خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

الۤمۤ
١
ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ
٢
نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ
٣
مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ٱلْفُرْقَانَ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ
٤
إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ
٥
هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي ٱلأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٦
هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٧
-آل عمران

تأويلات أهل السنة

قوله: { الۤمۤ * ٱللَّهُ }.
قال بعضهم: تفسيره ما وصل به من قوله:
{ الۤـمۤ * ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } [البقرة: 1-2]: هو تفسير { الۤـمۤ }، و{ الۤمۤ * ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ }: تفسير { الۤـمۤ }، و { الۤمۤصۤ * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ } [الأعراف: 1-2]، وجميع ما وصل به الحروف المقطعة فهو تفسيرها، ولله أن يسمي نفسه بما شاء: سمى نفسه مجيداً؛ كقوله: { ذُو ٱلْعَرْشِ ٱلْمَجِيدُ } [البروج: 15]، وسمىّ القرآن مجيداً؛ كقوله: { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ } [البروج: 21].
وقال بعضهم: الحروف المقطعة هي مفتاح السورة.
وقال آخرون: إن كل حرف منها اسم من أسماء الله تعالى.
ومنهم من يقول بأنها من المتشابه التي لا يوقف عليها.
ومنهم من يقول: هو على التشبيب؛ إذ من عادة العرب ذلك، وقد مضى الكلام فيه في قوله:
{ الۤـمۤ * ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } [البقرة: 1-2] بما يكفي.
وقوله: { ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ }:
هو الحيُّ بذاته، وكل حيٍّ سواه حيُّ بحياة هي غيره، فإذا كان هو حيّاً بذاته لم يوصف بالتغاير والزوال، ولما كان كل حيٍّ سواه حيّاً بغيره احتمل التغاير والزوال؛ وكأن الحياة عبارة يوصف بها مَنْ عَظُمَ شَأْنُهُ، وشَرُفَ أمره عند الخلق.
ألا ترى أن الله - تعالى - وصف الأرض بالحياة عند نباتِها؛ لما يعظم قدرها ويشرف منزلتها عند الخلق عند النبات؟! وكذلك سمى المؤمن حيّاً؛ لعلوّ قدره عند الناس، والكافر ميتاً؛ لدون منزلته عند الناس؛ فكذلك الله - سبحانه - سمى [نفسه] حيّاً؛ لعظمته وجلاله وكبريائه؛ وعلى هذا يخرج قوله في الشهداء؛ حيث قال:
{ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ } [البقرة: 154]، أي: مكرمون معظمون مشرفون عند ربّهم.
وقوله: { ٱلْقَيُّومُ }، قال بعضهم: هو القائم على كل نفس بما كسبت.
وقال آخرون: القيوم: الحافظ.
وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه -: "هو الحيّ القيام" وكله يرجع إلى واحد: القائم.
والقيوم، والقيام، يقال: فلان قائم على أمر فلان، أي: يحفظه حتى لا يغيب عنه من أمره شيء.
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال:
"إنَّ اسمَ اللهَ الأَعْظَمَ هَوَ: الحيُّ القَيُّومُ" .
وقوله: { نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ }.
ظاهر.
{ بِٱلْحَقِّ }
قيل فيه بوجوه: يحتمل بالحق، أي: دعاء الخلق إلى الحق، ويحتمل بالحق، أي: هو الحق نفسه حجة مجعولة، وآية معجزة، أيس العرب عن أن يعارضوه أو يأتوا بمثله، وتحقق عند كُلٍّ أنهُ من عند الله، إلا من أعرض عنه، وكابر وعاند.
وقيل: بالحق، أي: بالصِّدق والعدل.
وقيل: بالحق الذي لله عليهم، وما يكون لبعضهم [على بعض].
ثم قال: { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ }.
أي: موافقاً لما قبله من الكتب السماوية، وهي غير مختلفة ولا متفارتة، وفيه دلالة نبوة [سيدنا] محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أخبر أنه موافق لتلك الكتب غير مخالف لها، ولو كان على خلاف ذلك لتكلفوا إظهار موضع الخلاف؛ فإذا لم يفعلوا ذلك دل أنهم عرفوا أنه من الله، وأن محمداً رسوله، لكنهم كابروا وعاندوا.
وقوله: { وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ٱلْفُرْقَانَ }.
من بعد.
وقال بعضهم: { هُدًى لِّلنَّاسِ }.
أي: بياناً لهم، وحجَّة لمن اهتدى، وحجة على من عمي؛ إذ لا يحتمل أن يكون له هدى، وعليه حجة فيه الهلاك؛ إنما يكون حجة له وهدى إذا اهتدى، وعليه إن ترك الاهتداء؛ فبان أنه يخالف ما يقوله المعتزلة.
