خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً
٢٨
وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً
٢٩
يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً
٣٠
وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً
٣١
يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
٣٢
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ وَأَقِمْنَ ٱلصَّلاَةَ وَآتِينَ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً
٣٣
وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْـمَةِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً
٣٤
-الأحزاب

تأويلات أهل السنة

قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا }.
قال بعض أهل التأويل: إنهن جلسن، فجعلن يخترن الأزواج في حياة رسول الله، فنزلت الآية توبيخاً لهن وتعييراً على ذلك.
لكن هذا بعيد محال: لا يحتمل أن يكون أزواجه يخترن الأزواج، وهن تحته في حياته؛ فذلك سوء الظن بهن.
وقال بعضهم: إنهن طلبن النفقة منه؛ فنزل ما ذكر.
وقيل: إنهن تحدثن بشيء من الدنيا وركنَّ إليها؛ فنزل ما ذكر عتاباً لهن وتعييراً، ونحو ذلك قد قالوا.
وجائز أن يكون الله يمتحن رسوله وأزواجه بالتخيير واختيار الفراق منه - ابتداء امتحان من غير أن يكون منهن شيء مما ذكروا ولا سبب؛ وعلى ذلك روي في الخبر عن عائشة - رضي الله عنها - قالت:
"لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه؛ بدأ بي فقال: يا عائشة، إني ذاكر لك أمراً، فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك، قالت: وقد علم الله أن أبويّ لم يكونا ليأمراني بفراقه، قالت: ثم قال: إن الله يقول: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا... } إلى قوله: { أَجْراً عَظِيماً }؛ فقلت أفي هذا أستأمر أبويّ؟! فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. وفعل سائر أزواجه مثل ما فعلت" .
وفي بعض الأخبار أنها قالت: "بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة" ؛ فدل قولها: "لما أمر رسول الله بتخيير أزواجه": أن ذلك من الله ابتداء امتحان، من غير أن كان منهن ما ذكروا من الركون إلى الدنيا والتحدث بما ذكر.
وفيه وجوه من الدلالة:
أحدها: إباحة طلب الدنيا وزينتها من وجه يحل ويجمل، حيث قال: { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً }؛ لأنه لو لم يكن يحل ذلك لهن، وكن منهيات عن ذلك، لكان رسول الله لا يفارقهن؛ حتى لا يخترن المنهي من الأمر، وقد كان يملك حبسهن في ملكه؛ حتى لا يخترن ما ذكره من المنهي؛ دل ذلك - والله أعلم - أن ذلك كان على وجه يحل ويجمل.
وفيه أن رسول الله لم يكن عنده ما ذكر من الدنيا والزينة وما يستمتع بها؛ إذ لو كان عنده ذلك، لم يحتمل أن يخيرهن بالفراق منه لما ذكر وعنده ذلك، ولا هن يخترن الفراق منه وعنده ذلك؛ دل أنه لم يكن عنده ما ذكر، ويبطل قول من يقول: إنه كان عنده الدنيا ويفضل الغناء على الفقر بذلك.
وفيه دلالة: أن أزواجه كن يحللن لغيره في حياته إذا فارقنه؛ لأنهن إذا لم يحللن لغيره لم يكن لقوله: { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } معنى؛ لأنهن إذا لم يحللن لغيره، وعندهن ما ذكر من الدنيا، يحملهن ذلك على الفجور؛ فدل أنهن كن يحللن لغيره في حياته إذا فارقهن، وإنما لم يحللن لغيره إذا مات؛ فيكون له حكم الحياة كأنه حيّ في حق أزواجه.
ويخرج قوله: { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }: في الآخرة لا تحل لغيره؛ فتكون زوجته في الجنة.
ثمّ اختلف الصحابة - رضي الله عنهم - فيمن خير امرأته فاختارت:
قال بعضهم: إذا خيرها فهو تطليقة رجعية، وإذا اختارت فهي بائنة، وهو قول عليّ.
وقال بعضهم: إذا اختارت نفسها فهي ثلاث، وإذا اختارت زوجها فلا شيء.
