خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ أَنِ ٱشْكُرْ للَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
١٢
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يٰبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
١٣
وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ
١٤
وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
١٥
يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
١٦
يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ
١٧
وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
١٨
وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ
١٩
-لقمان

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ }.
قال بعضهم: الحكمة هي الإصابة في القول والفعل من غير نبوة.
وقال بعضهم: أعطي الفهم واللب، وقيل: الفهم والفقه في الدين، وقيل: العلم؛ كأنه يقول: أعطيناه العلم والفهم بالكتب المتقدمة.
والفقه: هو معرفة الشيء بنظيره الدال على غيره، أو معرفة ما غاب بما شهد، أو معرفة الخفي الباطن بالظاهر، ونحوه.
والفلاسفة يقولون: الحكمة هي المعرفة مع العمل، والحكيم: هو الذي له المعرفة والعلم والعمل جميعاً؛ فحينئذ يسمى: حكيماً.
وقوله: { أَنِ ٱشْكُرْ للَّهِ }.
كأنه قال: { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ } يحتمل الوجوه التي ذكرنا - وقلنا له: أن اشكر لله فيما أعطاك من الحكمة، وغير ذلك من النعمة، وهذا يدل أن لله فيما يكتسب المؤمن الحكمة والعلم صنعاً؛ إذ لو لم يكن له [لما كان] لقوله: { آتَيْنَا } معنى؛ إذ هو للعبد وكسبه ألا ترى أنه أمره أن يشكر له على ذلك، ولو لم يكن له صنع في ذلك لكان لا يأمره بالشكر له على ما لا صنع له فيه؛ إذ يخرج ذلك مخرج طلب الحمد والشكر على ما لم يفعل، وقد ذم من أحب أن يحمد بما لم يفعل؛ فلا يحتمل أن يأمر هو بالحمد والشكر على ما لم يفعل ولا صنع له في ذلك؛ دل أنه له فيه صنعاً، وهو ينقض على المعتزلة في قولهم: أن ليس لله في فعل العبد صنع، والله أعلم.
وقوله: { وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ }.
هذا يدل أن ما يأمر عباده وينهاهم، وفيما امتحنهم إنما يمتحنهم ويأمرهم وينهاهم؛ لمنافع أنفسهم وحاجتهم، لا لمنفعة نفسه أو لحاجته؛ حيث قال: { وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ }؛ حيث يتم تلك النعمة ويديمها له؛ فهو بالشكر ينفع نفسه. من كفر فإنما ضرر كفره يلحقه دون الله؛ ألا ترى أنه قال:
{ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }.
أي: غني عن شكره وحمده، حميد وإن لم يحمده أحد من خلقه؛ لأنه غني بذاته، حميد بصنائعه وآلائه وإن لم يحمد هو ولم يشكر على ذلك، لا ينفعه شكر أحد ولا حمده، ولا يضره كفران أحد ولا ترك الشكر له والحمد، وبالله الحول والقوة.
وقوله: { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يٰبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }.
يحتمل قوله: { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } وجوهاً:
أحدها: ظلموا أنفسهم؛ حيث وضعوها في غير موضعها، وأوقعوها في المهالك، بعدما صورها أحسن تصوير ومثلها أحسن تمثيل، وأعظم الظلم من عمل وسعى في هلاك نفسه.
أو { لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }: ظلموا نعم الله؛ حيث صرفوا شكرها إلى غير منعمها.
أو ظلموا ظلماً عظيماً؛ حيث لم يقبلوا شهادة وحدانية الله وألوهيته فيما جعلها في خلقتهم وبنيتهم؛ إذ جعل في خلقة كل أحد الشهادة على وحدانيته وربوبيته، وذلك أعظم الظلم وأفحشه.
وقوله:{ وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ }.
ولم يذكر هاهنا بماذا وصاه، فجائز الوصية بما ذكر في آية أخرى؛ حيث قال:
{ وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } [العنكبوت: 8] و { إِحْسَاناً } [البقرة: 83]، والإحسان: هو اسم ما حسن من فعل. وقوله: { حُسْناً }: هو اسم ما حسن مما كان يفعله، وهما واحد في الأصل.