وقوله: { وَأَنزَلَ ٱلْفُرْقَانَ }: قد ذكرنا فيما تقدم أنه سمّي فرقاناً؛ لوجهين: أحدهما: لما فرق آياته وفرق إنزاله.
والثاني: لما يفرِّق بين الحق والباطل، وبين الحرام والحلال، وبين ما يتقى ويؤتى؛ فعلى هذا كل كتاب مبيّن فيه الحلال والحرام، وبُيِّن ما يتقى ويؤتى. والإنجيل فيه سمي إنجيلاً؛ لما يجلي، وهو الإظهار في اللُّغة.
وَقِيل: سمّى التوراة تَوْراة من أوريت الزند؛ وهو كذلك. والله أعلم.
وقوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ... }: قيل: بحجج الله.
وقيل: كفروا بآيات الله، أي: بالله؛ لأنهم إذا كفروا بآياته كفروا به، وكذلك الكفر بدينه كفر به، والبراءة من دينه براءة منه، والبراءة من رسول الله براءة منه.
وقوله: { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ }.
قيل فيه بوجهين:
قيل: ذو انتقام لأوليائه من أعدائِه.
وقيل: ذو انتقام: ذو انتصار على الأعداء.
وقيل: ذو بطش شديد.
وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ }.
هو وعيد؛ كأنه - والله أعلم - قال: لا يخفى عليه ما في السماوات، و[وما في] الأرض من الأمور المستورة الخفية على الخلق؛ فكيف يخفى عليه أعمالكم وأفعالكم، التي هي ظاهرة عندكم؟! ويحتمل: إذا لم يخف عليه ما بطن، وخفي في الأصلاب والضمائر والأرحام؛ فكيف يخفى عليه أفعالكم وأقوالكم، وهي ظاهرة؟!.
ألا ترى أنه قال: { هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي ٱلأَرْحَامِ }؛ إذ علم ما في الأرحام وصوَّرها على ما شاء وكيف شاء. وهم
{ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ } [الزمر: 6].
وقوله: { هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي ٱلأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ }
فيه دليل نقض قول من يقول بالقائف؛ لأنه جعل علم التصور في الأرحام لنفسه، لم يجعل لغيره، كيف عرف بالقائف تصوير الأوَّل، حتى قال الله: إنه على صورته وعلى تصويره، وإنه من مائة، ثم اختلف في خلق الأشياء:
قال بعضهم بخلق الفروع من الأصول، وهن أسباب للفروع.
وقال آخرون: يكون بأسباب وبغير أسباب، فإن كان بعض الأشياء يكون بأسباب؛ من نحو الإنسان من النطفة، إلا أن النطفة تتلف؛ فتكون علقة، ثم مضغة؛ فدل أنه يخلق الخلق كيف شاء من شيء ولا من شيء، بسبب وبغير سبب، وهو القادر على ذلك، وبالله التوفيق.
وقوله: { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ }
اختلف فيه: فقيل: المحكمات: هن النَّاسخات المعمولات بهن، والمتشبهات: هن المنسوخات غير معمول بهن، وهو قول ابن عباس [رضي الله عنه].
وقال آخرون: المحكمات: هن ثلاثة آيات في [آخر] سورة الأنعام: قوله:
{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ... } [الأنعام: 151] إلى قوله: { ... تَتَّقُونَ } [الأنعام: 153]، وما ذكر في سورة "بني إسرائيل" من قوله: { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [الإسراء: 23] إلى آخر هذه الآيات، سميت محكمة؛ لأن فيها توحيداً وإيماناً بالله وغيره من المتشابه.
ثم قيل بعد هذا بوجوه: قيل: المحكمات: هي التي يعرفها كل أحد إذا نظر فيها، وتأمَّل فيها.
والمتشابه: هو المبهم الذي يعرف عند البحث فيه والطلب.
وقيل: المحكمات: ما يوقف ويفهم مراده.
والمتشابه: هو الذي لا يوقف [عليه] ألبتة، بعد ما قضى حوائج الخلق من البيان في المحكم منه، ولكن يلزم الإيمان به، وهو من الله محنة على عباده، ولله أن يمتحن خلقه بما شاء من أنواع المحن؛ لأنها دار محنة. وغيرها لا يفهم مرادها.
ويحتمل أن يكون المحكمات: هن ما ظهر لكل أحد من أهل الإسلام؛ حتى لم يختلفوا فيها.
والمتشابه: هو الذي اشبته على الناس؛ لاختلاف الألسن فاختلفوا فيها، ولما يؤدي ظاهره إلى غير ما يؤدي باطنه؛ فتعلق بعضهم بالظاهر فقالوا به، وتعلق آخرون بالباطن؛ لما رأوا ظاهره جوراً وظلماً أو تشبيهاً، على اتفاقهم على نفي الجور والظلم عنه، ويجوز لمن يوقف على المتشابه بمعرفة المحكم.
