خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ
١٧
وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ
١٨
يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَيُحْي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ
١٩
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ
٢٠
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
٢١
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ
٢٢
وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
٢٣
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
٢٤
وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ ٱلأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ
٢٥
-الروم

تأويلات أهل السنة

قوله: { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } قوله: { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ } فهمت الأمة من قوله: { سُبْحَانَ ٱللَّهِ }: الصلاة؛ أي: صلوا لله، ولو كانت أفهام أهل زماننا هذا لكانوا لا يفهمون سوى التسبيح المذكور.
ثم يحتمل تسميتهم التسبيح: صلاة، وفهمهم منه ذلك لوجهين:
أحدهما: لما في الصلاة تسبيح، فسموها بذلك؛ لما فيها ذلك.
أو لما أن التسبيح تنزيه، والصلاة من أولها إلى آخرها تنزيه الربّ؛ لأن فيها إظهار الحاجات إليه والعجز والضعف، وفيها تعظيم الربّ وإجلاله، ووصفه بالجلال والرفعة، ففهموا من التسبيح الصلاة؛ لما ذكرنا؛ لما هي تنزيه للرب من أولها إلى آخرها.
ثم منهم من قال: إن الصلوات الخمس ذكرت في هذه الآية بقوله: { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ }: صلوات المغرب والعشاء الآخرة { وَحِينَ تُصْبِحُونَ } صلاة الفجر { وَعَشِيّاً } صلاة العصر { وَحِينَ تُظْهِرُونَ } صلاة الظهر.
ومنهم من يقول: لا؛ بل ذكرت فيها أربع صلوات: { حِينَ تُمْسُونَ }: المغرب { وَحِينَ تُصْبِحُونَ }: الفجر { وَعَشِيّاً }: العصر { وَحِينَ تُظْهِرُونَ }: الظهر، وأمّا العشاء الآخرة ففي قوله:
{ وَمِن بَعْدِ صَلَٰوةِ ٱلْعِشَآءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ } [النور: 58]، والله أعلم.
وقوله: { وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } يحتمل قوله: { وَلَهُ ٱلْحَمْدُ } على التقديم والتأخير يقول: سبحان الله وله الحمد؛ فيكون الحمد كناية عن الصلاة كالتسبيح.
أو لما فيها من التحميد.
أو يقول له يحمد أهل السماوات والأرض، والله أعلم.
وقوله: { حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } { وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ } أي: إذا دخلوا في المساء والعشاء والصبح والظهر.
وقوله: { يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ } يخبر عن قدرته في إنشاء الأشياء مبتدئاً، لا من أصل؛ لأنه قال: { يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ } والميت ليس فيه الحياة، وكذلك الميت من الحي، وليس في الحي موت، ولكنه يخرج هذا من هذا على ابتداء الحياة فيه، وابتداء الموت فيه من غير أن كان فيه ما ذكر.
ثم اختلف فيه أهل التأويل:
قال بعضهم: يخرج الناس والدواب والطير من النطف، { وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ } يعني: النطف { مِنَ ٱلْحَيِّ } من الناس والدواب والطير.
وقال بعضهم: { يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ } أي: المسلم من الكافر { وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ } أي: الكافر من المسلم.
ولكن يجيء على هذا أن يقول: يخرج من المسلم ما يكون كافراً، ومن الكافر ما يصير مسلماً؛ لأن ما يخرج لا يوصف بالإسلام، ولا بالكفر، ولا ينسب إلى واحد منهما وقت الخروج حتى يبلغ فيكون منه فعل الكفر أو فعل الإسلام، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم، وفي الآيات التي تقدم ذكرها؛ من نحو قوله:
{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ... } الآية [الروم: 8]، وقوله: { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ... } الآية [الروم: 9]، وأمثال ذلك مما يذكر ويخبر أولئك الكفرة عن قدرته وسلطانه، وألزمهم ذلك.
وفي الآية نقض قول المعتزلة؛ لأنهم لا يملكون القدرة على فعل بعوضة، فلا يكون لهم الاحتجاج على أولئك الكفرة في القدرة على الإعادة والإنشاء بعد ما صاروا رماداً، أو كلام نحو هذا.
وقوله: { وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } أي: كذلك تبعثون وتحيون، كما أخرج الحيّ من الميت والميت من الحيّ، من غير أن كانت الحياة في الميت والموت في الحي، والله أعلم.
وقوله: { وَمِنْ آيَاتِهِ } يحتمل: آيات وحدانيته وربوبيته وحججه، وآيات بعثه وإحيائه، وآيات رسالة الرسل، ونحوه.