وقال بعضهم: إذا اختارت زوجها، فهي تطليقة رجعية، وإن اختارت نفسها فهي تطليقة بائنة.
وعندنا: أن التخيير نفسه لا يكون طلاقاً، فإن اختارت زوجها، لا شيء، وإذا اختارت نفسها؛ فهي بائن.
أما قولنا: إذا اختارت زوجها لا شيء؛ لما روي عن عائشة قالت:
"خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه" فلم يعد ذلك طلاقا.
وأما قوله: إذا اختارت نفسها فيكون بائنا؛ لأنه خيرها بين أن تختار نفسها لنفسها وبين أن تختار نفسها لزوجها؛ فإن اختارت نفسها [لنفسها] فهي بائن؛ لأنا لو جعلناه رجعيّاً لم يكن اختيارها نفسها لنفسها، ولكن لزوجها؛ إذ لزوجها أن يراجعها شاءت أو أبت، وكان التخيير بين النفسين، على ما ذكرنا.
وأما قول من يقول بأن نفس التخيير طلاق فهو باطل؛ لما ذكرنا من تخيير رسول الله أزواجه؛ فلم يكن ذلك طلاقاً.
وأما من قال بالثلاث إذا اختارت نفسها فهو كذلك عندنا إذا ذكر في التخيير الثلاث.
وأما قول من قال بالرجعي، فهو إذا صرح بالتطليق؛ فهو كذلك، والله أعلم.
وقوله: { إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا }: الإرادة هاهنا: إرادة الاختيار والإيثار حياة الدنيا وزينتها، لا ميل القلب والرضاء به، وكذلك قوله: { وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ }.
هو إرادة الاختيار والإيثار، وهو ما يراد ويختار فعلا، لا ميل القلب والرضاء به؛ لأن كل ممكن فيه الشهوة مجعول فيه هذه الحاجة يميل قلبه، ويركن إلى ما يتمتع بحياة الدنيا ولذاتها، ويرضاه ويحبه؛ فدل أنه أراد إرادة الفعل والاختيار لا إرادة القلب ورضاه.
ثم فيه ما ذكرنا من حلهن لغير رسول الله إذا اخترن الفراق منه؛ لما ذكر أنه يمتعهن ومعلوم أنهن لا يكتسبن بأنفسهن حتى يتمتعن بذلك، ولم يكن عندهن ما يستمتعن؛ فدل أنه إنما يمتعهن بأموال أزواجهن؛ فدل على حلهن لغيره في حياته إذا فارقنه والله أعلم.
وقوله: { وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ }.
معلوم أنهن إذا اخترن الحياة الدنيا وزينتها لا يحتمل ألا يردن الله، لكن إضافة ذلك إلى الله لاختيارهن المقام عند رسوله؛ فيدل ذلك أن كل ما أضيف إلى الله ورسوله كان المراد به رسوله؛ نحو ما قال:
{ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } [الأنفال: 41]، وقوله: { قُلِ ٱلأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ } [الأنفال: 1]، وأمثال ذلك.
ثم الزهد في الدنيا يكون بوجهين:
أحدهما: ترك المكاسب التي توسع الدنيا، ويكون بها السعة في الدنيا، ويؤثرها لغيرها على نفسه، واختيار حال الضيق من غير تحريم ما أحل وطيب له.
والثاني: بذل ما عنده لغيره وإيثاره على نفسه وجعله أولى به منه، لا في تحريم المحللات والطيبات.
وقوله: { فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً }.
يحتمل قوله: { أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً }، أي: إذا اخترن المقام عند رسول الله يصرن محسنات بذلك؛ فأعدّ لهن ما ذكر؛ فيكون ذلك الاختيار منهن: الإحسان؛ فاستوجبن ما ذكر: ويحتمل: { وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ }، ودمتن على ذلك واكتسبتن الأعمال الصالحات والإحسان حتى ختمتن على ذلك، فأعد لكن ذلك لا بنفس اختيار مقامكن معه، والله أعلم.
وقوله: { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ }.
