خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالُوۤاْ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ
١٠
قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ
١١
وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ
١٢
وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ
١٣
فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُـواْ عَذَابَ ٱلْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
١٤
-السجدة

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَقَالُوۤاْ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ }.
هذا القول منهم في الظاهر يخرج على الاستفهام والسؤال: أئنا نبعث ونخلق خلقاً جديداً؟ وعلى الإيجاب والتحقيق: إنا نبعث لا محالة؛ فلا يلحقهم بذلك لائمة ولا تعيير لو كان على ظاهر المخرج منهم، لكنهم إنما قالوا ذلك؛ استهزاء وإنكاراً للبعث؛ دليله ما قال على أثره: { بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ }؛ وإلا ظاهر ذلك القول منهم على أحد الوجهين اللذين ذكرناهما: استفهاماً، أو إيجاباً، وهو ما أخبر عن المنافقين؛ حيث قال:
{ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ } [المنافقون: 1]: هذا القول منهم حق وصدق، لكنهم لما أضمروا خلاف ذلك لم ينفع ذلك لهم؛ حيث قال: { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [المنافقون: 1]؛ فعلى ذلك القول منهم في الظاهر ما ذكرنا، لكنهم إنما قالوا ذلك؛ استهزاء وإنكاراً للبعث وجحوداً.
وقوله: { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ }.
هذا الحرف في الظاهر ليس هو بصلة للأول؛ لأنه إنما يقال عن سؤال سابق في توفي الخلق وقبض أرواحهم: أنه من؟ فيقال عند ذلك: يتوفاكم ذلك ملك الموت.
وجائز أن يكون على الصلة بالأول؛ لأنهم أنكروا البعث وإحياءه إياهم من التراب؛ لما لا يرون لله القدرة على ذلك؛ فيذكر أنه مكن وأقدر عبدا من عبيده على قبض أرواح جميع الخلائق من المشرق إلى المغرب، من غير أن يعلمه أحد أن كيف يقبض؟ وكيف يمكن له ذلك؟ فيخبر أن من قدر على هذا يقدر على إحياء الخلق بعدما صاروا تراباً ورماداً بل قادر على ما شاء، كيف شاء، متى شاء، لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء.
ثم قوله: { يَتَوَفَّاكُم } يحتمل من توفى العدد: يجعلهم وفاء لعدِّها؛ كقوله:
{ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً } [مريم: 84].
وجائز أن يكون التوفي من الاستيفاء ووفاء التمام، أي: يستوفى الروح كله؛ حتى لا يبقى في الجسد منه شيء.
ثم في الآية دلالة خلق أفعال العباد؛ لأنه أخبر أن ملك الموت يتوفاهم ويميتهم، وقد أخبر أنه خلق الموت والحياة؛ فدل أن جميع ما يفعل العباد هو خلق.
وقال القتبي: { ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ }، أي: بطلنا وصرنا تراباً.
وقال غيره: هلكنا.
وقال أبو عوسجة: { ضَلَلْنَا } بالضاد: إذا صرنا في القبور وبلينا فيها. ويقال: ضللنا بالكسر من الضلال، ويقال: ضللت شيء كذا وكذا: إذا لم تدر أين ذهب؟ ويقال: ضللنا - بالضاد -: وهو من ضل اللحم، أي: أنتن.
وقوله: { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ }.
يقول - والله أعلم -: لو ترى - يا محمد - ما نزل بالمجرمين يومئذ من العذاب، وما هم فيه من الحال الشديدة والهوان؛ بالتكذيب الذي كان منهم وإساءتهم إليك - لرحمتهم ولم تتكلف مكافأة إساءتهم وتكذيبهم؛ لعظم ما نزل [بهم] من العذاب والشدائد.
{ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ }؛ ندامة وحسرة وحزناً على ما كان منهم، على مثل هذا يخرج التأويل؛ وإلا ليس في ظاهر الآية جواب قوله: { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ }؛ فجوابه ما ذكرنا، أو نحوه، والله أعلم.
وقوله: { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا }.
هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: قوله: { أَبْصَرْنَا }: بالحجج والبراهين عياناً بعدما كنا أبصرناها في الأولى بالدلالة، { وَسَمِعْنَا }، أي: قبلنا وأجبنا؛ { فَٱرْجِعْنَا } إلى الأولى أو المحنة، { نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ }.
والثاني: ربنا أبصرنا صدق الرسل، وأيقنا بما وعدنا في الدنيا وسمعنا سماع إيقان وعيان، فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون، والله أعلم.
وقوله: { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا }.
أي: لو شئنا لآتينا كل نفس ما عندنا من اللطف: الذي لو كان منهم الاختيار لذلك لاهتدوا، لكن لم نعطهم ذلك اللطف؛ لما لم نعلم منهم كون ذلك الاختيار.
وعلى قول المعتزلة: شاء أن يعطي كل نفس ما به اهتدت، وقد أعطاها لكنها لم تهتد؛ فقولهم مخالف للآية؛ لأنهم يقولون: شاء أن تهتدي كل نفس، وآتى كل نفس ما به تهتدي، لكنها لم تهتد، ولكنهم يقولون: المشيئة - هاهنا - مشيئة الجبر والقسر.
فيقال لهم: زعمتم أنه قد شاء أن يهتدوا، وآتاهم ما به يهتدون فلم يهتدوا ولم تنفذ مشيئته؛ فأنى يقدر ويملك أن يشاء مشيئة تقهرهم وتجبرهم حتى يهتدوا؟! وكيف يؤمن على ذلك؟! فذلك بعيد على قولكم؛ فيقال لهم - أيضاً -: إن الإيمان والتوحيد في حال القهر والقسر لا يكون إيمانا؛ لأن القهر والجبر يرفع الفعل عن فاعله ويحوله عنه، فكيف تأويلكم على هذا؟!
وقوله: { وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ }.
أي: لكن وجب القول مني بما علمت أنه يكون منهم ويحدث ما يستوجبون به جهنم، وهو ما علم أنهم يختارون الردّ والتكذيب.
وقوله: { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ }.
في هذه الآية دلالة: أنه عصم ملائكته عن عمد ما يستوجبون به جنهم بعد قوله:
{ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيۤ إِلَـٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } [الأنبياء: 29]: خص الإنسان والجن فيما يملأ بهما جهنم.
فإن قيل: إنه قال في آية أخرى:
{ وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلَٰئِكَةً } [المدثر: 31].
قيل: هم أصحاب النار في تعذيب غيرهم، وليسوا هم بأصحابها فيما ينتهي إليهم العذاب، ولله أن يجعل ويمتحن من يشاء على تعذيب من شاء، والله أعلم.
وقوله: { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَآ }.
النسيان الذي ذكر منهم ليس هو نسيان غفلة وسهو؛ لأنه لا كلفة تلزم في حال السهو والغفلة. ثم هو يخرج على وجوه:
أحدها: تضييع وترك تصديق الرسل بما أوعدوهم به، وتكذيبهم ورد الحجج والآيات لذلك.
والثاني: { نَسِيتُمْ }، أي: جعلتم ذلك كالمنسي المتروك الذي لا يكترث إليه.
والثالث: { إِنَّا نَسِينَاكُمْ }، أي: نجزيكم جزاء نسيانكم وترككم، أي: يجعلكم كالمنسي عن رحمته وفضله لا يكترث ولا يعبأ بكم؛ كما جعلتم أنتم آياته وحججه وما دعاكم إليه كالمنسي المتروك الذي لا يكترث إليه.
والرابع: وتضييعكم، ويجوز تسمية الجزاء باسم أصله وأوله، وإن لم يكن الثاني في الحقيقة سيئة ولا اعتداء؛ فعلى ذلك الأول، والله أعلم.
وقوله: { وَذُوقُـواْ عَذَابَ ٱلْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }.
أي: ذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون وتعتقدون المذهب للخلود والأبد؛ لأن كل ذي مذهب ودين إنما يعتقد المذهب ويختاره للأبد؛ فعلى ذلك جعل تعذيبهم في النار للأبد، وأما من يرتكب المآثم والزلات من المؤمنين، فإنما يرتكب عند شدة الحاجة وغلبة الشهوة في وقت ارتكابه لا للأبد؛ لذلك افترقا.