وقوله: { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ }.
أي: ضعفا على ضعف، أي: كلما مضى عليها وقت ازداد فيها ضعف على ضعف ووجع على وجع، أمر بالإحسان إليهما جميعاً، ثم ذكر ما حملت الأم من المشقة والشدة، ولم يذكر من الأب شيئاً، وقد كان للأب وقت احتمال الأم المشقة - اللذة والسرور والفرح؛ فجائز أن يقال: إن كان من الأب بإزاء تلك المشقة التي احتملت الأم معنى ما يؤمر أن يشكر له ويحسن إليه - وهو ما يتحمل من الإنفاق عليها وعليه في حال الرضاع، وهو ما ذكر
{ وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ } [البقرة: 233]، وقوله: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [الطلاق:6] أو ما جعله مطعوناً في الناس بحيث لم يعرف له نسب ينسب إليه؛ بل جعله معروف النسب غير مطعون في الخلق ونحوه.
ثم ذكر الفصال ولم يذكر الرضاع والمشقة في الإرضاع لا في الفصال، لكنه ذكر تمام الرضاع وكماله؛ إذ بالفصال يتم ذلك ويكمل، وفي ذكر التمام له والكمال ذكر الرضاع، وليس في ذكر الرضاع نفسه ذكر تمامه؛ لذلك كان ما ذكر، والله أعلم.
وقوله: { أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ }.
أمر بالشكر له ولوالديه، وحاصل الشكر راجع إليه دون من يشكر له؛ إذ كل من صنع إلى آخر ما يستوجب به الشكر والثناء - فبالله صنع ذلك إليه وبنعمه كان منه ذلك؛ فكل من حمد دونه أو شكر - فراجع إليه في الحقيقة ذلك.
ثم يخرج قوله: { أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } على وجهين:
أحدهما: اشكر لي فيما تشكر والديك بإحسانهما إليك؛ فإنهما ما أحسنا إليك إلا بفضلي ورحمتي؛ كقوله:
{ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ } [البقرة: 200]، أي: اذكروا الله فيما تذكرون آباءكم بصنعهم؛ فإنهم إنما فعلوا ذلك بفضل الله.
أو أن يكون قوله: { ٱشْكُرْ لِي } فيما أنعمت عليك، { وَلِوَالِدَيْكَ }: فيما أحسنا إليك وربياك، والله أعلم.
وقوله: { إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ }: قد ذكرنا أنه خص ذلك المصير إليه، وإن كانوا في جميع الأوقات صائرين إليه راجعين بارزين له؛ لما المقصود من إنشائهم في هذا ذاك، وصار إنشاؤهم وخلقهم في الدنيا حكمة بذاك، ما لولا ذلك لكان عبثاً باطلا، على ما ذكر، والله أعلم.
وقوله: { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا }.
أمر في الآية الأولى بالإحسان إليهما وبالبر لهما والطاعة، ثم بين أن لا في كل أمر يطاعان، ولا في جميع ما يأمران ويسألان يجابان؛ إنما يطاعان ويجابان فيما يؤذن لهما ويباح لهما، لا فيما لا يؤذن ولا يباح بحال؛ بل يؤمر بالخلاف لهما واعتقاد المعاداة، فضلا أن يطاعا ويجابا إلى ما يدعوان أو يأمران، وكذلك ذكر في الخبر:
"أن لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق" . وإنما أمر بحسن المصاحبة لهما والمعروف: فيما لم يكن في ذلك معصية الخالق؛ حيث قال: { وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً }.
وقوله: { وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ }.
قال بعضهم: اتبع دين من أقبل إلى ورجع إلى طاعتي وهو النبي.
أو أن يكون قوله: { وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ }، أي: اتبع سبيلي وديني؛ كقوله:
{ وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ } [الأنعام: 153]، فعلى ذلك الأول جائز أن يكون تأويله: اتبع سبيلي وديني، ولا تتبع غيري، [واتبع] سبيل من أناب ورجع إلي، ولا تتبع سبيل من لم ينب ولم يرجع إلي.