قال بعضهم: الفاحشة المبينة هي النشوز البيّن.
وقال بعضهم: لا، بل الفاحشة المبينة هي الزنا الظاهر، ويقال: مبينة بشهادة أربعة عدول، ومبينة بالكسر، أي: مبينة ظاهرة.
{ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ }: الجلد والرجم في الدنيا، ولكن كيف يعرف ضعف الرجم في الدنيا من لا يعرف حدّ رجم واحد إذا كان ذلك في عذاب الدنيا، وإن كان ذلك في عذاب الآخرة؛ فكيف ذكر فاحشة مبينة، وذلك عند الله ظاهر بين؟
وقال بعضهم: { يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } في الدنيا والآخرة: أما في الدنيا فَمِثْلَيْ حدود النساء، وأما في الآخرة فضعفي ما يعذب سائر النساء، فجائز أن يكون هذا صلة قوله: { إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } إذا اخترن الدنيا؛ فمتى أتين بفاحشة ضوعف لهن من العذاب ما ذكر وإذا اخترن المقام عند رسول الله والدار الآخرة آتاهن الأجر مرتين.
أو أن يكون إذا اخترن المقام عند رسول الله والدار الآخرة، ثم أتين بفاحشة ضوعف لهن ما ذكر من العذاب؛ لئلا يحسبن أنهن إذا اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، ثم ارتكبن ما ذكر لم يعاقبن، فذكر: أنهن إذا اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، ثم ارتكبن ما ذكر عوقبن ضعف ما عوقب به غيرهن، وإذا أطعن الله ورسوله، ضوعف لهن الأجر مرتين، والله أعلم.
والأشبه أن يكون ما ذكر من ضعف العذاب في الآخرة على ما يقول بعض أهل التأويل؛ ألا ترى أنه ذكر لهن الأجر كفلين، ومعلوم أن ذلك في الآخرة؛ فعلى ذلك العذاب.
وأما قوله: { مُّبَيِّنَةٍ }: عند الخلق، وإن كانت عند الله مبينة ظاهرة، وذلك جائز في اللغة.
وقوله: { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً }.
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أي: عذابهن على الله يسيراً هيناً لا يثقل عليه ولا يشتد لمكان رسول الله؛ بل على الله يسير هين.
والثاني: أن إتيانكن الفاحشة ومعصيتكن على الله يسير، أي: لا يلحقه ضرر ولا تبعة، ليس كمعصية خواص الملك له في الدنيا: يلحقه الضرر والذل إذا عصوه وأعرضوا عنه، فأمّا الله - سبحانه - عزيز بذاته غني لا يضره عصيان عبده؛ بل ضرّوا أنفسهم.
وقوله: { وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ }، أي: من يطع منكن لله ورسوله، { وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ }.
في الآية دلالة بيان فضيلة أزواج رسول الله؛ لمكان رسول الله وعظيم قدره، حيث خاطبهن من بين غيرهن من النساء كما خاطب مريم بقوله:
{ يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسْجُدِي وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ } [آل عمران: 43].
ثم يحتج الشافعي بقوله: { نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } لتأويله في قوله: الطلاق مرتان بقولة، يقول: قوله:
{ ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ } [البقرة: 229] أي: تطليقتان في دفعة واحدة من غير إحداث التطليق والفعل فيما بينهما؛ ويستدل على ذلك بقوله: { نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ }، أي: أجرين من غير إحداث فعل فيما بينهما ولكن بفعل واحد، وقوله: { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } [الحديد: 28]، أي: أجرين.
لكن عندنا يجوز الإيتاء بمعنى الإيجاب، أي: يوجب لها الأجر مرتين؛ نحو قوله:
{ فَآتَاهُمُ ٱللَّهُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ ٱلآخِرَةِ } [آل عمران: 148]، أي: أوجب لهم ثواب الدنيا وثواب الآخرة؛ فعلى ذلك ما ذكر ونحوه كثير، والله أعلم.
وقوله: { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ }.
