خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ
٥٥
وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَٱلإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْبَعْثِ فَهَـٰذَا يَوْمُ ٱلْبَعْثِ وَلَـٰكِنَّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ
٥٦
فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ
٥٧
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ
٥٨
كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
٥٩
فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ
٦٠
-الروم

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ }.
قال بعض أهل التأويل: يقسم المجرمون: إنهم لم يلبثوا في قبورهم غير ساعة، وكذلك يقولون: في قوله:
{ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ... } الآية [المؤمنون: 112-113].
لكن الأشبه أن يكون قوله: { يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ }: الدنيا في المحنة، لا في القبور، استقصروا مقامهم في الدنيا؛ تكذيباً لما ادعى عليهم من الزلل والمعاصي أنواع الكفر؛ يقولون: إنا لبثنا في الدنيا وقتا لا يكون منا في مثل ذلك الوقت وتلك المدة الزلل والمعاصي؛ ألا ترى أنهم قد كذبوا في إنكارهم طول المقام فيها؛ حيث قال: { كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ }، أي: كذلك كانوا يكذبون في الدنيا أن لا بعث ولا حياة بعد الموت ولا حساب، ولولا هذا التكذيب لهم على أثر قولهم: { مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ }، وإلا كان الظاهر أنهم قد استقصروا المقام في الدنيا؛ لطول المقام في الآخرة وشدة العذاب في ذلك وهوله، لكنه - والله أعلم - ما ذكرنا أنهم يقسمون: إنهم ما لبثوا غير ساعة في الدنيا؛ إنكارا وجحوداً لما ادعى عليهم من الزلل والمعاصي، يقولون: إنا لم نلبث في الدنيا إلا ساعة، فكيف عملنا فيها هذا الزلل وأنواع الشرك والكفر؛ فأخبر أنهم { كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ }، أي: كذلك كانوا يكذبون في الدنيا ويقسمون؛ حيث قال:
{ وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ } [النحل: 38] فذلك القسم منهم أنهم ما لبثوا غير ساعة كذب وإنكار للمقام، كما كذبوا وأنكروا الشرك؛ حيث قالوا { وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعام: 23].
وقوله: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَٱلإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْبَعْثِ }.
اختلف فيه:
قال بعضهم: هو على التقديم والتأخير؛ كأنه: قال الذين أوتوا العلم في كتاب الله، أي: أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان به: لقد لبثتم إلى يوم البعث فهذا يوم البعث.
وقال بعضهم: قال الذين أوتوا العلم والإيمان: لقد لبثتم في علم الله في الدنيا إلى يوم البعث، فهذا يوم البعث.
وبعضهم يقول: وقال الذين أوتوا العلم والإيمان: لقد لبثتم فيما كتب الله لكم من الآجال إلى انقضاء آجالكم وفنائها.
وقوله: { فَهَـٰذَا يَوْمُ ٱلْبَعْثِ } الذي كنتم تنكرونه وتكذبونه.
{ وَلَـٰكِنَّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ }.
هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: على حقيقة نفي العلم عنهم، لكنهم لا يعذرون لجهلهم بذلك؛ لما أعطوا أسباب العلم لو تفكروا وتأملوا لعلموا.
والثاني: على نفي الانتفاع بعلمهم؛ على ما نُفي عنهم حواس كانت لهم؛ لما لم ينتفعوا بها؛ فعلى ذلك جائز نفي العلم عنهم بذلك لما لم ينتفعوا بما علموا، والله أعلم.
وقوله: { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ }.
ليس على أن يكون لهم عذر فلا ينفعهم ذلك، ولكن لا عذر لهم ألبتة.
أو أن يكون معذرتهم ما ذكروا: { مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ } فذلك معذرتهم؛ فلا ينفعهم ذلك؛ لأنهم كذبة في ذلك.
وقوله: { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ }.
الاستعتاب: هو الاسترجاع عما كانوا فيه، فهم لا يطلب منهم الرجوع عما كانوا عليه في ذلك الوقت، والعتاب في الشاهد: أن يعاتب؛ ليترك ما هو عليه ويرجع عما كان منه فيما مضى، وذلك لا ينفع للكفرة في ذلك اليوم، والله أعلم.
وقوله: { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً }.
أي: رأوا ذلك الزرع والنبات مصفرا، أي: يابساً؛ لما أصابه من الريح والبرد.
{ لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ }.
قيل: لأقاموا، وقيل: لصاروا، وقيل: لمالوا، وكله يرجع إلى معنى واحد، وهو ما تقدم ذكره من القنوط، أي: يقنطون وييئسون من رحمته، ويكفرون رب هذه النعم.
وفي حرف ابن مسعود: { إنك لا تسمع الموتى إنك لا تبعث الموتى }.
وقوله: { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ }.
جائز أن يكون ما ذكر من ضرب المثل للكفار خاصة، يقول: قد بينا لهم ما يعظهم ويزجرهم عما هم فيه، ويدعوهم إلى الإيمان والتوحيد، لكنهم اعتقدوا العناد والمكابرة.
وقوله: { وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ }.
أي: لو جئتهم بالآية التي سألوك - أيضاً - فلا يصدقوك ولا يقبلوا الهدى، ويقولون ما ذكر:
{ لَّيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ }.
ويشبه أن يكون ما ذكر من ضرب المثل للفريقين جميعاً للمؤمن والكافر، ويكون التأويل - والله أعلم -: ولقد ضربنا وبينا للناس لأفعالهم وأحوالهم من القبيح والحسن مثلا وشبها ما يعرفون به قبح كل قبيح، وحسن كل حسن، وما بين لهم الحق من الباطل، والعدل من الجور؛ لأن أولئك الكفرة لم يعتبروا ولم يتأملوا، ثم رجع إلى وصف أولئك الكفرة، فقال: { وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ }، أي: بزيادة في البيان، والوضوح، { لَّيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ }، والله أعلم.
وقوله: { كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }.
قد ذكرنا في غير موضع أن قوله: { لاَ يَعْلَمُونَ } يخرج على وجهين:
أحدهما: لم يعلموا؛ لما لم يتأملوا ولم ينظروا في أسباب العلم لكي يعلموا، ولا عذر لهم في جهلهم ذلك؛ لما أعطوا أسباب العلم، لكنهم لم يستعملوها فمنهم جاء ذلك؛ فلم يعذروا.
والثاني: نفى عنهم العلم على وجوده لهم وكونه؛ لما لم ينتفعوا بما علموا، على ما ذكرنا من نفي الحواس عنهم، مع وجود تلك الحواس وكونها لهم؛ لما لم ينتفعوا بها ولم يستعملوها فيما جعلت تلك وأنشئت لها؛ فعلى ذلك العلم، والله أعلم.
وقوله: { فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ }.
قال بعضهم: فاصبر على تكذيبهم إياك بالعذاب الذي وعدت لهم؛ إن وعد الله حق في العذاب بأنه نازل بهم.
وجائز أن يكون قوله: { فَٱصْبِرْ }؛ أي: اصبر على أذاهم الذي يؤذونك؛ إن وعد الله حق في النصر لك والمعونة.
وقوله: { وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ }.
كأنه يقول: لا يحملنك أذاهم إياك حتى تدعو عليهم بالعذاب والهلاك.
وقال بعضهم: { وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ }، أي: لا يستفزوك، ويقول: لا يستجهلنك، وأصله ما ذكرنا: ألا يحملنك أولئك الكفرة على الخفة والعجلة والجهل؛ حتى تدعو عليهم بإنزال العذاب والهلاك لهم، وهو - والله أعلم - كأنه من الاستخفاف.