ثم أخبر برجوع الكل إليه: من رجع وأناب إليه، ومن لم يرجع ولم ينب إليه؛ على الوعيد حيث قال: { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ... } الآية، وهو كقوله:
{ لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ... } [النساء: 172] إلى قوله: { فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } [النساء: 172]، أي: من استنكف ومن لم يستنكف يحشر إليه جميعاً؛ فعلى ذلك الأول، والله أعلم.
وقوله: { يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ }.
لا يحتمل أن يكون هذا الكلام والقول من لقمان كان لابنه ابتداء من غير سؤال كان في ذلك؛ فيعلم أنه كان ذلك منه عن سؤال، لكن لا نعلم ما كان السؤال؟ وعم كان؟
فإما أن كان السؤال عن علمه، فأخبره بما ذكر من حبة مستترة التي ذكر، مكنونة في أخفى الأمكنة عن الخلق، فيما لا يطلع أحد منهم ولا يبلغه علم الخلائق { يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ }، أي: يعلمها الله؛ فإن كان على هذا [الذي] ذكر فيلزمهم أن يكونوا أبداً مراقبين أعمالهم وأحوالهم في جميع حالاتهم وأوقاتهم وجميع أمورهم؛ لما لا يخفى عليه شيء.
أو أن يكون السؤال عن قدرة الله وسلطانه؛ فأخبر أن الله - تعالى قادر على استخراج تلك الحبة التي استترت واحتجبت عن الخلق بالحجب التي ذكر: ما يعجز الخلائق عن استخراج مثلها من مثل تلك الحجب والأمكنة؛ فيخافون قدرة الله، ويهابون سلطانه في الانتقام منهم في مخالفة أمره ونهيه.
أو أن يكون السؤال عن الرزق فيخبر بهذا أن الشيء وإن كان في مكان لا يبلغه وسع البشر وحيلهم في استخراج ذلك منه والوصول إليه بحال - فالله سبحانه؛ بلطفه يرزق الخلق بأشياء خارجة عن وسعهم وحيلهم ما لا يقع لهم الطمع في ذلك؛ ليكونوا أبداً في كل حال مطمئنين في الرزق لا يؤيسهم عجزهم ولا تعذر حيلهم عن ذلك، وألا يعلقوا قلوبهم في الرزق بالأسباب التي بها يكتسبون؛ وكذلك قال:
{ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [الطلاق: 3].
أو أن يكون السؤال عن جزاء ما يعمل المرء من قليل أو كثير ومما عظم ولطف، فيخبر أنه يجزي بقليل العمل وكثيره، وكذلك يقول بعض أهل التأويل ذلك: { يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ }: من خير أو شر، { فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ }: في جبل، { أَوْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ }، أي: يجازيها الله؛ فيكون على هذا التأويل كقوله:
{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [الزلزلة: 7]، فأي شيء كان، ففي ذلك: دلالة وحدانية الله، ودلالة علمه وتدبيره، ودلالة قدرته وسلطانه، ودلالة الثقة به، والتوكل عليه في الرزق، والتفويض في الأمر في كل ما خرج عن وسع الخلق، والله أعلم.
وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ }.
قال عامة أهل التأويل: إن الله لطيف في استخراج تلك الحبة، خبير بمكانها، وتأويل هذا الكلام: أي: يستخرج تلك الحبة من الحجب التي ذكر والأستار التي بين استخراجا لا يشعر بها أحد، ولا علم كيفية الاستخراج منها ولا ماهيته.
واللطيف: هو البار.
ثم يخرج هو على وجهين:
أحدهما: فيما أرسل من الرسول، وما أنزل من الكتب؛ ليدلهم إلى ما يهتدون وإلى ما به نجاتهم، خبير بحوائجهم.
والثاني: تأويل اللطيف يحتمل وجهين:
أحدهما: البار على ما ذكرنا.
والثاني: في استخراج أمور لا يبلغها وسع الخلق ولا علمهم وحيلهم، والله أعلم.
وقوله: { يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ }.
يحتمل الأمر بإقامة الصلاة وجهين:
أحدهما: الصلاة التي عرفتها العرب، وهي المسألة والدعاء والثناء على الله والتحميد له والتمجيد؛ كقوله:
{ إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ... } الآية [الأحزاب: 56].