قال بعض أهل الأدب: (أحد) أجمع في الكلام من (واحد)؛ لأنه يرجع إلى واحد وإلى جماعة، وقوله: (واحد) إنما يرجع إلى الفرد خاصّة، وإنما يخاطب به الواحد.
وقوله: { إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ }.
يحتمل قوله: { إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ } اختيار الدنيا وزينتها، واتقيتن أيضاً نقض اختيار رسول الله والدار الآخرة.
وجائز أن يكون على الابتداء: إن اتقيتن مخالفة الله ومخالفة رسوله.
وقوله: { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ }؛ فإنكن معشر أزواج رسول الله تنظرن إلى الوحي، وتصحبن رسول الله بالليل والنهار، وترين أفعاله وصنيعه؛ فإنكن أحق الناس بالتقوى وترك الميل إلى الدنيا والركون إليها ممن لا ينظر إليه ولا يصحبه إلا في الأوقات مرة.
أو أن يكون قوله: { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } في الفضيلة على غيرهن من النساء؛ لأنهن يكن أزواج رسول الله في الآخرة، ويرتفعن إلى درجات رسول الله ويكن معه؛ فإنكن لستن كغيركن من النساء في الفضيلة والدرجة إن اتقيتن ما ذكرنا: من مخالفة رسول الله واختيار الحياة الدنيا وزينتها، والميل إليها والركون فيها، والله أعلم.
وقوله: { فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ }، قيل: فلا تلنّ في القول.
{ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ }:
قال بعضهم: أي: فجور وزناً.
{ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً }، أي: خشناً شديداً.
وقال بعضهم: { فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ }، أي: نفاق، وهذا أولى؛ لأن أصحاب رسول الله لا يحتمل أن يكون أحد منهم يطمع في أزواج رسول الله نكاحاً بحال أو رغبة فيهن، بعد علمنا منهم أنهم إذا علموا من رسول الله رغبة في أزواجهم طلقوهن؛ ليتزوجهن رسول الله؛ فلا يحتمل بعدما عرف منهم هذا أن يطمع أحد منهم ويرغب في أزواجه نكاحاً، فضلا أن يرغب فجورا، ولكن إن كان ذلك فهو من أهل النفاق.
وجائز أن يرغبوا فيهن نكاحاً؛ لأنهن أعظم الناس نسباً وحسبا، وأكرمهم جمالا وحسنا؛ فجائز وقوع الرغبة فيهن من أهل النفاق؛ لما ذكرنا، وأما من أهل الإيمان فلا يحتمل ذلك؛ لما ذكرنا، ويدل على ذلك قوله: { وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً }؛ دل هذا أنهن بحيث يرغب فيهن ويطمع.
وقال بعضهم: { فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ }، يقول: فلا ترمين بقول يقارب الفاحشة، فيطمع الذي في قلبه مرض.
{ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً }.
يعني: قولا حسنا يعرف، لا يقارب الفاحشة.
لكن هذا بعيد، وأصله: { فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ } أي: لا تقلن قولا يعرف به الرغبة في الرجال، والميل إلى الدنيا، والركون فيها { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً }: ما يكون فيه تغيير المنكر والأمر بالمعروف، والله أعلم.
وقوله: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ }.
قد قرئ بكسر القاف وفتحها، فمن قرأ بالكسر فهو من الوقار، ومن قرأ بالفتح: { وَقَرْنَ } جعله من القرار والسكون فيها.
وقوله: { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ }.
قال بعضهم: تبرج الجاهلية الأولى قبل أن يبعث رسول الله؛ كان يخرج نساؤهم متبرجات بزينة مظهرات، فأمر الله أزواج رسوله بالستر والحجاب عليهن، وإدناء الجلباب عليهن، وهو ما قال:
{ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ } [الأحزاب: 59].
وقال بعضهم: { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ } قال: الجاهلية التي ولد فيها إبراهيم، أعطوا أموالا كثيرة، وكن يتبرجن في ذلك الزمان تبرجاً شديداً؛ فأمر أزواجه بالعفة والترك لذلك، فلسنا ندري ما أراد بالجاهلية، ومن أراد بذلك: الذين كانوا بقرب خروج رسول الله وبعثه، أو الذين كانوا من قبل في الأمم السالفة؟
والتبرج كأنه هو الخروج بالزينة على إظهار لها؛ أعني: إظهار الزينة.