وقوله: { أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } يخرج على وجوه:
أحدها: نسب خلقنا إلى التراب؛ لأنا إنما خلقنا من أصل، خلق ذلك الأصل من التراب، وهو آدم، وإن لم تكن أنفسنا مخلوقة من تراب حقيقة، كما نسب خلقنا إلى النطفة وإن لم يخلق أنفسنا كما هي من النطفة، لكنه أضاف ذلك ونسب إلى النطفة؛ لما هي أصل ما خلقنا منها.
والثاني: نسبنا إلى التراب؛ لما جعل أغذيتنا وما به قوام أنفسنا وأبداننا في الخارج من التراب، فإنما هو إخبار عما به قوام أنفسنا وأبداننا، وإن لم نخلق من التراب من الأصل، فيخبر - والله أعلم -: أنكم لا تصورون خلق الجسم إن لم تشاهدوا تلك الطينة التي منها تتكون الأجسام بعد مشاهدة طينتها، ومعاينتكم إياها، ورأيتم القدرة له على خلقها قبل أن تشاهدوا طينتها.
والثالث: نسب خلقنا إلى التراب، وهو آدم؛ على ما ذكرنا، إلا أن قوله: { خَلَقَكُمْ } أي: قدركم من ذلك الأصل، والتخليق: هو التقدير في اللغة، وذلك جائز في اللغة، وإنما قدرنا على تقدير ذلك الأصل، وذلك جائز نسبتنا وإضافتنا إلى التراب، إن صح ما ذكر في بعض الأخبار ذكر: "أن ملكاً يأتي بكف من تراب، فيذره في تلك النطفة في رحم المراة، فيخلق منه حينئذ الولد"، فإن صح هذا فيكون خلق جميع الناس وأصلهم من تراب.
وقوله: { ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } أي: ثم إذا أنتم ذريته من بعده بشر تنبسطون؛ كقوله:
{ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ } [الشورى: 28] أي: يبسط.
أو { تَنتَشِرُونَ }، أي: تتفرقون في حوائجكم، وفي طلب أغذيتكم، وما به قوام أنفسكم، والله أعلم.
وقوله: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } أي: من أجناسكم وأشكالكم { لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا } يقول: إنما جعل ما تسكنون إليه وتتألفون من جنسكم وشكلكم ما تعرفون، لم يجعل في غير جنسكم وشكلكم ما تعرفون؛ كقوله:
{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [التوبة: 128] أي: من جنسكم وشكلكم من تعرفون صدقه وثقته وأمانته ما لو كان من غير جنسكم وشكلكم لا تعرفونه؛ فعلى ذلك جائز قوله: { خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } أي: من جنسكم ما تسكنون إليها، وتستأنسون بها ما لو كانوا من غير جنسهم لا يكون ذلك؛ إذ يستأنس كل ذي شكل بشكله وجنسه.
والثاني: ما ذكرنا أنه أراد آدم وحواء؛ أي: خلق زوجته حوّاء من نفسه، فجعلها له سكناً يسكن إليها، ويستأنس بها، والله أعلم.
وقوله: { وَجَعَلَ بَيْنَكُم } أي: بينكم وبين الأزواج { مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } يحتمل قوله: { مَّوَدَّةً } وجهين:
أحدهما: يودها؛ لما جعل له موضعاً لقضاء شهوته وحاجته، وكذلك هي توده لذلك، { وَرَحْمَةً } أي: يرحم بعضهم بعضاً، ويتحنن إليه، إذا نزل بواحد منهما ما يمنع قضاء الشهوة والحاجة.
والثاني: يودّ بعضهم بعضاً ويرحم بالطبع والخلقة؛ إذ كل ذي طبع يودّ شكله وجنسه إذا كان في حال السعة والرخاء والسرور، ويرحمه إذا نزل به البلاء والشدة؛ هذا معروف عند الناس أن يتراحم بعضهم على بعض في حال نزول البلاء والشدة، وتوادهم في حال السعة والسرور.
وقال الحسن: { وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً } أي: الجماع { وَرَحْمَةً } أي: الولد.
فكيفما كان فهو يخبر عن لطفه ومنته؛ حيث جعل الزوج والزوجة المودة والرحمة على عدم القرابة والرحم، وبعد ما بينهما؛ فصارا لما ذكرنا في المودة والرحمة كالقريبين وذَوَي الرحمين وأقرب القريب، وذلك على المعتزلة؛ لأنه أخبر أنه { جَعَلَ }: بينهم مودة ورحمة، وذلك فعل الزوجين في الظاهر، ثم أضاف ذلك إلى نفسه، وأخبر أنه { جَعَلَ } دل أن له صنعاً في ذلك؛ فيبطل قولهم: إن ليس لله صنع في فعل العباد، ويبطل اللطف الذي ذكر أنه جعل بينهم.