وهذه الصلاة المذكورة في هذه الآية هي الدعاء والاستغفار والرحمة له والمغفرة؛ فعلى ذلك يشبه أن يكون الأمر بإقامة الصلاة هي الأمر بمسألة الرب حوائجه ومغفرته ورحمته؛ ليكون أبداً في كل حال متضرعاً إلى الله، مظهراً حاجته إليه ومثنيا عليه، واصفاً عظمته وجلاله وكبريائه.
والثاني: أراد به الصلاة المعروفة المعهودة على شرائطها التي جعلت وشرعت؛ فإن كان هذا ففيها - أيضاً - ما في الأول من الدعاء والثناء على الله - تعالى - والوصف له بالعظمة والجلال؛ لأنها جعلت من أولها إلى آخرها ذلك.
وإن كان أراد بالصلاة؛ الصلاة المعروفة ففيه أن الصلاة التي شرعت لنا كانت للأمم المتقدمة، وعلى ذلك يخرج قول إبراهيم حيث قال:
{ رَبِّ ٱجْعَلْنِي مُقِيمَ ٱلصَّلاَةِ } [إبراهيم: 40] وقول عيسى حيث قال: { وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ } [مريم: 31]، والله أعلم.
وقوله: { وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ }.
المعروف: اسم كل بر وخير وكل مستحسن في العقل والطبع.
والمنكر: اسم كل شر وسوء مستقبح في العقل والطبع.
ثم يخرج قوله: { وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } على وجوه:
أحدها: المعروف الذي جاءت [به] الرسل عن الله، وشرعوه للخلق، ودعوا [إليه] الخلق.
والمنكر - أيضاً -: هو الذي أنكرته الرسل، ونهت الخلق عنه.
أو أن يكون المعروف هو الذي يقبله كل عقل صحيح، ويستحسنه كل طبع سليم.
والمنكر: هو الذي ينكره كل عقل صحيح ولا يقبله، ويستقبحه كل طبع سليم، يعرف بالبداهة قبحه وحسنه.
أو يعرف أنه معروف أو منكر عند التأمل والتفكر؛ فكله يرجع إلى واحد: إلى ما ذكرنا بدءاً، لكنه يختلف فيما ذكرنا من السبب.
وقوله: { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ }.
من الأذى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أهل السفه منهم والفسق؛ فلا بد من أن يصيب الأذى من تولى ذلك، وهذا يدل أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من اللوازم: لا يسع تركه، وإن أصابه الأذى في ذلك.
وقوله: { إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ }.
قال بعضهم: إن ذلك من حزم الأمور، والحزم: من إحكام الشيء وإتقانه؛ كأنه يقول: إن ذلك من محكم الأمور ومتقنها؛ لأن الشيء إذا حزم وشدد يؤمن عن سقوطه وذهابه؛ فعلى ذلك ما ذكر.
وقال: العزم: هو القطع والثبات على شيء، تقول: عزمت على كذا وعلى أمر كذا: إذا قطع تدبيره ورأيه واضطرابه، وجعله بحيث لا يرجع ولا يتحول عنه للدنيا، أو لأمر من أمورها؛ ولكن ثبت على ما عزم وقطع؛ فهو العزم، والله أعلم.
وقوله: { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً }.
قوله: ولا { تصاعر } و{ وَلاَ تُصَعِّرْ }، بالألف وبغير الألف، كلاهما لغتان. ثم أهل التأويل أو أكثرهم يقولون: قوله: { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ }، أي: لا تعرض وجهك عن الناس؛ تعظماً وتجبراً وتكبراً، وكذلك في قوله: { وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً }: بطرا فرحا بالمعصية في الخيلاء والعظمة، مستكبراً جباراً، عامتهم يفسرونه بالإعراض للتكبر والتجبر، وكذلك يقول الحسن: إنه قال: هو الإعراض عن الناس من الكبر؛ استحقارا لهم واستخفافا بهم.
والزجاج يقول: الصعر: هو داء يأخذ البعير؛ فيلوي عنقه؛ فعلى تأويله يكون قوله: { وَلاَ تُصَعِّرْ }، أي: لا تلو عنقك عن الناس.