قال القتبي: { فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ } أي: لا تلنّ به.
وقوله: { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } أي: صحيحاً.
وقوله: { وقِرْنَ في بيوتكن } بالكسر من الوقار، ويقال: وقر في منزله يقر وقوراً، و{ وَقَرْنَ } بفتح القاف من القرار، وكأنه من: قر يقر أراد أقررن في بيوتكن، فحذف الراء الأولى وحول فتحها إلى القاف، كما يقال: ظلن في موضع كذا، من اضللن؛ قال الله - تعالى -:
{ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } [الواقعة: 65] ولم نسمع قَرَّ يَقِرُّ إلا في موضع قرة العين، فأمّا في الاستقرار فإنما هو قَرَّ يَقَرُّ.
وقوله: { وَأَقِمْنَ ٱلصَّلاَةَ وَآتِينَ ٱلزَّكَـاةَ } يحتمل أن يكون الأمر لهن بإيتاء الزكاة من حليهن؛ لأنهن لا يملكن شيئاً سوى ذلك ما يجب في مثله الزكاة؛ ألا ترى أنه وعد لهنّ التمتيع والسراح الجميل إذا أردن الحياة الدنيا وزينتها، فلو كان عندهن شيء من فضول الأموال كن ينفقن ويتمتعن، وإن لم يكن عند رسول الله ما يمتعهن ولا يطلبن ذلك من غيره، فدل ذلك أنهن لا يملكن شيئاً من ذلك، فيجوز أن يستدل بظاهر هذه الآية في إيجاب الزكاة في الحلي، وكذلك روي عن ابن عباس، رضي الله عنه.
وقوله: { وَأَقِمْنَ ٱلصَّلاَةَ وَآتِينَ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } أمرهن بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والطاعة لله ورسوله؛ لئلا يغتررن بما اخترن المقام مع رسول الله وإيثارهن إياه على أن ذلك كاف لهن في الآخرة ولا شيء عليهن سوى ذلك من العبادات؛ بل أخبر أنكنّ وإن اخترتن المقام معه وآثرتن إياه على الدنيا وزينتها لا يغنيكن ذلك عما ذكر، والله أعلم.
وقوله: { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } قال بعضهم: إن هذه الآية مقطوعة عن الأولى؛ لأن الأولى في أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه في أهل بيته، وهو قول الروافض، ويستدلون بقطعها عن الأولى بوجوه:
أحدها: ما روي عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت:
"عنى بذلك عليّاً وفاطمة والحسن والحسين، وقالت: لما نزلت هذه الآية، أخذ النبي ثوباً، فجعله على هؤلاء، ثم تلا الآية: { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ } فقالت أم سلمة من جانب البيت: يا رسول الله، [ألست] من أهل البيت؟ قال: بلى إن شاء الله" .
وعن الحسن بن علي أنه خطب الناس بالكوفة وهو يقول: يا أهل الكوفة، اتقوا الله فينا فإنا أمراؤكم، وإنا ضيفانكم، ونحن أهل البيت الذي قال الله - تعالى -: { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ }.
ويقولون - أيضاً -: إن الآية الأولى ذكرها بالتأنيث حيث قال: { وَأَقِمْنَ ٱلصَّلاَةَ وَآتِينَ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } وهذه ذكرها بالتذكير دل أنها مقطوعة عن الأولى.
ويقولون - أيضاً -: إنه وعد أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيراً وعداً مطلقاً غير مقيد، وذلك الرجس الذي ذكر مما يحتمل أزواجه ممكن ذلك فيهن غير ممكن في أهل بيته ومن ذكره.
