والبور: قال بعضهم: الهلاك.
وقال بعضهم: البور: الفساد.
وقوله: { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ }: أي: فقد كذبكم أولئك، { بِمَا تَقُولُونَ }: أنهم أمرونا بذلك، وكانوا عندهم صدقة.
وقوله: { فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً }: هذا يحتمل وجوها:
أحدها: أي: ما يستطيع أولئك الكفرة صرف قول من عبدوهم وتكذيبهم حين كذبوهم في قولهم.
{ وَلاَ نَصْراً } أي: ولا استطاعوا الانتصار منهم حين كذبوهم؛ وعلى ذلك يخرج قراءة من قرأه بالتاء: { فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً }.
و [الثاني:] يحتمل: { فما يستطيعون } أولئك المعبودون صرف عذاب الله ونقمته عنكم، ولا كانوا لهم نصراء؛ لأنهم قالوا:
{ هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [يونس: 18]، و { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3].
والثالث: { فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً } أي: فداء، { وَلاَ نَصْراً } أي: لا يقبل منهم الفداء، ولا كان لهم ناصر ينصرهم في دفع العذاب عنهم؛ كقوله:
{ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ } [البقرة: 123].
وقال القتبي وأبو عوسجة: قال بعضهم: الصرف: النافلة، سميت صرفاً لأنها زيادة على الواجب، والعدل: الفريضة. وقد روي في الخبر:
"من طلب صرف الحديث ليبتغي به إقبال وجوه الناس، لم يرح رائحة الجنة" أي: من طلب تحسينه بالزيادة فيه.
وقال بعضهم: الصرف: الدية، والعدل: رجل مثله؛ كأنه يريد: لا يقبل منه أن يفتدي برجل مثله وعدله، ولا يصرف عن نفسه بديته، ومنه قيل: صارفي، وصرف الدرهم بالدنانير؛ لأنك تصرف هذا إلى هذا، وأصله ما ذكرنا.
قال القتبي وأبو عبيدة: { قَوْماً بُوراً }، أي: هلكى، وهو من بار يبور؛ إذا هلك وبطل؛ يقال: بار الطعام، إذا كسد، وبارت الأيم؛ إذا لم يرغب فيها، وفي الخبر:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من بوار الأيم" .
قال أبو عبيدة: يقال: رجل بور وقوم بور لا يثنى ولا يجمع.
وقال أبو عوسجة: { قَوْماً بُوراً }: لا خير فيهم، ورجل بائر؛ وكذلك قال ابن زيد: بورا أي: ليس فيهم من الخير شيء.
وقال قتادة: بورا: فاسدين، بلغة أهل عمان، وقال:
"ما نسي قوم ذكر الله قط إلا باروا وفسدوا" .
وقوله: { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً }: أما على قول بعض الخوارج: كل ظلم ارتكبه فهو في ذلك الوعيد على أصل مذهبهم.
وعلى قول المعتزلة: كل صاحب كبيرة في ذلك الوعيد.
وأما على قول المسلمين: فذلك الوعيد لمرتكبي الظلم: ظلم كفر وشرك، وأمّا ما دون ذلك فهو في مشيئة الله: إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه.
وقوله: { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي ٱلأَسْوَاقِ }: قد ذكرنا فيما تقدم أن هذا إنما أخرج جواباً لقول أولئك: { مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي ٱلأَسْوَاقِ }، فأخبر أن الرسل الذين كانوا من قبل محمد كانوا يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق على ما يأكل هو ويمشي.
ثم من الناس من كره الركوب في الأسواق بهذا، وقال: إنه أخبر عن الأنبياء والرسل جملة أنهم كانوا يمشون في الأسواق، لم يذكر منهم الركوب؛ فدل ذلك منهم أنه مكروه منهي عنه؛ فيشبه أن يكون ما قال هؤلاء، وأنه يكون مكروهاً؛ لأنه يخرج الركوب في الأسواق مخرج التعزز والمباهاة؛ فالواجب على كل مسلم أن يكون تعززه بالإسلام وبدينه الذي اختاره الله تعالى، وخاصة على العلماء يجب أن يكون تعززهم ومباهاتهم بالعلم الذي أعطاه الله لهم وأكرمهم؛ فإنه لا يُعْقِبُهُ ذلاًّ: ولا يورثه صغارا ولا قهرا، وأمّا كل عز كان سوى ما ذكرنا فهو إلى ذل ما يصير سريعاً، كأنه ليس بعز في الحقيقة، ولو تأصَّل، والله أعلم.
وقوله: { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً }: الفتنة كأنها هي المحنة التي فيها شدة وبلاء.
ثم قال أهل التأويل: إنه لما أسلم عبد الله وأبو ذر وعمار وبلال وصهيب وأمثال هؤلاء، قال الفراعنة من قريش نحو أبي جهل والوليد وأمثالهما: انظروا إلى هؤلاء الذين اتبعوا محمدا، اتبعوه من موالينا وأعرابنا رذالة كل قوم، فازدروهم وآذوهم واستهزءوا بهم؛ فأنزل الله هذه الآية لهؤلاء الفقراء الذين اتبعوا رسول الله؛ ليصبرهم على أذاهم فقال: { فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } أي: اصبروا على الأمر؛ هذا محتمل.
وقال الحسن: قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } جعل أهل البلوى فتنة لغيرهم وغير أهل البلوى؛ يقول الأعمى: لو شاء الله لجعلني بصيرا مثل فلان، ويقول الفقير: لو شاء الله لجعلني غنيّاً مثل فلان؛ وكذلك يقول السقيم: لو شاء الله لجعلني صحيحاً مثل فلان، لكنه أعطى لأهل البلوى البلوى وأمرهم بالصبر عليها، وأعطى لأهل النعمة النعمة وأمرهم بالشكر عليها.
وجائز أن يكون غير هذا، وهو قريب من هذا، وذلك أنه أعطى بعضا النعمة والسعة، وجعل بعضهم أهل ضيق وشدة؛ ثم جعل كل فريق محتاجاً إلى الفريق الآخر؛ جعل الغني والمثري محتاجاً إلى الفقير في بعض أموره، والفقير محتاجاً إلى الغني لغناه؛ وجعل لبعض على بعض مؤنة ما لولا فقر الفقير لا يعرف الغني قدر غناه، ولا الفقير قدر فقره، ولا قام بعض بكفاية مؤنة بعض، ثم أمر كلا بالصبر على تحمل مؤنة الآخر بقوله: { أَتَصْبِرُونَ } أي: اصبروا على الأمر يخرج، وإن كان ظاهره استفهاماً وسؤالا، والله أعلم.
وقوله: { وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } أي: على بصر وعلم؛ جعل بعضا فتنة لبعض ليس على سهو وغفلة.