وقال آخرون: المحكم: هو الواضح المبين، فلو كان على ما قالوا لم يكن لاختلاف الناس فيه، وادعاء كل أنَّ الذي هو عليه هو المحكم؛ لأنه لو كان ظاهراً مبيّناً لتمسّكوا بهن ولم يقع بينهم اختلاف.
وفيه دليل ونقض على المعتزلة؛ لأنهم يقولون بالأصلح في الدين: أنه لا يفعل إلا ذلك، ثم لم يبين لهم المحكم من غير المحكم، ولو بين كان أصلح لهم في الدين؛ فدل أن الله - عز وجل - قد يجوز أن يفعل بهم ما ليس بأصلح لهم في الدين؛ امتحاناً وابتلاءً منه لهم، والله أعلم.
لكن لا يخرج من الحكمة، ثم ما قالوه في الأمر حق؛ لأنه لا يأمر إلا أن يفعل بهم ما لهم فيه الأصلح، وقد يفعل ما هو حكمة في حق المحنة وإن كان غير ذلك أصلح لهم في الدّين، بمعنى: أقرب وأدعى إليه، والله الموفق.
وَقال قوم: المحكم: ما في العقل بيانه.
والمتشابه: ما لا يدرك في العقل؛ وإنما يعرف بمعونة السمع.
وقال قوم: لا متشابه فيما فيه أحكام من أمر ونهي وحلال وحرام؛ وإنما ذلك فيما ليس بالناس حاجة إلى العلم به، نحو: الإنباء عن منتهى الملك، وعن عدد الملوك، وعن الإحاطة بحقيقة الموعود، ونحو ذلك. ولا قوة إلا بالله.
لكن يمكن أن يكون سمي متشابهاً؛ بما تشابه على أولئك القوم حقيقة ما راموا من الوجه الذي طلبوا.
وقد بيَّنا الحق في أمر المتشابه، وما يجب في ذلك من القول، وبالله العصمة والنجاة.
وقوله: { هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ }: يحتمل وجهين:
يحتمل أم الكتاب، أي: أصل الكتاب.
ويحتمل أم الكتاب، أي: المتقدم على غيرها؛ وعلى هذا يُخَرِّجُ:
{ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ } [الأنعام: 92، الشورى: 7]، أعني: مكة؛ لأنها هي المتقدمة على غيرها من القرى، ويحتمل هي أصل القرى؛ كما سمى "فاتحة الكتاب": "أم القرآن"؛ لأنها أصل؛ أو لأنها هي المتقدمة على غيرها من السور، والله أعلم.
ويحتمل قوله: { هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ }، أي: مقصود الكتاب، يعني: المحكمات، والمتشابهات مما فيه شبه من غيره؛ فيتشابه؛ فهو متشابه؛ كقولهم:
{ إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } [البقرة: 70]؛ وكذلك المشكل سمي مشكلاً؛ لما يدخل فيه شكل من غيره فسمي مشكلاً؛ فكذلك المتشابه يدخل فيه شبه غيره؛ فصار متشابهاً، والله أعلم.
وقوله [عز وجل]: { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ }.
قيل: ميل عن الحق.
وقيل: الزيغ: هو الريب والشك.
{ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ }
ولو كان ثم اتباع لعذروا؛ إذ الاتباع للشيء اتباع ما فيه من المراد؛ وعلى هذا يقولون في قوله:
{ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } [البقرة: 121]: أي يتبعونه حق اتباعه، وكذلك قوله: { ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ } [الأعراف: 3]. والمتشابه قد أنزل إلينا من ربنا؛ فيحمد متبعه في الحقيقة؛ فثبت أنه لم يكن ثم اتباع في الحقيقة، وأنه لو كان لعذروا، ولكنه كان - والله أعلم - اتباع الآراء في التأويل بالآراء الفاسدة؛ ألا ترى أنهم طلبوا بالتأويل منتهى ملك هذه الأمَّة؟! وفي الوقوف عليه وقوف على علم الساعة وسبب القيامة، وذلك علم ما لم يُطْلِع اللهُ الرسلَ على ذلك، فضلاً أن يطلع عليه غيرهم.
قال الشيخ -رحمه الله -: ويحتمل أن يكون اتباعهم نظرهم فيما تقصر أفهامهم عن الإدراك في الوقوف عليه، ولو كان نظرهم في المحكم من ذلك، لكان لهم في ذلك بلاغ وكفاية فيما إليهم به حاجة، ولا قوة إلا بالله.