ويقولون - أيضاً - ما روي عنه أنه قال:
"تركت فيكم بعدي الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما ليردان بكم الحوض" أو كلام نحو هذا، ففسر العترة بأهل البيت، ونحو ذلك من الوجوه:
وأما عندنا فهي غير مقطوعة من الأولى: إما أن يكون على الاشتراك بينهن وبين من ذكروا من أولاده؛ إذ اسم أهل البيت مما يجمع ذلك كله في العرف.
أو تكون الآية لهن على الانفراد، فأمّا أن يخرج أزواجه عن أهل بيته والبيت يجمعهم، فلا يحتمل ذلك.
وأما قولهم: إنه ذكر هذه الآية بالتذكير والأولى بالتأنيث فعند الاختلاط كذلك يذكر باسم التذكير.
وأمّا قولهم: إن وعده لهم منه خرج مطلقاً غير مقيد، فكذلك كن أزواج رسول الله لم يأت منهن ما يجوز أن ينسبن إلى الرجس والقذر إلا فيما غلبن على رأيهن وتدبيرهن بالحيل، فأخرجن فيما أخرجن.
وأما قولهم في الثقلين اللذين تركهما فينا بعده: الكتاب والعترة، فعترته: سنته؛ على ما قيل: وقوله: "أهل بيتي" كأنه قال: تركت الثقلين كتاب الله وسنتي بأهل بيتي، وذلك جائز في اللغة.
وأما ما روي عن أم سلمة فإنه في الخبر بيان على أن أزواجه دخلن حيث قالت له أم سلمة:
"ألست من أهل البيت؟ قال: بلى إن شاء الله" .
وفي هذه الآية دلالة نقض قول المعتزلة من وجوه:
أحدها: ما يقولون: إن الله قد أراد أن يطهر الخلق كلهم: الكافر والمسلم، وأراد أن يذهب الرجس عنهم جميعاً، لكن الكافر حيث أراد ألا يطهر نفسه ولا يذهب عنه الرجس لم يطهر، فلو كان على ما يقولون لم يكن لتخصيص هؤلاء بالتطهر ودفع الرجس عنهم فائدة ولا منة - دل أنما يطهر من علم منه اختيار الطهارة وترك الرجس، وأما من علم منه اختيار الرجس فلا يحتمل أن يذهب عنه الرجس، أو يريد منه غير ما يعلم أنه يختار، وأن التطهير لمن يكون إنما يكون بالله، لا بما تقوله المعتزلة؛ حيث قال: { وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً }؛ إذ على قولهم لا يملك هو تطهير من أراد تطهيره؛ إذ لم يبق عنده ما يطهرهم، فذلك كله ينقض عليهم أقوالهم ومذهبهم.
وقوله: { وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْـمَةِ } هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: قوله: { وَٱذْكُـرْنَ } أي: اتلون ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة، وجعل بيوتكن موضعاً لنزول الوحي.
والثاني: اذكرن على حقيقة الذكر؛ أي: اذكرن ما منَّ الله عليكن، وجعلكن من أهل بيت يتلى فيه آيات الله والحكمة، وجعل بيوتكن موضعاً لنزول الوحي فيها، وخصكن بذلك، ما لم يجعل في بيت أحد ذلك، يذكرهن عظيم ما أنعم ومنّ عليهن؛ ليتأدّى به شكره؛ ليعرفن منن الله ونعمه عليهن.
وقوله: { مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ } يحتمل آيات القرآن.
ويحتمل حججه وبراهينه.
والحكمة: قالت الفلاسفة: الحكيم: هو الذي يجمع العلم والعمل جميعاً.
وقال بعضهم: الحكيم: المصيب، والحكمة: هي الإصابة.
وقيل: هي وضع الشيء موضعه، وهي نقيض السفة.
وأصل الحكمة في الحقيقة كأنه هي الإصابة في كل شيء، والحكيم: هو الذي لا يلحقه الخطأ في الحكم ولا الغلط.
وقال بعضهم: الحكمة - هاهنا - هي السنة.
وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } اللطيف: هو البارّ؛ يقال: فلان لطيف: إذا كان بارّاً.
والثاني: اللطيف: هو الذي يستخرج الأشياء الخفية الكامنة مما لا يتوهمها العقول استخراجها من مثلها.