وقوله: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ } لما ذكرنا من آيات وحدانيته وربوبيته، وآيات البعث والنشور، أو آيات الرسالة والنبوة { لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } لقوم ينتفعون، وهم المؤمنون، أو { لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ويتدبرون ويعتبرون، فيعرفون، فأما من لا يتفكر ولا يتدبر فلا ينتفع به، فهو ليس بآيات له، والله أعلم.
وقوله: { وَمِنْ آيَاتِهِ }: [آيات] وحدانيته وربوبيته وألوهيته، وآيات بعثه.
وقوله: { خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } في خلق السماوات ورفعها في الهواء وإقرارها فيه آية؛ لأنه غير موهوم مثله من فعل الخلق وقدرتهم، وهكذا خلق الأرض وبسطها وإقرارها على الماء، أو على الريح خارج عن فعل الخلق ومن قدرتهم، غير موهوم ذلك في أوهامهم وعقولهم من غير الواحد العالم القادر بذاته، فإذا كان ما ذكر غير موهوم في أوهامهم وعقولهم من غير الله فهم إنما أنكروا البعث لما لم يعاينوا ذلك ولا شاهدوا في أوهامهم، فكيف أنكروا البعث وإن كان غير موهوم ذلك في أوهامهم، بعد أن كان ذلك موهوماً من الله، مشاهداً، معايناً لمثل هذا؟! والله أعلم بذكر هذا.
وقوله: { وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ } كأنه يقول: وفي خلق اختلاف ألسنتكم آياته أيضاً؛ لأن الألسن بحيث خلقة الألسن غير مختلفة، ولكن إنما تختلف بحيث النطق والتكلم حتى لا يقع في التكلم بها والنطق والصوت تشابه بحال، وخروجه عما يقدرون من الكلام، وإن كانت بحيث خلقتها واحدة غير مختلفة.
وهذا على المعتزلة؛ لقولهم: إن أقوال العباد غير مخلوقة، لا صنع لله فيها، فلو لم يكن له فيما يتكلمون وينطقون على اختلاف ذلك صنع؛ فلا آية تكون له في ذلك، فدل أنه صار آية له؛ لما له صنع في ذلك، وكذلك فيما تختلف الألوان بفعل يكون من الخلق وتتغير عند الغضب والسرور والفرح، ثم أخبر أن ذلك آياته دل أنه خالق لأفعالهم وأقوالهم حتى كان آية له والله أعلم.
وأهل التأويل يقولون: { وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ }: عربيّ، وعجميّ، ونبطي، وتركي، ونحوه { وَأَلْوَانِكُمْ }: أبيض، وأحمر، وأسود، ونحوه، وأصله ما ذكرنا أن في ذلك لآيات للعالمين؛ جائز أن يكون آيات لمن انتفع به من العالمين، أو آية لمن تفكر وتدبّر من العالمين؛ لأنه إذا تفكر وتدبّر عرف وجه الآية في ذلك.
وقوله: { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ } لأن النوم يأخذهم من غير أن يعرفوا أنه من أين مأتاه ومأخذه، ثم يأخذ منهم جميع منافع الأحياء: من السمع، والنطق، والفهم، والرؤية، وجميع ما تنتفع به قبل ذلك، ثم يردّ ذلك إليهم من غير أن عرفوا بذلك فيعودون إلى ما كانوا من المنافع والأكساب؛ ليعلم أن من قدر على مثل هذا يقدر على أخذ الروح ونفسه وردّه إليه، فهو أخو الموت؛ قال الله - تعالى -:
{ يَتَوَفَّٰكُم بِٱلَّيلِ } [الأنعام: 60] سمّى النوم: الوفاة، وهو مثله؛ لما ذكرنا أن جميع منافع الأحياء ترتفع وتزول بالنوم ثم ترد إليهم من غير أن يشعروا بذلك، فمن قدر على هذا يقدر على الإحياء بعد الموت.
وقوله: { وَٱبْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ } جهة الآية فيما ينتفعون من فضله هو خلقه تلك المكاسب والتجارات والحرف التي يبتغون بها الرزق؛ أخبر أنه خلق ذلك منهم؛ ففيه دلالة خلق أفعال العباد؛ فهو على المعتزلة؛ لإنكارهم خلق أفعالهم.
أو أن تكون جهة الآية فيه ما عرفهم تلك المكاسب والتجارات والحرف، وعلمهم إياها وأحوجهم إليها؛ ليصلوا إلى منافعهم، والله أعلم.
وقوله: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } يحتمل قوله: { لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي: ينتفعون بسمعهم، أو لقوم يجيبون.
والسمع يجوز أن يعتبر به عن الإجابة؛ كقوله: "سمع الله لمن حمده"؛ أي: أجاب الله لمن دعاه.