قال الشيخ -رحمه الله -: في قوله: { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ }: أي: ميل عن الحق، وذلك همتهم، أو كان ذلك اعتقادهم، فإن كان المراد من ذلك في الكفرة فهو الأوّل، وإن كان في أصحاب الهوى من الذين يدينون دين الإسلام - فهو الثاني؛ وكذلك نجد كل ذي مذهب في الدِّين - ممَّن اعتقد حقيقة الأمر في قوله:
{ ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ } [الأعراف: 3]، وقوله: { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء: 9] الآية، وقوله: { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ... } [النمل: 76] الآية - يتعلق بظاهر الآية؛ يدعي أنها محكمة بما عنده أنه الحق، بعد أن أجهد نفسه في طلب الحق، ويسوي غير ذلك عليه، فإن كان على ذلك فحقه التسليم لما عليه توارث الأمة ظاهراً؛ على ما روي عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر عن تفرق الأمة، ثم أشار إلى التمسُّك بما عليه هو وأصحابه [- رضي الله عنهم -] فعلى ذلك أمر المتوارث؛ فيجب جعله محكماً وبياناً [لما] اختلف عليه، ولا قوة إلا بالله.
ويكوت المتبدع في ابتغاء تأويله؛ يريد التلبيس على من لزم تلك الجملة، وكذلك لأهل جمل في الدِّين مرفوع عليه، كذا التنازع وترك الاشتغال بتأويل ما اعترضه، لكان متبع المحكم عند الأمة مطيعاً المتشابه، ولا قوة إلا بالله.
وإن كان هو الأوَّل فقد ذكر أن ذلك في استخراج منتهى ملك هذه الأمة، وأن نهايته الساعة، والعلم به لم يطلع عليه الرسل فضلاً عمن دونهم، أو كان ذلك في أشياء تقصر عقول الضعفاء عن الإحاطة بذلك؛ يريدون بذلك التلبيس على العوام وأهل الغباوة؛ فأخبر - عز وجل - بما ذكر أنه لا يعلمه إلا الله كان ذلك فيما يعلمه غيره أو لا، فإن كان أطلعه فبالله علم، لا أن في العقول بلوغ ذلك، ومعنى الاتباع ما قد بين.
وقوله: { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ }، أي: من القرآن يقول ما اشتبه حسابهم.
{ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ }.
وقيل: الفتنة: الكفر، ويحتمل "الفتنة": المحنة، أي: يمتحنون أهل الإسلام.
وقوله: { وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ }.
منتهى ما كتب الله - عز وجل - لهذه الأمَّة من المدّة [لهم والوقت]، وأصل التأويل: هو المنتهى.
قال الله - تعالى -: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ }.
أي: وما يعلم منتهى تلك الأمة إلاّ الله.
ثم المتشابه: إن كان ما يوقف فيه فهو، وإن كان مما يعرفه أهل المعرفة، ويعلمه بالواضح - فهو هو، وأصل هذا: أن كل ذي مذهب في الإسلام يدعي على خصمه بما ذهب إليه من الحجاج بالآيات - الوقوع في المتشابه، ولنفسه - الوقوع في الواضح، وعنده أن ما ذهب إليه هو الحق؛ فلا فرق بين أن يدعي عليه ذهابه إلى غير الحق، أو تعديه إلى المتشابه وترك الواضح، فسبيل مثله الفحص والبحث عما ذهب إليه إن جاء بشيء يضطر العقل إلى قبوله سلم له ما جاء به، وإلا فخصمه منه في دعوى مثله: بالوقوع له في المتشابه بمحل دعواه.
وقوله: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ }:
قال قوم: موضع الوقف على قوله: { وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ }، ثم ابتدأ فقال: { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا }: "يقولون"، بمعنى: قالوا، "آمنا به": بما عرفنا، وذلك جائز في اللغة؛ "يقول" بمعنى: "قال".
وقال آخرون: موضع الوقف على قوله: { إِلاَّ ٱللَّهُ }، ثم استأنف الكلام فقال: { وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا }: المحكم والمتشابه وغيره.
قيل: الراسخون: هم المتدارسون.
وقيل: المتثابتون؛ رسخ، بمعنى: ثبت.
وقيل: الراسخون: [الناتجون.
يقال: رسخ في العلم: نتج فيه].
فإن قيل: ما الحكمة في إنزال المتشابه؟.
قيل: إذا كان مما يعلم فهو يحتمل وجهين:
يحتمل: ليعلم فضل العلم على غير العالم.
ويحتمل: أن جعل عليهم طلب المراد فيه، والفحص عما أودع فيه.
وإن كان مما لا يعلم يحتمل المحنة؛ امتحنهم في ذلك بالوقف فيه؛ إذ الدار دار محنة، ولله أن يمتحن عباده بجميع أنواع المحن,
وقوله: { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }.
أي: ما يتعظ إلا أولو الحجج والعقل.