وأبو عوسجة يقول قريباً من ذلك؛ يقول: { وَلاَ تُصَعِّرْ }، أي: لا تتجبر، وهو أن تلوي عنقك؛ فلا تنظر إليهم كبرا.
ويقول: الصعر: هو اعوجاج في العنق؛ يقال: رجل أصعر، وبعير أصعر، وبه صعر، ويقال في الكلام: فلان صعر خده؛ إذا لوى رأسه عن الناس؛ فلم ينظر إليهم؛ كبرا منه.
وقال - كما قال الزجاج -: إن الصعر داء يأخذ البعير؛ فيلوي عنقه، وأصله: الإعراض؛ على ما ذكره أهل التأويل وأهل الأدب.
ثم هو يخرج على وجهين:
أحدهما: ما ذكر أهل التأويل من حقيقة الإعراض؛ تكبراً وتعظيماً لأنفسهم، [و] استخفافا بالناس واستحقارا لهم؛ لما لم يروا الناس أمثالا لأنفسهم؛ وعلى ذلك يخرج قوله: { وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ } على حقيقة المشي على التكبر والتجبر، على ما ذكرنا.
والثاني: ليس على حقيقة الإعراض بالوجه عنهم، ولا على حقيقة المشي بالأقدام؛ ولكنه كناية عن الامتناع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والترك لذلك، لا على التكبر والتجبر عليهم والاستخفاف بهم، ولكن على الحذر والخوف منهم.
فإن كان الامتناع والإعراض عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - فلم يعذروا في ترك ذلك؛ لما يحذرون ويخافون منهم.
وكذلك يخرج قوله: { وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } على الوجهين اللذين ذكرناهما:
أحدهما: على الأمر بقصد المشي وخفض الصوت: حقيقة المشي وحقيقة الصوت.
والثاني: على الكناية عن كيفية المعاملة وماهيتها فيما بين الناس.
فإن كان على حقيقة المشي والصوت، فكأنه يقول: أي اقصد في المشي في الناس، ولا تمش متكبرا مستخفا بهم؛ لتؤذيهم، { وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ }، أي: لا ترفع صوتك فوق أصواتهم فتؤذيهم بالصوت، ولكن لينهم بالقول.
وقال بعضهم: امش هيناً لينا، ناكس الرأس، ناظراً حيث تمشي، غير ناظر إلى ما لا يحل ولا يسع، ولا رافع صوتك على الناس فتؤذيهم؛ فيكون صوتك عندهم كصوت الحمير الذي ذكر؛ فينكرونه كما ينكر صوت الحمير.
وإن كان على الكناية عن الأحوال في المعاملة فيما بين الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، ولا تطلبوا لأنفسكم في ذلك العلو والرفعة ونفاذ القول وقبوله؛ ولكن كونوا في ذلك عادلين قاصدين غير طالبين العلو والرفعة ونفاذ القول وقبوله.
وقوله: { إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ }.
يحتمل وجهين:
أحدهما: ما ذكرنا، أي: لا ترفع صوتك على الناس فتؤذيهم كما يؤذي الحمار؛ فيكون صوتك عليهم كصوت الحمار.
أو يذكر هذا؛ لأن الحمار إنما يصيح لحاجة لنفسه وشهوته، وسائر الأشياء إذا صاحوا إنما يصيحون لحاجة أهلها؛ فيذكر أنكم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر لا تفعلوا لمنفعة أنفسكم أو لحاجتكم؛ ولكن قوموا لله في ذلك أو لما ذكرنا.
أو خصّ صوت الحمير؛ لأنه ليس من صوت إلا وفيه لذة ومعونة، غير صوت الحمير؛ فإنه ليس فيه لذة ولا منفعة.
أو ذكر؛ لما قيل: إن أوله زفير وآخره شهيق؛ فيشبه زفير أهل النار وشهيقهم.
وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ }.
قال: المختال: المتكبر البطر.
وقال بعضهم: المختال: الخداع الغدار، والفخور: يحتمل الذي يفتخر بكثرة المال؛ أو لما لا يرى أحداً شكلا لنفسه.