أو أن يكون قوله: { لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي: يعقلون، ويجوز العبارة [به] عنه؛ كقوله: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي: يعقلون، ويقال: { لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } المواعظ فيقبلونها فينتفعون بها.
وقوله: { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً }.
قيل فيه بوجهين:
أحدهما: يريكم البرق للخوف والطمع: تخافون سلطانه وقدرته أن يصيبكم ذلك البرق فيذهب بأبصاركم، وطمعاً ترجون رحمته بصرفه عنكم.
والثاني: { خَوْفاً وَطَمَعاً } أي: يريكم البرق فتخافون وتطمعون؛ يخاف المسافر قطع مسيره ومنعه عنه، وتطمعون، أي: يطمع المقيم رحمته ما يكثر به أنزاله ومعاشه.
والثاني: تخافون الصواعق، وتطمعون المطر، وهو ما ذكرنا، والله أعلم.
وقوله: { وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } هو ظاهر، قد ذكرناه { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } يحتمل ما ذكرنا { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }: ينتفعون بعقولهم، أو { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } لو تدبروا وتفكروا، والله أعلم.
وقوله: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ بِأَمْرِهِ }: هو ما ذكرنا أنه قامتا على شيء غير موهوم ذلك في أوهام الخلق قيام شيء من أفعالهم على مثله، وهو الهواء والماء والريح، فكيف حملهم خروج شيء من أوهامهم على إنكاره وتكذيبه، وهو البعث والإحياء بعد الموت، فمن قدر على أحدهما قدر على الآخر.
وقوله: { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ ٱلأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } اختلف فيه:
قال بعضهم: هو على التقديم [والتأخير]، أي: ثم إذا دعاكم دعوة إذا أنتم تخرجون من الأرض، والدعوة هو النفخة الآخرة.
وقال بعضهم: هو ما ذكر: الدعوة تكون من الأرض من صخرة بيت المقدس، من هنالك يسمعون الدّعوة.
ثم اختلف في الدعوة، والصيحة، والنفخة، والصور، ونحو ما ذكر:
فمنهم من يقول: على حقيقة الدعوة، والصيحة، والنفخة، والصور، على ما ذكر.
وقال بعضهم: لا، ولكن ذلك إخبار عن سرعة نفاذ الأمر، وعبارة عن خفة ذلك وهونه؛ كقوله:
{ وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [النحل: 77] وقوله: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [النحل: 40] ليس أن كان منه (كاف) أو (نون)، لكنه ذكر بأخف حروف يفهم منه المعنى فعلى ذلك ذكر الصيحة والنفخة والدعوة والصور, والله أعلم.
وفي قوله: { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ ٱلأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } دلالة وإخبار أنه قادر على الإنشاء والإحياء بلا سبب؛ لأنه أخبر أنه دعاكم دعوة ثم تخرجون، والدعوة ليست هي سببا للإحياء والإنشاء بل أخبر أنه يخرجهم إخراجاً ثبت أنه ما ذكرنا، وقد ذكرنا في اختلاف الألسن لو لم يكن ما يسمع منهم وما ينطقون يخلق في الحقيقة فإذن آياته عبث؛ لأن الحروف شهد خلقه، ولا جسمه، ولا سمعه، وبما احتج، فيكون بمعنى من يقول: لله آيات في الكلام احتج بها على عبادة الذين لم يطلعهم عليه، ولا سبيل لهم إلى التطلع عليها، وذلك بعيد من العقول، فثبت أن الله قد خلق كل نطق على ما عليه يعرفه المتفكر بما يرى من عجز المتفوه به على التفوه به على التقطيع الذي يقدره في نفسه، وعلى الحدّ الذي يجب أن يكون عليه دون أن يقع في ذلك تفاوت واختلاف فيعلم أن ذلك كان الآية على ما كان عليه؛ بل بالله جل وعلا، ولا قوة إلا بالله.
وما ذكر من اختلاف فإنا نجده يتغير بالعباد؛ نحو ما يظهر عند شدّة السّرور بالشيء غير الذي يظهر عند شدة الغضب متولداً عن فعلهم وبه قول المعتزلة أو عامتهم أن المتولد هو فعل الخلق، فعلى ذلك القول يكون اللون فعلا لهم بتخليق الله، وأمّا النوم في اللون فوضع، فالاعتبار إنما هو بابتغائهم من فضله؛ أي: ذلك بما ركب فيهم من الحاجة وأنشأ لهم من الفاقة فيما ذكر من الأغذية بأن ابتغاءها فعلا للخلق، وقد احتج الله - سبحانه وتعالى - على العباد، فأخبر أنه من آياته، ومحال أن يكون حجته ما يخلق غيره دون الذي يخلقه بل يدل خلق كل على منشئه من طريق الخلقة والتدبير، فثبت أن الابتغاء مخلوق يخلقه، والله الموفق.